|
نعوم تشومسكي
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8240 - 2025 / 2 / 1 - 14:09
المحور:
سيرة ذاتية
تنبع تصرفات الإنسان، حسب أفلاطون، من ثلاثة مصادر أساسية هي الرغبة والعاطفة والمعرفة. وإن كانت الرغبة والعاطفة تنبعان من غرائز البشر الوجدانية وضروراته الجسدية، فإن المعرفة قوة تمثل الوسيلة والسبيل معا إلى ذروة الحياة، إذ تمنحها المعنى العميق، فيها تكمن أسباب الوجود ودونها تزول. وبديهي أن تكون رحلة الإنسان في الحياة محض سعي الوصول إلى ذاته وإزالة رواسب الجهل والعوائق التي تعترض الحقيقة عبر المعرفة بطرائقها وسبلها المتنوعة وأوجهها المتعددة. المعرفة بذلك حقيقة والحقيقة معرفة، والإنسان الذي يطمح إلى رؤية الحقيقة، لا يستطيع أن يعتزل الحياه، حسب غاندي في كتابه «رحلتي مع الحقيقة»، التي من أجلها تحمل كل معاناة، وانتصر أخيرًا على الكذب. ولإيضاح ذلك، نَشرت جريدة «الغد» الأردنية مقالًا للكاتب والأكاديمي د. عبدالله يوسف الزعبي جاء فيه لعب الأكاديميون وأساتذة الجامعات دورًا حاسمًا في حمل عصر التنوير وإطلاقه عبر إنتاج المعرفة ونقلها ورعاية التفكير النقدي وتطوير البحوث وتعزيز تنوع الفكر والدعوة إلى المسؤولية الاجتماعية والإنسانية. تعتبر الأكاديميًا لذلك منصة أساسية لصناعة المعرفة وتشكيل الفكر، حيث تلعب دورًا حيويًا في تطوير المجتمعات وتقدمها، فمنذ القرن الثامن عشر، بدأت الجامعات والمؤسسات التعليمية في تأسيس نفسها كمراكز للبحث والتفكير العميق، ما أثرى الإنسانية بمجموعة من المفاهيم والنظريات المبتكرة ساهمت في صناعة المعرفة وصياغة التنوير. لكن الأكاديميًا الغربية كانت دومًا متشابكة بشكل لا ينفصم مع الاستعمار، وخاصة البريطاني ابتداءً ثم تبعها الأمريكي، ولطالما اعتمد الغرب على المعرفة في استغلال الشعوب المستعمرة، من نواح كثيرة، وما أنفك ذلك الإرث يسود العلم اليوم. وقلما يذكر التاريخ ثائرًا أكاديميًا على منظومة الإمبريالية الاستعمارية، يفضحها بشراسة ويعريها من أثواب التجميل والخداع مثلما يفعل نعوم تشومسكي، فيلسوف اللغة وعالم اللسانيات الأمريكي، إنساني الفطرة والخيار. أثر تشومسكي وتأثر بالكثير من العلماء ضمن مجموعة واسعة من المجالات الأكاديمية، ولايزال يعتبر، وهو في الخامسة والتسعين، أبرز منتقد للسياسة الأمريكية والنيوليبرالية ورأسمالية الدولة المعاصرة ووسائل الإعلام الموجهة، منذ ستينيات القرن الماضى حين وضع على قائمة الرئيس الأسبق نيكسون لأعداء النظام وزج به في السجن. تظهر آراء تشومسكي جلية في أبحاثه ومؤلفاته التي تعدت 150 كتابًا وتحمل ما يقارب نصف مليون استشهادًا علميًا. أحد أهم آرائه تتمثل في موقفه من الأكاديميا الغربية وتواطئ جزء عظيم منها مع المؤسسة السياسية والصناعية والاقتصادية التقليدية التي تنتهج سبل استعمارية وإمبريالية، للهيمنة على الشعوب، ومنها الشعوب الغربية نفسها. ولعل كتابه «من يحكم العالم»؛ الذي صدر عام 2016، أفضل ما يوضح ذلك الموقف، وفي فصله الأول تحديدًا تحت عنوان «مسؤولية أصحاب الفكر»، حين يتحدث عن صنفين من المثقفين، الأول ذاك الذي يدافع عن العدالة ويناهض جبروت الظلم والبطش بشجاعة ونزاهة وعادةً ما يدفع الثمن غاليًا بالإقصاء والتهميش، كما يضرب سقراط مثالًاللمثقف الصادق الذي طرح آراء نقدية وفلسفية حول ديمقراطية الرعاع فعوقب بالسم، بل ذهب تشومسكي أبعد من ذلك باعتبار الأنبياء الذين انتقدوا أفعال السادة والحكام والأثرياء، وقدموا تحليلات جيوسياسية وحلولًا اصلاحية اجتماعية واقتصادية وأخلاقية، وحذروا من السياسة الرعناء التي تؤدي إلى الكوارث، ودعوا إلى الحرية والوقوف مع العمال وسائر الكادحين ومساعدة الفقراء والطبقات الضعيفة من شيوخ وأرامل وأيتام وأطفال، فسُجنوا وعذبوا وقتلوا، والأمثلة التاريخية زاخرة بهكذا أحداث وقصص شبيهة. وأما الصنف الثاني للمثقف فذاك الذي يقدم نفسه لخدمة الدولة ويحظى بالامتيازات المادية والاحتفال والثناء والتقدير المعتاد، وبنفس أسلوب الثواب والعقاب النمطي المألوف عبر التاريخ. يسوق تشومسكي عديد الأمثلة على التباين الشاسع بين صنفي المثقفين في مواقفهم التاريخية، كالبيان الذي أصدره الثلاث وتسعين مفكرًا ألمانيًا الذين أيّدوا فيه خوض الحرب العالمية الأولى كأمة جيرمانية متحضرة تدافع عن إرث غوته وبيتهوفن وكانط المقدس، بينما مفكرون في جانب الحلفاء هللوا للانخراط في أتون الحرب الشعواء بدوافع أخلاقية وقيمية ودينية. كما يسرد تشومسكي عدة أمثلة على ممارسات أولئك المثقفين في تزيين الفاحشة لسياسة الأمبريالية في سعيها للهيمنة على الشعوب، وكيف تقمصوا أدوار الدعاة والوعاظ للسلاطين، «حسب مقولة المؤرخ العراقي علي الوردي»، من حرب الكوريتين لفيتنام، ثم حرب الموز والكوكائين في الجارات الجنوبية، وسرقة إفريقيا؛ موارد وبشر، إلى تدمير العراق ويوغسلافيا والثورات البرتقاليه الناعمة، إضافة للحرب على البيئة والمناخ وجنون السباق نحو النووي والسلاح. حال المثقف العربي الصادق أصعب من نظيره الغربي وأكثر تعقيدًا من كافه الوجوه، حيث العقاب أقسى وأشد، فالسجن برزخ والجوع ذل والغربة منفى، والثمار مرة نادرة، كما البيئة الفكرية مشتتة، والمجتمع منغلق وماضاوي، والخصوم كثر والأنصار قليل. مهمة المثقف العربي عسيرة لكنها ليست مستحيلة. وإذا أردنا معرفة رأي تشومسكي في وسائل الإعلام الأمريكية، ينبغي أن نتوقف عند كتابه «السيطرة على الإعلام» الصادر عن دار الشروق في عام 2005، تعريب أممية عبداللطيف. يقول تشومسكي، يدفعنا الدور الذي تقوم به وسائل الإعلام في شئون السياسة المعاصرة إلى طرح تساؤلات حول ماهية العالم والمجتمع الذي نرغب العيش به، وعلى وجه الخصوص في أي صورة من الديمقراطية نريد لهذا المجتمع أن يكون ديمقراطيًا. لنبدأ أولًا بطرح مفهومين أو تعريفين مختلفين للديمقراطية. المفهوم الأول يعتبر المجتمع الديمقراطي هو المجتمع الذي يملك فيه (الجمهور) الوسائل اللازمة للمشاركة الفعالة في إدارة شئونهم، وأن تكون وسائل الإعلام منفتحة وحرة. أما المفهوم الآخر للديمقراطية، فهو أن يمنع العامة من إدارة