|
رسالة اعتذار وحب لعائلتي
محفوظ بجاوي
الحوار المتمدن-العدد: 8240 - 2025 / 2 / 1 - 10:24
المحور:
سيرة ذاتية
إلى زوجتي الحبيبة سعيدة، وإلى أبنائي الأعزاء سارة، مريم، زكريا، إدريس، وإسحاق، وإلى أهلي وأحبتي جميعًا،
أكتب إليكم هذه الكلمات وأنا على أعتاب السبعين من عمري، أعود بذاكرتي إلى ذلك الشريط الطويل من حياتي، حيث تختلط الذكريات بالمشاعر، ويغمرني شعور بالندم والأسف على كل لحظة قسوة أو تقصير، على كل موقف لم أكن فيه كما كنتم تحتاجونني، أو كما كنت أتمنى أن أكون.
نشأت في الجزائر العاصمة، حيث تعلمت، وكبرت، ثم أخذتني الأقدار إلى عالم لا يرحم، إلى الجهاز السري للأمن الجزائري، في سنوات كانت الجزائر تنزف، وكان الوطن يعيش على وقع رصاص لا يميز بين مذنب وبريء، بين ظالم ومظلوم.
في خضم الحرب الأهلية، عندما اشتد الخطر، رأيت أنني إن بقيت، فلن أكون قادرًا على حماية عائلتي. كان القرار صعبًا، لكنه كان ضروريًا، فهربت إلى الشرق الجزائري، إلى الريف، إلى بيت أجدادي القديم، معتقدًا أنني سأجد هناك ملاذًا آمنًا بعيدًا عن العنف والدماء. لكن النظام لم يتركني، ولم يترك أهلي في حالهم، بل استمر في الضغط والمراقبة، ولم تسلم عائلتي في العاصمة من الابتزاز والتهديد اليومي حتى أعود.
كنت أمام خيارين، إما أن أستسلم، أو أن أواصل الفرار بحثًا عن الأمان، فقررت الهروب وحدي إلى تونس، حيث ظننت أنني سأجد مساحة للحياة بعيدًا عن الملاحقة. لكن حتى هناك، لم يكن لي هدوء، فقد لاحقتني المخابرات الجزائرية، وظل أهلي في الجزائر تحت الضغط المستمر، حتى أيقنت أنني لا أستطيع العيش هناك بينما تعاني عائلتي من بعدي.
عدت إلى الجزائر سرًا، عبر الجبال والحدود الوعرة، وكل هدفي كان أن آخذ زوجتي وأبنائي معي إلى برّ الأمان. وبمساعدة صديق قديم عمل معي في الأمن، خططنا لخروجهم معي عبر القطار الرابط بين الجزائر وتونس، واضطررنا لدفع المال لضمان عبورنا بأمان. كنت أظن أن تونس ستكون الملاذ الأخير، لكنني تفاجأت بأن المخابرات الجزائرية لم تتركني، بل حاولت عدة مرات اختطاف أبنائي لمساومتي على العودة، عندها أدركت أن بقاءنا هناك لم يعد خيارًا آمنًا.
حينها قررت الأمم المتحدة التدخل، وتم ترحيلي مع عائلتي إلى السويد، بعيدًا عن أعين النظامين الجزائري والتونسي، وبعيدًا عن أرضي التي أحببتها، والتي كنت أتمنى أن أعيش عليها بأمان معكم جميعًا.
زوجتي الحبيبة سعيدة، أنتِ أكثر من مجرد شريكة حياة، أنتِ من تحملتِ معي كل شيء دون أن تشتكي يومًا. كنتِ سندي، صبري، قوتي، وكنتِ دائمًا تثقين بي رغم كل المصاعب. لم يكن حبكِ لي مجرد كلمات، بل كان فعلًا حقيقيًا، كان دعمًا صامتًا، وتضحية مستمرة. لم تكوني يومًا مجرد زوجة، بل كنتِ القلب الذي احتميت به، والعقل الذي لجأت إليه، وخزينة أسراري منذ اليوم الأول الذي جمعني الله بكِ. كنتِ محبوبة الجميع، من أهلي وأهلكِ، ولم تخذليني أبدًا، حتى في أصعب الأوقات. إن كان هناك من يستحق الاعتذار أكثر من غيره، فأنتِ الأولى بذلك، لأنكِ دفعتِ معي ثمن حياة لم تختاريها، ومع ذلك كنتِ دائمًا الحصن الذي احتميتُ به.
