|
إِشْكاليَّة الِاسْتِقْوَاء بِالْخَارِجِ وَمَخاطِرها عَلَى الدَّوْلَةِ الوَطَنيَّة و القَوْمِيَّة
حسن خليل غريب
الحوار المتمدن-العدد: 8240 - 2025 / 2 / 1 - 17:22
المحور:
العمل المشترك بين القوى اليسارية والعلمانية والديمقرطية
(التَّجْرِبَة اللُبْنانيَّة أُنْموذَجاً) 1-لماذا البحث عن الإشكالية في الوقت الراهن؟ 2-تجربة استقواء الطائفية السياسية بالخارج. 3- التحالفات بين بعض الحركات الشيعية في لبنان مع النظامين السوري والإيراني. 4-ما يفرِّق بين حركة أمل وحزب الله أكثر بكثير مما يجمع بينهما. 5-تاريخية أسباب لجوء التنظيمين إلى الاستقواء بالخارج. 6-الاقتتال الطائفي "الشيعي – الشيعي " حول احتواء واحتكار قرار الطائفــة. 7-كان الخضوع للخارج ثمناً لحصول بعض الاحزاب الطائفية على قوة التأثير في لبنان. 8- الخلاصة والاستنتاج.
لماذا البحث عن الإشكالية في الوقت الراهن؟ تاريخ الشعوب المتطورة هو سلسلة مترابطة من التجارب، عليها أن تقوم بدراستها للاستفادة من معرفة ثغراتها بقصد تقويمها، أو الاستفادة من إيجابياتها للبناء عليها، في الوقت الذي تتفاعل به مع تطورات العالم والانفتاح على المستقبل لتحقق التقدم المأمول. ولأن اللبنانيين مرُّوا بتجربة الاستقواء بالخارج في أكثر من محطة في تاريخهم القديم والحديث، ولكنهم لم يتعرَّضوا لها بالنقد، ليتعلموا منها. لذلك، أصبح من واجبنا أن نقوم بهذه المهمة ليس لنكء الجراح، بل للإضاءة على تجربة جرَّت على اللبانيين المآسي؛ ولعلَّ محاولتنا تفي بالغرض.
عرفت الحياة السياسية في لبنان – بعد الانتداب الفرنسي- إرباكاً شديداً أثَّر بشكل سلبي على بناء دولة حديثة، تعتمد المعايير الدولية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، كآخر إمبراطورية دينية في التاريخ الحديث. على معايير الأعراف التي وضعتها تجربة المتصرفية في العام 1861، والتي كان من أهمها حماية روسيا للأرثوذكس، وبريطانيا للدروز والبروتستانت، وفرنسا للموارنة، ابتدأت حالة الإرباك بمحاولات استفادة الموارنة من سيطرة فرنسا المباشرة على لبنان للحصول على امتيازات في المؤسسات الدستورية الرسمية. وعلى الرغم من أن الانتداب الفرنسي أخذ ينأى بنفسه عن الدخول في متاهات التصنيفات الطائفية لأنه كان يريد لبنان بكامله وليس طائفة واحدة منه، كرَّست الطبقة السياسية اللبنانية أعرافاً جديداً في أول تجربة للحكم بعد إعلان الاستقلال في الثاني والعشرين من تشرين الثاني من العام 1943؛ وذلك بتقاسم المؤسسات الرأسية الدستورية على قواعد محاصصات فيما بينهم. تلك التجربة كانت أول محاولة لاستقواء المارونية السياسية بالخارج، ولكن نتائجها كانت مخيِّبة لآمالهم بعد أن خضعت للتجربة في الحرب الأهلية اللبنانية في العام 1975. حينذاك لم تجد أية حماية لها -فرنسية أكانت أم غير فرنسية- لأن القوى الغربية التي كانت تراهن عليها المارونية السياسية حصرت اهتمامها بكل ما يضمن