|
تحقيق الشفا للقاضي عياض: بين السخرية العلمية وتزوير التراث
محمد فرحات
الحوار المتمدن-العدد: 8238 - 2025 / 1 / 30 - 10:10
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
"تحقيق الشفا للقاضي عياض: بين السخرية العلمية وتزوير التراث!" النص المطوَّر والمنقَّح!!
رحلة بين نسختين.. صراع الهوية في تحقيق التراث ليست المرة الأولى التي أندفع فيها باحثًا عن "الحقيقة" بين طيات المخطوطات، لكنها المرة الأولى التي أشعر فيها أنني أُصارع شبحًا أيديولوجيًّا يحوِّل النصوص إلى أسلحة! قضيت أيامًا غارقًا في مقارنة طبعتين لكتاب"الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للإمام القاضي عياض: -النسخة الأولى: صادرة عن دار كشيدة للنشر والتوزيع ، وهي دار تُحافظ على النص الأصلي بشرح الإمام السيوطي، مع هوامش توثيقية تعكس المنهجية الأزهرية المتوازنة التي تجمع بين التوقير العلمي للأئمة وفهم السياق التاريخي. -النسخة الثانية: صادرة عن إحدى المكتبات السلفية المنتشرة حول الأزهر، والتي تزعم "تنقية الكتاب من الشوائب"، لكنها في الحقيقة تُغيِّر المتن وتُهشِّم الهوامش وفقًا لمرجعية الشيخ الألباني!
النتيجة؟ نسخة مُشوَّهة تُمثِّل انقلابًا على المنهج العلمي عبر: 1. تحريف النص الأصلي: بحذف أي حديث لم يُصحِّحه الألباني، حتى لو كان في الأدب المفرد للبخاري! 2. تشويه الهوامش الشرعية: كتعليق مثل: "هذا الحديث ضعيف عند العلامة الألباني، والقاضي عياض وقع في خطأ نقله!"، متناسين أن القاضي عياض (ت. 544 هـ) لم يكن تلميذًا للألباني الذي لا نعرف له شيخًا، أو معهدًا تخرج فيه (ت. 1999م)! 3. اختراق العقدية الأشعرية: عبر إضافة عبارات في الهامش تُحذِّر من "ضلالات القاضي عياض في الصفات"، وكأن تحقيق الكتاب مجرد ذريعة لترويج الفكر التجسيمي!
---
لماذا كل هذا العناء؟ لأن المعركة هنا ليست حول "تصحيح حديث" أو "تحقيق نص"، بل هي معركةالهوية الإسلامية ذاتها: - النسخة الأشعرية (دار كشيدة): تحترم التراث كـنصٍّ حيوي تفاعل معه العلماء عبر العصور دون وصاية مذهبية. - النسخة السلفية: تتعامل مع التراث كـجثةٍ محنَّطة يجب تقطيعها لتناسب تابوت الأيديولوجيا الوهابية!
لكن المفارقة الأكثر إيلامًا أن هذه النسخة السلفية تُباع داخل أروقة جامعة الأزهر، بل ويستشهد بها بعض المدرسين كـ"مرجع موثوق"! هنا يصبح السؤال: كيف وصلت الوهابية – بفكرها المُنغلق – إلى قلب المنظومة الأزهرية التي كانت حصنًا للعقيدة الأشعرية؟!!
بين يدي المشيرة زينب: استراحة المحارب! في خضم هذا الصراع، وفي مولد السيدة زينب، وليس معرض الكتاب الدولي بالقاهرة ذي الأسعار الباهظة، والصراع بين قوت العيال والبطون، وقوت العقول وطموحها، وتصبيري التاريخي البائس " لما تقرا الكتب إللي عندك الأول!!"(حيث تُخفي القاهرة، أو هكذا أتخيل، تحت زحامها نبضًا روحانيًّا صوفيًّأشعريًّا) بمثابة استراحة قَسَرية. هناك، بين أكواب الشاي، وحلقات الذكر، وأحاديث الأحباب بمولدها الشريف عن بركة آل البيت، كان سؤالًا طرحته على نفسي: "ما جدوى كل هذا العناء؟ أنت كمن ينفخ في"قربة مقطوعة" (آلة موسيقية اسكتلاندية شعبية).. لا صوت يخرج، ولا أحد يسمع!".