أبنائي الأحباء، سارة، مريم، زكريا، إدريس، وإسحاق، كيف أبدأ اعتذاري لكم؟ وكيف أعبر عن ما في قلبي تجاهكم؟ أنتم فلذات كبدي، أنتم أغلى ما منحتني الحياة، أنتم النور الذي أنار ظلام أيامي، والدفء الذي ملأ برد سنوات الغربة والخذلان.
أعلم أنكم نشأتم في ظروف غير عادية، بين الترحال والخوف والمجهول، وأعلم أنني كنت غائبًا عنكم في لحظات كثيرة كنتم تحتاجونني فيها. لم يكن غيابي تقصيرًا من قلبي، بل كان فرضًا قاسيًا فرضته الظروف، كنت أهرب بكم من واقع كان يمكن أن يلتهمنا جميعًا.
أتذكر كل لحظة حملتكم فيها بين ذراعي، كل ضحكة، كل دمعة، كل خطوة خطوناها معًا، وأدرك كم كنت أتمنى أن أكون الأب الذي يراكم تكبرون في أمان، دون خوف أو قلق. لو عاد الزمن، لكنتُ اخترت أن أعيش معكم لحظة بلحظة، بدل أن أقضيها في صراع لم يكن لي فيه خيار.
لكن رغم كل ما عانيتموه، اليوم أنظر إليكم، فأجدكم قد كبرتم، وأصبحتم رجالًا ونساءً أفخر بهم، تفوقتم في دراستكم، شققتم طريقكم في الحياة، بنيتم أسركم، وأثبتم لي أن كل المعاناة التي مررنا بها لم تذهب سدى. لقد رفعتم رأسي عاليًا، وجعلتموني أشعر بأنني لم أخسر كل شيء، لأنني رغم كل الظروف، نجحت في أن أكون والدًا لأبناء لم يعرفوا الهزيمة، ولم يسمحوا للصعوبات أن تكسرهم.
أنا فخور بكم جدًا، جدًا، جدًا، فخور بكل إنجاز حققتموه، بكل نجاح وصلتم إليه، بكل خطوة مشيتموها بثبات رغم الرياح العاتية. أنتم تاج رأسي، وعزائي الوحيد في هذه الحياة، وكل ما تبقى لي من أمل.
أما الآن، وقد مضى العمر، ولم يبقَ لي إلا القليل، فإن ما أتمناه من الله هو أن يمنحني القوة لأعيش ما تبقى من أيامي مع أحفادي الأحباء، أحتضنهم، ألعب معهم، أروي لهم الحكايات، وأمضي معهم كل لحظة ممكنة. إنهم امتدادكم، وهم هدية الله لي بعد كل ما مررت به، وأمنيتي الوحيدة هي أن أكون لهم الجد الذي يعوضهم عن أي لحظة فاتت، وأن أملأ قلوبهم بالحب الذي ملأتم به قلبي طوال حياتي.
إلى إخوتي وأهلي وكل من تأذى بسببي، أعلم أنكم دفعتم ثمنًا لم يكن لكم يد فيه، وأنكم عانيتم بسبب قراراتي، سواء في الجزائر أو خارجها. لم أكن أريد لكم هذا، ولم يكن في يدي أن أغيره، لكنني اليوم، وأنا أقف أمام الحقيقة، لا أملك إلا أن أطلب منكم الصفح، وأتمنى أن يسامحني كل من ظُلم بسببي، عن قصد أو غير قصد.
أنا لم أكن يومًا جبانًا، ولم أهرب لأنني أردت الهروب، بل لأنني كنت رجلاً واجه الحياة بشجاعة، قاتلت على أكثر من جبهة، ولم أنحنِ يومًا إلا لله. كنتُ رجلًا في زمن كان الرجال فيه يُحاسَبون على مواقفهم، ودفعتُ الثمن لأني اخترت ألا أخضع، ألا أخون، وألا أنحني.