مصالح تلك القوى الاجنبية، وليس مصالح طائفة لبنانية من هنا، أو طائفة من هناك. وهذا يؤكِّد أن قوى الإسناد من الخارج لا تفرض حماية على أية شريحة في لبنان سوى بالقدر الذي تخدم مصالحها الخاصة. لم تتعلَّم الطوائف اللبنانية الأخرى من الدرس، بل علقت بعض قوى الطائفة الشيعية بالفخ، عندما التحقت حركة أمل "الشيعية" في مصيدة الاستقواء بالنظام السوري في أواخر السبعينيات من القرن العشرين، ومن بعده -متمثِّلة بحزب الله- وقع الحزب في مصيدة وسيطرة النظام الإيراني منذ بداية الثمانينيات من القرن العشرين. وبهذا ابتدأت المرحلة الثانية من مراحل الاستقواء بالخارج استمرت حتى العام 2024، وفيها كانت تجربة الاستقواء بالخارج في مرحلتها الثانية أشدَّ مرارة على جزء من الاحزاب التي ادَّعت احتكار تمثيل الطائفة الشيعية، خاصة بعد أن تركهم النظام الإيراني وتخلى عنهم من جهة، وسقط النظام السوري من جهة أخرى. ولأن دراسة تجربة الطائفة المارونية بالاستقواء بالخارج، بما فيها من صراعات دموية حصلت بين تياراتها السياسية، أخذت مساحات واسعة من الدراسات. ولأن الطائفية السياسية السنية بعد سقوط الخلافة العثمانية لم تلجأ إلى الاستقواء بأية دولة من خارج الوطن العربي. لذا سنلقي الضوء على التجارب الاخرى. لقد كان عامل الاستقواء بالخارج مشكلة مزمنة، استفاد منها أمراء الطوائف لضمان مصالح نخبهم الحاكمة حصرياً وليس المصالح الحقيقية للقاعدة الشعبية التي يدّعون تمثيلها، مستغلين كون حركاتهم مدعومة بتأييد شعبي شبه عارم نتيجة لمخاطبتها في الغالب الوتر العاطفي المعهود للجماهير، والتي بسبب استغلالها لتلك القواعد لمصلحتها، عمَّقت تلك النخب ثقافة الاستقواء بالخارج في ثقافة اللبنانيين الشعبية. لقد حصد اللبنانيون الويلات من تلك الثقافة عبر تاريخهم الطويل، والتي كانت تُنتج حروباً ودماراً كلما خّيِّل لتلك النخب أن نفوذها على ابناء طائفتها الدينية أو العرقية، يتعرَّض للخطر، حينذاك تلجأ إلى التفتيش عن جهة خارجية تستقوي بها. وتمهيداً لهذا المقال، ولربط النتائج بالأسباب، نختصر أهم تجربتين حصلتا في لبنان، وهما: • الأولى: التجربة المارونية ابتدأت منذ الفاتح من الانتداب، وانتهت بعد العام 1982. وكانت خلاصتها أن الغرب الأوروبي والأميركي، لم يساعدا المارونية السياسية على حماية نفسها عندما تتعرَّض للخطر. • الثانية: تجربة الاحزاب التي ادعت احتكار تمثيل الطائفة الشيعية ابتدأت حيث انتهت تجربة المارونية السياسية، ولم تدرسها وتتعلَّم منها. لهذا فقد لجأت إلى الاستقواء بحماية سورية وإيرانية في كل مراحلها وصولاً إلى العام 2024، ولما اشتدَّ الضغط العسكري والسياسي عليها، غابت الحمايتان معاً. وباختصار شديد، سقط الاستقواء بالسوري بسقوط النظام السياسي من جهة، وغياب الحماية الإيرانية التي كانت أصلاً حماية لفظية من جهة أخرى.
لكل ذلك، سنولي اهتمامنا لدراسة التجربة الثانية اعلاه في هذا المقال.