أجبتها بمرارة: "الوهابيون لا ينفخون في قربٍ، بل يمتلكون مصانع مزامير تُغرِّد جميعًا بنفس اللحن! أما نحن، فما زلنا نتجادل عن جودة القربة بينما العالم يسمع زعيقهم!". وبعد هذه المقدمة الطويلة إليك المقال ذاته، لكاتبه النافخ أبدًا في القرب المخرومة أو المقطوعة!! لا يخفى على دارس التراث الإسلامي مكانة كتاب "الشفا بتعريف حقوق المصطفى" للإمام القاضي عياض اليحصبي (ت. 544 هـ) كأحد أبرز المؤلفات التي جمعت بين المنهج العقدي الأشعري، والدفاع عن النبي ﷺ، وبيان شمولية حقه على الأمة. لكن ما كاد يقتلني من الضحك – بل والغضب – هو صدور تحقيق جديد لهذا الكتاب المقدس في الوجدان الإسلامي، قام به أحد المنتمين للتيار الوهابي، تحت مسمى "التنقيح العلمي"! فما الذي حدث؟
الوهابي يحقق كتابًا أشعريًا: مفارقة تاريخية! ولكنها ليست الأولى في هذا العصر النكِد. القاضي عياض، أحد أعلام المدرسة الأشعرية التي تُعتبر – في المنظور الوهابي – ضالةً مبتدعة! فكيف يقدم وهابي على تحقيق كتابه؟ الإجابة تكمن في العنوان الفرعي للكتاب: "تحقيق الأحاديث على منهج العلامة الألباني"! هنا تكمن الكارثة: فالمحقق لم يكتفِ بتطبيق منهج المحدثين في نقد الأحاديث، بل جعل حَكَمَهُ الوحيد هو أقوال الشيخ الألباني (ت. 1999م)، الذي يُعتبر مرجعية سلفية في الحديث، مع تجاهل تام لاجتهادات المحدثين عبر القرون!
منهجية المحقق الوهابي فلان بن فلان: من "التحقيق" إلى "التشقيق"! 1. الحديث الذي وافق الألباني: مُقَرَّرٌ في المتن! أي حديث وجده المحقق في "الشفا" وقد صححه الألباني في كتبه، أبقاه في المتن، وكأن الألباني هو الإمام البخاري الثاني!
2. الحديث الذي خالفه الألباني: إما حذف أو اتهام! أما الأحاديث التي لم يجدها في كتب الألباني، أو التي ضعَّفها الأخير، فقد تعامل معها بأسلوبين: - الحذف من المتن: تحت ذريعة "تنقية الكتاب من الضعيف"! وكأن القاضي عياض – وهو الإمام المُجْمَع على إمامته – كان يجهل علم الحديث! - التضعيف في الهامش: مع اتهام ضمني للقاضي عياض بالتهاون في نقل الأحاديث، متناسيًا أن علم الحديث لم يكن منهجًا جامدًا في القرن السادس الهجري كما يصوّره السلفيون اليوم!
3. العبث بالمتن: "تصحيح" النص الأشعري! لم يقتصر الأمر على الأحاديث، بل امتدت يد "التنقيح" إلى بعض العبارات العقدية للقاضي عياض، والتي تتناقض مع العقيدة الوهابية، مثل تأويل الصفات أو الكلام في الذات الإلهية، فتم تحريفها أو إضافة تعليقات تنتقد "انحراف الأشاعرة"!
سخرية القدر: الألباني يحاكم القاضي عياض! المفارقة التاريخية هنا أن الألباني نفسه – رحمه الله – كان ينتقد علماء كباراً كالنووي وابن حجر لكونهم أشاعرة، لكن أن يُرفع الألباني إلى مرتبة يحاكم بها أئمةً كالقاضي عياض، فهذه سابقة خطيرة! فلو طُبق هذا المنهج على كتب السلفية أنفسهم، لحذفنا نصف تراث ابن تيمية وابن القيم تحت حجة "مخالفة الألباني"!