شؤونهم وكذا من إدارة وسائل الإعلام التي يجب أن تظل تحت السيطرة المتشددة. وقد يبدو هذا مفهومًا مستهجنًا أو شاذًا للديمقراطية، ولكن من المهم بمكان فهم أن ذلك هو المفهوم الحاكم، وفي واقع الأمر هو ليس فقط المفهوم المعمول به فعليًا لفترات طويلة ولكنه أيضًا له أساس من الناحية النظرية. كيف تطورت فكرة الديمقراطية وكيف ولماذا نقدّم مشكلة وسائل الإعلام والتضليل المعلوماتي في هذا السياق؟ يقتصر تشومسكي حديثه عن الفترة الحديثة، مشيرًا إلى أول عملية دعائية حكومية في العصر الحديث، حيث كانت أثناء الرئيس وودرو ويلسون الذي انتخب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية في عام 1916، وفق برنامج انتخابي بعنوان «سلام بدون نصر»، وكان ذلك في منتصف الحرب العالمية الأولى. في تلك الأثناء كان المواطنون مسالمين لأقصى الدرجات، ولم يروا سببًا للانخراط والتورط في حرب أوروبية بالأساس، بينما كان على إدارة ويلسون التزامات تجاه الحرب، ومن ثم كان عليها فعل شيء ما حيال هذا الأمر. فقامت الإدارة بإنشاء لجنة للدعاية الحكومية أطلق عليها (لجنة كريل) وقد نجحت هذه اللجنة خلال ستة أشهر في تحويل المواطنين المسالمين إلى مواطنين تتملكهم الهستيريا والعطش للحرب، والرغبة في تدمير كل ما هو ألماني، وخوض حرب، وإنقاذ العالم. كان هذا الأمر بمثابة إنجاز هائل، وقد قاد بدوره لإنجاز آخر؛ ذلك أنه بعد أن وضعت الحرب أوزارها، تم توظيف ذات التكتيك لإثارة هيستيريا ضد الرعب الشيوعي -كما كان يطلق عليه- وقد نجحت إلى حد كبير في تدمير الاتحادات العمالية والقضاء على بعض المشكلات الخطيرة، مثل حرية الصحافة وحرية الفكر السياسي، وكان هناك تأييد قوى من قبل وسائل الإعلام، وكذلك من قبل مؤسسة رجال الأعمال التي نظمت بل شجعت جلّ هذا العمل، وكان بصفة عامة نجاحًا عظيمًا. كان هناك قدر كبير جيد من الفبركة والتزييف للمذابح التي ارتكبها الألمان في الحرب العالمية الثانية، مثل موضوع الأطفال البلجيكيين ذوي الأذرع الممزقة، وكل تلك الفظاعات التي مازلنا نقرؤها في كتب التاريخ. معظم هذه القصص هي من اختراع وزارة الدعاية البريطانية، وكانت مهمتها آنذاك- كما وصفوها في تقاريرهم السرية «توجيه فكر معظم العالم»، ولكن الأمر الأكثر أهمية هو رغبتهم في السيطرة على فكر الأفراد الأكثر ذكاءً في الولايات المتحدة، والذين سيقومون بدورهم بنشر الدعاية التي خططوا لها، وتحويل البلد المسالم إلى بلد تحكمه هيستيريا الحرب، وقد حدث ونجحوا بالفعل، وكان هناك درس ما في ذلك المثال ألا وهو أن الدعاية التي تتم بإشراف الدولة حينما تدعمها الطبقات المتعلمة وحين لا يسمح بأي انحراف عن الهدف، بإمكانها أن تحدث أثر كبيرًا. ذلك كان درسًا تعلمه هتلر وكثيرون غيره، ويتم اتباعه حتى اليوم. «من المهم بمكان حفز الرأي العام لتأييد مغامرات السياسة الخارجية، وعادة ما يكون الناس مسالمين مثلما كانوا أثناء الحرب العالمية الأولى، ذلك أن عامة الجمهور لا يجدون سببًا للتورط في مغامرات خارجية أو عمليات قتل وتعذيب ولذلك