تجربة استقواء الاحزاب التي ادعت احتكار تمثيل الطائفة الشيعية السياسية بالخارج: لم يكن عصر استقواء بعض الاحزاب التي ادعت احتكار تمثيل الشيعة في لبنان مع الخارج هو الأول في تاريخ لبنان الحديث، بل سبقه عصر الموارنة كما ذكرنا. ويروي البعض أهزوجة شعبية تدلُّ على ترسيخ الثقافة الشعبية بأهمية عامل الاستقواء بالخارج، حيث تقول الأهزوجة ما يلي: يم الفستان الأحمر كشكش مبروم صار الحكم فرنساوي طقُّوا يا روم والقصد من الاستشهاد بتلك الأهزوجة هو أن الخلافات الطائفية في لبنان لم تكن ذات علاقة بعمق الخلاف المسيحي – الإسلامي فحسب، بل كانت ذات علاقة بالخلاف بين الطوائف التي تنتسب لدين واحد أيضاً. التحالفات بين الاحزاب التي ادعت احتكار تمثيل شيعة لبنان مع النظامين السوري والإيراني: إن تحالف بعض الاحزاب "الشيعية" مع النظامين السوري والإيراني، كانت تمثِّله حركة أمل منذ بداية العام 1979، والتحق بها حزب الله في العام 1985. وكلاهما تنظيم طائفي سياسي وإن اتَّفقا على بعض المنطلقات العقائدية للطائفة، إلاَّ أنهما اختلفا بالمواقف السياسية بالنسبة لهوية النظام السياسي في لبنان. ما يفرِّق بين حركة أمل وحزب الله أكثر بكثير مما يجمع بينهما: لم تفكر حركة أمل -كما يقول أحد قادتها في تلك المرحلة- «بإقامة دولة إسلامية على غرار ما هو قائم في إيران». لأن لبنان «يضم عدة طوائف لها الحق في أن تمارس شعائرها على النحو الذي تريده… وإذا كانت قوى بعض الطوائف… تعتبر لبنان وطناً لطائفتهم، فإن [حركة أمل تعتبر] لبنان وطناً لجميع أهله وطوائفه بالتساوي». كما ترفض حركة أمل الأفكار والاتجاهات، التي يقوم عليها البناء الفكري والتنظيمي لحزب الله، جملة وتفصيلاً. لأن قياديّي الحزب -كما ترى حركة أمل- يدَّعون أنهم حماة الإسلام. أما الآخرون، أي الشيعة من غير حزب الله، «من الذين لا يريدون أن ينقادوا انقياداً أعمى، [يرى حزب الله أنهم من] الكَفَرة وهم الخاسرون»، كما يعمل حزب الله على «تعطيل العقل… والولاء الأعمى، والانصياع غير المشروط لبعض من نصَّبوا أنفسهم قادة على المسلمين». وهكذا تعتبر حركة أمل النظام السياسي في لبنان وطناً نهائياً لجميع اللبنانيين على شرط المحافظة عليه كنظام طائفي سياسي من جهة، ومع رفض قيام نظام سياسي إسلامي قبل ظهور الإمام المهدي المنتظر من جهة أخرى. بينما حزب الله يجيز قيام نظام سياسي قبل ظهوره باعتماد نظرية (ولاية الفقيه)، بحيث يكون الولي الفقيه نائباً للإمام المهدي. وهذه النظرية العقيدية تجيز قيام نظام إسلامي في لبنان على أن يكون لبنان -كما يزعم الحزب- جزءًا من الجمهورية الإسلامية في إيران. وفي هذا تناقض صارخ مع المفهوم الاساسي والجوهري للوطنية من جهة، وللاستقلال السياسي للدولة الوطنية من جهة اخرى. علماً أن العامل التنظيمي كان العامل المباشر الذي أنتج صراعاً حاداً بين الطرفين العدوين