الخلفية الأيديولوجية: لماذا هذا التحقيق؟ لا ينفصل هذا "التحقيق" عن المشروع الوهابي الساعي لـ: - "توهيِّب" التراث الإسلامي: تحويل كل النصوص التاريخية إلى "نسخة سلفية" عبر حذف أو تشويه ما يخالف العقيدة الوهابية. - قطع صلة المسلمين بمرجعياتهم: تشويه صورة الأئمة الأشاعرة والماتريدية، الذين مثلوا التيار الرئيسي لأهل السنة قرونًا. - ترويج أسطورة "الانحراف التاريخي":بأن الإسلام الحقيقي اختفى بعد القرون الثلاثة الأولى، ولم يعد إلا مع ابن تيمية ثم محمد بن عبد الوهاب!
المأساة ليست في وجود مثل هذه المحاولات، بل في صمت المؤسسات الدينية الرسمية (كالأزهر) ومراكز تحقيق التراث، التي تترك الساحة للتيارات المتطرفة لتزوير التاريخ دون رادع! فهل يُعقل أن يُترك كتاب كـ"الشفا" – وهو من صميم العقيدة السنية – يُحرف بهذا الشكل الفج، بينما تُنفق الملايين على مؤتمرات "التقريب بين المذاهب"؟! هوامش السخرية: - لو أن محققًا أشعريًا قام بنفس الفعل مع كتاب لابن تيمية، لحُكم عليه بالإعدام فكريًا من السلفية! - هذه الواقعة تذكرنا بمن يحاول "تنقية" ديوان المتنبي بحذف كل الأبيات التي تمدح آل البيت، بحجة أنها "روافض"! وبعد فلا أجد أبياتًا تعبر عن حالي في اليأس من النصرة، أو حتى مجرد السماع غير أبيات الشنفري الأسدي أَلَا لَا أَرْجُو النَّاسَ خَلْفِي وَأَمَامِي وَلَا أَرْضٌ إِلَّا بِالسَّوَاطِرِ دَامِي وَلَا غَيْثٌ يُرْوِي الحَافِيَاتِ كَأَنَّمَا يُغَادِرُهُنَّ الرَّمْلُ وَهْوَ يُرَامِي وَلَا نَجْمَةٌ فِي اللَّيْلِ إِلَّا كَأَنَّهَا شُظَايَا نِضَالٍ بَيْنَ خِدْرٍ وَحَامِي
الشهداء. ٢٩يناير ٢٠٢٥.
#محمد_فرحات (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
لينين الزعيم الإنساني الديمقراطي
-
نوستالجيا ليالي الحلمية، وزينهم السماحي.
-
اسمي نجيب سرور ٧
-
صعود
-
حلم
-
-اسمي نجيب سرور--٤
-
اسمي نجيب سرور -1-
-
-نعي الأحلام المجهضة-
-
-أولاد حارتنا- المبادرة والانتظار .
-
عبد القاهر الجرجاني يُنظِرُ لقصيدة النثر.-سأعيد طروادة ثم أح
...
-
-بالضبط يشبه الصورة- ومُحدِدات الجنس الكتابي
-
نون نسوة مناضلة -بيضاء عاجية، سوداء أبنوسية.-.
-
ماتريوشكا
-
أحاديث الجنِ والسُطَلِ، المجدُ للحكايات.
-
نجيب محفوظ -نبيًّا-.
-
تحدي قصيدة النثر ؛ديوان-ابن الوقت- نموذجًا.
-
حائزة -عبد الفتاح صبري- في نسختها الأولى.
-
أخيرا العثور على المسرحية المفقودة لنجيب سرور-البيرق الأبيض-
...
-
الروائي شادي لويس وصفعة لوجه الرأسمالية القبيح.
-
مخطوطات نجيب سرور
المزيد.....
-
اسعدي أطفالك بكل جديد.. ضبط تردد قناة طيور الجنة بيبي 2025 ع
...
-
شاهد: لحظة إطلاق سراح الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود وتسليمه
...
-
تسليم الأسيرة الإسرائيلية أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يو
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد على القمر الصناعي النايل سات وال
...
-
مستعمرون يقطعون أشجار زيتون غرب سلفيت
-
تسليم رهينتين في خان يونس.. ونشر فيديو ليهود وموزيس
-
بالفيديو.. تسليم أربيل يهود للصليب الأحمر في خان يونس
-
الصليب الأحمر يتسلم المحتجزين الإسرائيليين أربيل يهود وجادي
...
-
القناة 13 العبرية: وصول الاسيرين يهود وموسيس الى نقطة التسلي
...
-
الكنائس المصرية تصدر بيانا بعد حديث السيسي عن تهجير الفلسطين
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|