لكنني اليوم، أدرك أن الشجاعة ليست فقط في مواجهة الأعداء، بل في مواجهة النفس أيضًا، والاعتراف بالخطأ عند وقوعه. وأنا هنا، أقول لكم جميعًا، سامحوني، فأنا لم أكن أبدًا إلا رجلًا أحب عائلته، وأراد لها الأمان، وإن لم أكن دائمًا موجودًا كما أردتم، فاعلموا أنني كنت أحبكم بكل ما فيّ، بكل جوارحي، بكل دمي وروحي.
اليوم، وأنا أقف في خريف العمر، لا أملك إلا دعائي لكم، وحبي الذي لم ولن ينقص يومًا. سامحوني، واذكروني بخير، فأنتم كل ما تبقى لي في هذه الحياة.
زوجكِ، أبوكم ، وأخوكم الذي لن يتوقف عن حبكم أبدًا.
#محفوظ_بجاوي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نور العقل في مواجهة ظلام الجهل والتطرف
-
إضراب التلاميذ في الجزائر: صرخة من أجل حقوق مستقبلية وأزمة ا
...
-
التعليم في الجزائر : أزمة التطهير وتهديدات المستقبل
-
حب الجد لأحفاده الأعزاء :عاطفة صادقة تعيدني إلى شبابي
-
تربية الأطفال بين الخوف من الموت وفهم الحياة: أثر الترهيب وا
...
-
الهوية بين الصدق والزيف: أثر الأكاذيب على الأجيال القادمة
-
التخطيط السليم للإنجاب: مسؤولية ووعي لمستقبل مشرق
-
في شيخوخة الوالدين : قلوب كبيرة تحتاج إلى لمسات حب بسيطة.
-
التدين المظهري في الجزائر : كيف أضاع المجتمع بوصلة التقدم؟
-
الصراع الداخلي بين الحب والقيود : تأثير الخوف من التعبير عن
...
-
الصحة النفسية في ظل التحديات الحديثة
-
بحث الإنسان عن غايته: بين الحرية الفردية والوجود الكوني
-
الهوية الأمازيغية : جسر الوحدة الوطنية وحصن الانتماء
-
الإحتفال بالسنة الأمازيغية 2975 : جذور متأصلة في الأرض والزر
...
-
الجزائر وتونس : أخوة تتجاوز الحدود والمصالح
-
الفلاسفة العظام: معلمو الحياة ومرشدونا نحو الأخلاق والمعنى
-
مفهوم الحرية وحدودها في المجتمعات الحديثة
-
أمنيات العام الجديد : سلام، ازدهار، وديمقراطية للجميع
-
رسالة محبة وتعايش : لماذا أهنئ إخواني المسيحيين بعيد الميلاد
-
الوطن والمواطنة : حب الأرض وصناعة المستقبل
المزيد.....
-
كوبا تندد بإعادة واشنطن تفعيل -سجل القيود- وتصفه بـ-الاستفزا
...
-
من القاهرة.. بيان عربي يرفض تهجير الفلسطينيين ويؤكد ضرورة إع
...
-
إستونيا تحذر واشنطن و-الناتو- من خسارة أوكرانيا مكامن المعاد
...
-
السودان.. عشرات القتلى والجرحى إثر قصف لبعض الأحياء وسوق صاب
...
-
وفاة الرئيس الألماني الأسبق هورست كولر: أول رئيس ألماني دون
...
-
تسليم الرهينتين بيباس وكالديرون للجيش الإسرائيلي
-
الرهينة ياردين بيباس يعانق عائلته بعد 484 يوما في الأسر
-
الجفاف يدق ناقوس الخطر في لبنان. بحيرة القرعون في مشهد مخيف
...
-
الملف الفلسطيني والتهجير على طاولة -السداسية العربية- في الق
...
-
الدفاع الروسية تعلن تحرير بلدة جديدة في دونتسك
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|