اللدودين، هو أن حزب الله وُلِدَ من رحم حركة أمل، وذلك بعد أن استقطب الحزب العشرات من المتقدمين في الحركة والآلاف من قواعدها. وبالإضافة إليها جاءت الأسباب العقيدية والسياسية لتثير العديد من التناقضات والصراعات بين التنظيمين، وصلت إلى حدود اقتتالهما الشرس والدامي الذي سقط نتيجته مئات القتلى بين الطرفين، واستمرت تلك المرحلة إلى أن النظامين السوري والإيراني -اللذين تجمعهما مصالح مشتركة في لبنان- أدركا أنه آن الأوان لوضع حدِّ لتلك الصراعات، وفرضا على التنظيمين عقد (اتفاق إذعان)، وقد استمرت مفاعيله حتى العام 2025. الخلفية التاريخية لأسباب لجوء التنظيمين إلى الاستقواء بالخارج: تعود أسباب لجوء حركة أمل للاستقواء بالنظام السوري إلى بدايات الحرب الأهلية. حينذاك كان النظام السوري بحاجة إلى حاضنة شعبية لبنانية بعد أن انقطعت الأواصر بينه وبين الحركة الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية، وعدم استجابتهم لأوامره وإملاءاته. فوجد تلك الحاضنة في حركة أمل. ومن بعدها استفادت الحركة كثيراً من الامتيازات السياسية والأمنية بعد انتهاء مفاعيل العدوان الصهيوني الذي حصل على لبنان في السادس من حزيران من العام 1982، وبعد أن ضعفت تلك المفاعيل في العام 1985. اعتمد النظام السوري على التحالف الثلاثي: أمل والاشتراكي والقوات اللبنانية (تيار حبيقة)، ولأن حركة أمل كانت الحصان الذي عبر عليه، وشكَّل الحاضنة الشعبية له، فقد تمَّ تلزيمه القرار اللبناني بغطاء وأوامر من النظام السوري حينها. وأما أسباب التحاق حزب الله بالنظام الإيراني فتعود إلى أن النظام المذكور -منذ العام 1979- وتحقيقاً لمشروعه الاستعماري في الوطن العربي، كان بحاجة إلى غطاء لذلك المشروع تمثل في حواضن طائفية في شتى أقطار الوطن العربي وخاصة تلك التي يحتل فيها الشيعة أعداداً كبيرة، وكان من أهمها العراق ولبنان. ولما فشل بالتسلل الواضح إلى العراق بعد حرب طاحنة دامت لثماني سنوات، فقد أولى اهتمامه بلبنان، فوجد فيه من انبهر بانتصار ما يسمى (بالثورة الإسلامية في إيران). لذلك بدأ النظام الإيراني بالإعداد لتأسيس حزب الله منذ تلك اللحظة، والتي أُعلن عن تأسيسه في العام 1985. الاقتتال الطائفي حول احتواء واحتكار قرار الطائفــة: كان العام 1988م، عام الانشطار الطائفي السياسي المصحوب بمواجهات دموية بين حركة أمل وحزب الله، بحيث شهد انفجارات واسعة بينهما، وتوزعت على ثلاث جولات عسكرية: بدأت الجولة الأولى في جنوب لبنان، وفيها تمكنت حركة أمل من إخراج حزب الله منه بشكل شبه كامل. وأدت الجولة الثانية إلى سيطرة حزب الله على ضاحية بيروت الجنوبية، وانكفأت حركة أمل عنها بشكل شبه كامل. أما في الجولة الثالثة، فقد كانت بيروت الغربية ساحتها الرئيسية، لكنها لم تكتمل بسبب الموانع السورية. كان من أهم ذرائع المعارك التي حصلت بين حركة أمل وبعض