لابد من تحفيزهم، ولفعل ذلك لابد وأن تثير مخاوفهم»، هكذا قال عن السياسة الخارجية الأمريكية. وفي هذا الصدد يقدم نموذجًا لنقد هذه الممارسات موضحًا، لقد حقق بيرنايز إنجازًا في هذا المجال، فقد كان مسئولًا عن إدارة حملة العلاقات العامة لشركة يونايتد فروت في عام 1954 حينما حاولت الولايات المتحدة التدخل للإطاحة بالحكومة الليبرالية الديمقراطية لجواتيمالا، وأقامت بدلًا منها مجتمعًا من فرق الموت القاتلة، من خلال التدفق المستمر لأموال المساعدات الأمريكية لمنع أي توجه ديمقراطي، ومن المهم بمكان محاولة تسويق البرامج المحلية التي يعارضها عامة الجمهور، لأن ليس هناك سبب لجعل الجمهور يدعم برامج محلية ليست في صالحه، وهذا الأمر أيضًا يتطلب دعاية، ومن الأمثلة على ذلك، فبرامج ريغان كانت غير شعبية على الإطلاق، والناخبون الذين صوتوا في الانتخابات التي حقق فيها نصرًا كبيرًا، كان اثنان من كل ثلاثة منهم يعربون عن أملهم ألا تسن سياسته كقوانين! وكما يقول، وإذا ما تناولنا برنامج بعينها مثل التسلح وخفض النفقات الاجتماعية، كان الجمهور يعارض -تقريبًا- كل هذه البرامج،ولكن يجب أن يظل الناس مهمشين ومشتتين وليس لديهم طريقة للتنظيم ولا بإمكانهم التعبير عن مشاعرهم، أو حتى أن يعلموا أن الآخرين لديهم ذات المشاعر.
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لماذا الأزمة البيئية كونية؟
-
حديث عن الصحافة الثقافية
-
الدكتور عادل العوا.. قامة فلسفية وفكرية
-
العرب وأسئلة الهوية
-
أمريكا: حدود الممكن إلى الانبعاث
-
أكاديمي صيني: بريكس لا ينبغي أن تكون منظمة مواجهة.. بل خيارً
...
-
المؤرخ والأديب أحمد أمين.. من رواد التنوير الإسلامي
-
فوز ترامب.. انتصار للشعبوية الأمريكية
-
وداعًا النقابي محمد المرباطي
-
سيد درويش... رائد الأغنية الوطنية
-
مأزق المشروع الحضاري العربي
-
العرب والفكر النقدي
-
قيم قابلة للتبديل بحسب الحاجة
-
المنهج النقدي عند محمد مندور
-
لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟
-
الكتابة والحرية
-
هل تراجعت الهيمنة الأمريكية؟
-
يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
-
كتاب «وجهة نظر»
-
الدولة العميقة في الولايات المتحدة
المزيد.....
-
فيديو لحافلات تقل مرضى وجرحى فلسطينيين تصل إلى معبر رفح في ط
...
-
قصف روسي لبلدة دوبروبيليا الأوكرانية يخلف جرحى وخسائر مادية
...
-
مقتل عشرة في قرية سورية سكانها علويون والسلطات تبحث عن الجنا
...
-
لمن سيصوت الألمان من أصول عربية خلال الانتخابات المقبلة؟
-
للمرة الأولى منذ 12 عاما.. أسير أردني يلتقي بطفله الوليد من
...
-
مجموعة لاهاي تكتل دولي لمحاسبة إسرائيل
-
حماس: حالة أسرى العدو تثبت قيم وأخلاق المقاومة
-
كاتب تركي: ترامب حوّل -الحلم الأميركي- إلى كابوس
-
الجميع متعبون والمزاج تغير.. الغارديان تلقي الضوء على أزمة ف
...
-
-مشهد مخيف هناك-: مراسل CNN يصف ما سببه تحطم الطائرة بمركز ت
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|