القوى اليسارية هو أن يتوحَّد القرار الأمني – السياسي بيدٍ واحدة، هي يد الحركة؛ وتتضمن منع أي تنظيم لبناني يساري من مساعدة منظمة التحرير الفلسطينية في المخيمات. أما أهداف الصراع بينها وبين حزب الله، فكانت تدور حول مشروعين ومرجعيتين وقوتين متنافستين على الأرض الواحدة، وهما يختلفان على كل شيء تقريباً: • حزب الله يُشهِر الولاء الصارخ والصريح للمرجعية الإيرانية، ويعمل للارتباط العضوي مع إيران، في حين لا ترى حركة أمل العلاقة مع إيران بأكثر من صلة روحية، على أن تكون سورية المرجع ومركز القرار الوحيد. • كانت هناك خلافات حول السلطة والنفوذ بين "الشقيقين – الخصمين". فحزب الله قد أخذ يحرز تقدماً في غزو القاعدة الشعبية للطائفة بفعل المساعدات الإيرانية المالية الضخمة، وفي اختراق مراكز القوى في داخل حركة أمل. ولكن أخيراً، فرض النظامان السوري والإيراني عقد اتفاق تهدئة بينهما، استفاد النظامان والتنظيمان منه. واستمر التحالف منذ أواخر الثمانينيات من القرن العشرين إلى مرحلة ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار بين لبنان والكيان الصهيوني في 27 تشرين الثاني من العام 2024. وإذا كانت مرحلة التحالف فرضت عصراً مميزاً للتنظيمين اللذين يحاولان احتكار التمثيل الشيعي في لبنان، ولأنهما كانا يسيران بالعكس من كل مبادئ بناء دولة وطنية حديثة على أن تكون ذات عمق قومي عربي، وإساءة علاقلاتهما مع أحزاب الحركة الوطنية وقمعها وإقصائها في لبنان من جهة، واستخدام القوة العسكرية في ترهيب التيارات الطائفية الأخرى من جهة ثانية، وإساءة العلاقة مع الأقطار العربية وإثارة مخاوفها من جهة ثالثة، رفعنا منذ العام 2000، السؤال الذي مفاده: عصر ادعاء تمثيل طائفة " الشيعة" في لبنان: ولكن إلى أين؟. وعلى الرغم من الادعاءات الكثيرة بأنه كان عصر الطائفة، لكنهم لم يستطيعوا حتى العام 2000، أن يتفقوا حول شتى القضايا العقيدية والسياسية، فوجود تيارات مختلفة ومتناقضة بينهم لا يقود إلى الاستنتاج أن مراكب احتكار التمثيل السياسي للطائفة الشيعية في لبنان قد رست إلى شاطئ أمين. ولأنهما لا يزالان منقسمين، فهما لم يتفقا، إذاً، على هوية تجمعهما. فبأي اتجاه سوف يواصل هذان الحزبان الطائفيان طريقهما للوصول إلى هوية واحدة للطائفة، يتوحَّدون بها وتستطيع هي أن توحَّدهما؟ ولماذا اصلا ينبغي المضي في هذا الدور الذي يتناقض جوهريا مع المبدأ الاساسي للوطنية الجامعة وللمواطنة؟؟
الخضوع للخارج ثمن لحصول بعض الاحزاب الطائفية على قوة التأثير في لبنان: سنترك الاجابة على التساؤل المشروع: (هل يصح وطنياً ودستورياً ان يجاز الاستقواء بالخارج، مع تقاطعه الصارخ مع مفهوم السيادة ؟؟) الى مقال لاحق. لذا هنا نشير الى ان الصراع بدأ، قبل الستينيات، بين اتجاهين احدهما يحاول ان يمثل ويحتكر الزعامة السياسية للطائفة الشيعية، والاخر هو الزعامة الدينية لها، فكانت الغَلَبة فيه للزعامة السياسية. واستمر هذا الواقع، بعد الستينات، حتى وصول السيد موسى الصدر إلى لبنان. ومن بعد وصوله بدأت الوقائع تتغير من حال إلى حال. وتسبب بروز شخصيته الى شد انتباه بعض النخب المثقفة والاجتماعية من ابناء الطائفة، فصنع بذلك موقعاً جديداً لرجل الدين فيها. وفي عهده بدأت مرحلة التوازن، بين السياسيين ورجال الدين من الطائفة، خاصة بعد أن أسبغ، بمفرادته، خطاباً سياسياً اخذ يطرق فيه على وتر ادعاء ما سماه "بالمصاعب والحرمان" الطائفي المزمن للطائفة. ثم قيامه ومنذ العهد الشهابي في أواسط الستينيات، ببناء مؤسسات طائفية خاصة، والترويج الى انها طريق سليم لوحدة الموقف والصوت، التي تساعد على رفع "الغبن التاريخي" المزعوم عن كواهلهم. أما بعد سقوط الشاه ومجئ نظام ولاية الفقيه في إيران، عام 1979م، شهدت الساحة الشيعية في لبنان إقبالاً واسعاً على الانتماء إلى التيار الطائفي الإيراني، ومنذ تلك اللحظة دخلت عوامل جديدة تضرم نار الخلافات الداخلية بين التيارات المحسوبة على الشيعة في لبنان. فبعد الصراع الذي كان دائراً حول من سيقود المرحلة، رجال السياسة أم رجال الدين، جاء التيار الإيراني ليزاحم التيارين بقوة وزخم شديديْن، لأنه أدخل لهذه الساحة أفكاراً دينية وسياسية كانت تراهن على أنها البديل الإلهي، كما تتوهم، لكل ما عداها من المشاريع الأخرى. ويُعزِّز تلك العوامل والأفكار دعم مادي غير محدود للجماعات التي تتجاوب مع أفكاره الجديدة. علماً بان هناك تيار من رجال الدين الشيعة - تساندهم نخب مدنية أخرى تعتقد بقيام نظام سياسي مدني في لبنان- من الذين وقفوا ضد الاصطفاف بالاستقواء بالخارج وامتنعوا عنه. هذا بالإضافة إلى مواقف تيار اللبنانيين من ابناء الطائفة الشيعية الذين لم يؤمنوا بالعمل الطائفي وانما بالعمل الوطني والقومي والتحقوا بأحزاب الحركة الوطنية اللبنانية، فشكلوا جميعاً التيار العام الذي حسم خياراته إلى جانب نظام وطني في لبنان. كل ذلك يشكل أسباباً تدفع لطرح السؤال التالي: كيف يمكن تبرير ومعالجة إشكالية استقواء بعض الجماعات بالخارج؟ وهل يمكن أن تكون الأممية الدينية حلاًّ مبرراً لمشاكل تلك الجماعات؟ من أجل معالجة ظاهرة الاستقواء بالخارج، وكإسهام في ورشة فكرية مُفْتَرَضَة، يمكننا اقتراح الأسس التالية: لا يمكن لتلك الاحزاب المشار اليها أن تصحح أخطاءها الكارثية على الوطن وعلى ابناء الطائفة نفسها عندما قررت الاستقواء بالخارج، سوى بإعادة النظر في عاملين أساسيين، وهما: • العامل الأول: باستثناء التيار العام الذي حسم خياراته إلى جانب نظام وطني مدني في لبنان- على حركة أمل وحزب الله، ما يلي:
1-أن يغادر حزب الله عقيدته في الأممية المذهبية إلى عقيدة بناء نظام وطني مدني. 2-على حركة أمل أن تقطع موقفها مع النظام الطائفي السياسي والانتقال إلى سياسة بناء نظام وطني.
ولأنه بانتقال الحزب والحركة، كما ورد في الفقرة 1 و2، يكونا قد اقتربا من المصالحة مع التيار الثالث، ويكون جميعهم في لبنان قد سلكوا مرحلة الفرز والفصل الواضح والحاسم بين الموقف الطائفي العقيدي وبين العمل والموقف السياسي. وإذا كان الجانب العقيدي مسألة خاصة بابناء الطائفة نفسها، كما هي بالنسبة للطوائف الأخرى، لها الحرية بالاعتقاد الروحي من دون مشروع سياسي خارج مفاهيم الدولة الوطنية. يصبح من واجب الجميع أن يقوموا بالارتقاء بالظاهرة الدينية من سطحيتها الشعبية إلى مستوى العمق الروحي لتلك الظاهرة. • العامل الثاني: الاعتراف بدور وحق القوى الوطنية والقومية لماذا وقفت التيارات الطائفية التي تزعم احتكار تمثيل ابناء الطائفة الشيعية في الخندق المناهض للفكرين الوطني والقومي؟ إن القوى التي تعمل على حماية النظام الطائفي السياسي -على شتى انتماءاتهم الطائفية- وقفت بالضد من الفكر الوطني والقومي، وكانت قواه الحزبية والسياسية تتعرَّض للقمع والملاحقة والاجتثاث من الجميع من دون استثناء. وكان زعماء الطوائف: سياسيون ودينيون، من السبّاقين إلى معاداة الفكر الوطني ومحاربته. فكان العداء للفكر الوطني والقومي هو الجامع المشترك بين شتى الأديان والطوائف ذات المشاريع السياسية من جهة، وبين شتى الزعامات السياسية التقليدية من جهة أخرى. من أهم الاتهامات التي تدّعيها وتتوجَّه بها الحركات الطائفية – السياسية إلى الحركات والأحزاب الوطنية القومية هي ما يلي : - تزعم ان فكرها العلماني الوضعي يتعارض، بأجزاء منه، مع التعاليم التي تزعم الحركات الطائفية السياسية أنها ذات أصول إلهية. -إن في الدعوة إلى أن يكون للرابط القومي أو الوطني أولوية في العلاقات بين أبناء المجتمع الواحد، الذي يعيش على بقعة جغرافية واحدة، ما يتناقض مع ما تؤمن به حركات الطائفية السياسية باستنكار أن تحل رابطة أخرى بين أبناء المجتمع الواحد غير الرابطة الدينية الطائفية. وفي كلا الزعمين الكثير من الافتقار الى الدقة والموضوعية اضافة الى التناقض المنطقي، فإذا كان الذين يزعمون انهم حراس المذاهب والأديان يحسبون أن النص الديني هو الجامع الوحيد بين أبناء المذهب الواحد أو الدين الواحد، فإنهم يدفعون بنا إلى التساؤل: ولماذا يتقاتل اذن أبناء الدين الواحد أو أبناء المذهب الواحد؟ الخلاصة والاستنتاج: نختتم بحثنا بدعوة القوى الطائفية السياسية التي استقوت بالخارج إلى العودة لما قال به كثير من فقهاء الدين والمذاهب الإصلاحيين بمن فيهم الشيعة، بأن الهدف الأساس من أي نظام سياسي هو خدمة مصالح الناس. ولأن تطبيق الشرائع الدينية (الإلهية) -بالطريقة التي يزعمونها- تؤدي، كما نعتقد نحن، إلى اثارة النعرات وتفتيت أبناء الدولة الحديثة الواحدة؛ فانه لن توحدهم سوى التشريعات الوضعية المستندة الى المواطنة، وذلك بإجماعهم على صياغة قانون عادل ومُوَحَّد، وتطبيق هذا القانون بصدق وعدالة. وأخيراً، واستفادة من تجارب الاستقواء المريرة، نحذِّر جميع الطوائف اللبنانية من الوقوع في شراكها، لأن الاختلال في موازين القوى، لصالح هذه الطائفة أو تلك، لن تبقى بمنأى عن التغيير في الأنظمة الخارجية التي يتم الاستقواء بها. فهي قد تتغير من مرحلة إلى أخرى في ظل اختلال موازين القوى، الداخلية والإقليمية والدولية، والتي سوف تقتضي اختلالاً بموازين القوى للطوائف اللبنانية فحسب وانما بالامن الوطني اللبناني كله ومن ثم بالامن القومي برمته.
#حسن_خليل_غريب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في إشكالية التجميد والتجديد في المناهج المعرفية العربية تبقى
...
-
اليوم التالي لولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثالثة) (3/ 3)
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثانية) (2/ 3)
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الأولى 1/3)
-
أفكار في رسم خريطة طريق لحل استراتيجي لإشكالية الطائفية في ل
...
-
رؤية نقدية في راهنية المقاومة الإسلامية من مقاومة شعبية إلى
...
-
بعد نفاذ الطبعات القديمة لمشروع الشرق الأوسط
-
(هيفاء غزة) تفتش عن جثة أمها
-
الولايات المتحدة الأميركية على مفترق طرق بين الوطنية والتورا
...
-
الأقليات في العالم العربي جذور الأزمة وآفاق الحل *.
-
ما بعد طوفان الأقصى المتغيرات الدولية وإلغاء وظائف المشاريع
...
-
هل يلتقط العرب فرصة اللحظة التاريخية الراهنة؟ لماذا؟ ومتى؟ و
...
-
لملاقاة الاستحقاقات القادمة لبنان من دويلات الطوائف إلى الدو
...
-
التطبيع مع نظام ولاية الفقيه وجه من وجوه المخاطر الوجودية عل
...
-
في مواجهة سيول المشاريع الدولية والإقليمية على العرب أن يحذر
...
-
في وسائل المواجهة مع العدو الصهيوني تبقى المقاومة الشعبية ال
...
-
مع الظاهرة وضدها في آنِ واحد (رؤية في مستقبل المنطقة العربية
...
-
إستعادة الوحدة الوطنية مدخل إلزامي للوحدة العربية
-
عرض كتاب (القومية العربية من التكوين إلى الثورة) الحلقة الأخ
...
المزيد.....
-
نبيل بنعبد الله يعزي في وفاة شقيق الرفيق السعودي لعمالكي عضو
...
-
الحزب الشيوعي العراقي: تضامنا مع الشيوعيين السوريين ضد القر
...
-
موسكو: ألمانيا تحاول التملّص من الاعتراف بحصار لينينغراد إبا
...
-
مظاهرات بألمانيا السبت وغدا ضد اليمين المتطرف
-
النسخة الإليكترونية من جريدة النهج الديمقراطي العدد 589
-
تحليل - فرنسا: عندما يستخدم رئيس الوزراء فرانسوا بيرو أطروحا
...
-
برقية تضامن ودعم إلى الرفاق في الحزب الشيوعي الكوبي.
-
إلى الرفيق العزيز نجم الدين الخريط ومن خلالك إلى كل مناضلات
...
-
المحافظون الألمان يسعون لكسب دعم اليمين المتطرف في البرلمان
...
-
استأنفت نيابة العبور على قرار إخلاء سبيل عمال شركة “تي أند س
...
المزيد.....
-
مَشْرُوع تَلْفَزِة يَسَارِيَة مُشْتَرَكَة
/ عبد الرحمان النوضة
-
الحوكمة بين الفساد والاصلاح الاداري في الشركات الدولية رؤية
...
/ وليد محمد عبدالحليم محمد عاشور
-
عندما لا تعمل السلطات على محاصرة الفساد الانتخابي تساهم في إ
...
/ محمد الحنفي
-
الماركسية والتحالفات - قراءة تاريخية
/ مصطفى الدروبي
-
جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية ودور الحزب الشيوعي اللبناني
...
/ محمد الخويلدي
-
اليسار الجديد في تونس ومسألة الدولة بعد 1956
/ خميس بن محمد عرفاوي
-
من تجارب العمل الشيوعي في العراق 1963..........
/ كريم الزكي
-
مناقشة رفاقية للإعلان المشترك: -المقاومة العربية الشاملة-
/ حسان خالد شاتيلا
-
التحالفات الطائفية ومخاطرها على الوحدة الوطنية
/ فلاح علي
-
الانعطافة المفاجئة من “تحالف القوى الديمقراطية المدنية” الى
...
/ حسان عاكف
المزيد.....
|