|
الشرق الأوسط بعد عودة ترامب الى الحكم
فراس ناجي
باحث و ناشط مدني
(Firas Naji)
الحوار المتمدن-العدد: 8237 - 2025 / 1 / 29 - 22:59
المحور:
السياسة والعلاقات الدولية
مما لا شك فيه إن عودة دونالد ترامب الى الحكم في أمريكا هو من أكثر العوامل تأثيرا في حالة عدم اليقين والتوازن غير المستقر في المنطقة والعالم حالياً. لذلك من المهم تفكيك كيف يمكن لهذه العودة أن تؤثر في تطورات الأحداث في منطقة الشرق الأوسط وتحديد المسارات المحتملة لهذه التطورات.
في البداية لابد من الإشارة إلى حالة الانحدار التي تمر بها الإمبراطورية الأمريكية مقارنة بما كانت عليه من الصدارة والهيمنة العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، والذي تجلى بالتخبط العسكري في حربي العراق وأفغانستان، ومؤخراً في الفشل في حماية مضيق باب المندب من الحصار الحوثي، والتدني في متوسط العمر ومستوى المعيشة مقارنة بالدول المتقدمة الأخرى؛ بالإضافة الى الانكماش الاقتصادي مقارنة بالصين (على أساس تعادل القوة الشرائية) وضمور التصنيع فيها، والمشاكل المستعصية في تقديم الخدمات الأساسية لفئات واسعة من المجتمع الأمريكي. وعلى العكس من إنكار النخبة الحاكمة لهذا الانحدار، ظهر دونالد ترامب كزعيم من خارج الطبقة السياسية اعترف بأزمة المجتمع الأمريكي، واستثمر في شعور الاغتراب السياسي لمجموع الجماهير عن طريق عرض الحلول المبسطة وكيل الوعود للفوز بتأييد هذه الجماهير.
ومنذ أول أيامه في السلطة، عكس خطاب تنصيب ترامب وأوامره التنفيذية أولوياته الداخلية والتي شملت قضايا الهجرة والاقتصاد والحقوق الفردية والعفو الجنائي بما يعزز توجهات ومصالح معسكره اليميني المتشدد؛ بينما بالكاد تطرّق الى القضايا الخارجية مثل استعادة قناة بنما وهزيمة أعداء أمريكا وتفضيله لوقف الحروب او عدم خوضها، فطرح نفسه كصانع سلام من خلال دوره في اتفاق "عودة الرهائن" في حرب غزة. إلا إن أولويته الأهم والتي تصدى لها في يومه الأول بأوامره التنفيذية كانت تتمحور حول صراعه مع "الدولة العميقة" – وهي بحسب مناصري ترامب شبكات كبيرة من المسؤولين الحكوميين بمناصب رفيعة في الجيش والاستخبارات والقضاء من الواجب استئصالهم ليتمكن فريق ترامب من أداء مهماته – إذ شملت إجراء تغيير لعشرات الآلاف من الوظائف في جهاز الحكومة الاتحادية البيروقراطي، يكون مبنياً على أساس الولاء التام له.
إن هذا الصراع المحتدم بين إدارة ترامب والدولة العميقة سوف يتقاطع مع صراع مجتمعي لا يقل ضراوة في أمريكا بين اليمين واليسار والذي يتميز بانقسام جغرافي وايديولوجي وهوياتي (خاصة بالنسبة الى الذاكرة التاريخية حول الحرب الأهلية الامريكية)، ما قد يفسر نزوع سياسة ترامب الخارجية الى تهدئة الصراعات وتجميد الحروب لكي يتسنى لفريقه التركيز على الصراعات الداخلية التي يخوضها وكسبها. كل ذلك يشي بخلق أجواء من الشكوك والصراعات والخوف في جهاز الدولة مع حالات محتملة من عدم الاستقرار في المجتمع الأمريكي قد تؤثر بدورها على السياسات الأمريكية الخارجية.
ضمن هذا السياق يبدو إًن المسار المتوقع لسياسة إدارة ترامب في الشرق الأوسط هي وقف الحرب في غزة ولبنان ومحاولة الوصول الى اتفاق مع ايران لتحجيم برنامجها النووي، ثم العمل على إعادة المياه الى مجاريها بالنسبة الى اتفاقيات ابراهام مع الدول العربية وتوسيع عملية التطبيع مع إسرائيل لتشمل السعودية أيضاً.
الموقف الجيوسياسي الاقليمي الحالي
يمر الشرق الأوسط بمرحلة تغيّر جوهرية بعد أحداث عاصفة شملت معركة طوفان الأقصى والحرب في فلسطين، بالإضافة الى انهيار نظام الأسد في سوريا، من خلال سياق إعادة تشكيل النظام العالمي باتجاه التعددية القطبية. الحصيلة الأولية لهذه الأحداث المزلزلة أفرزت تركيا كالرابح الأكبر بوصفها الراعية الأولى لهيئة تحرير الشام التي سيطرت على الحكم في دمشق، والطرف الأكثر تأثيراً على المشهد السوري حالياً؛ ثم إسرائيل، التي استفادت من العَطَل (ولو مؤقتاً) الذي أصاب محور المقاومة بخروج سوريا من المحور بأهميتها الإستراتيجية كممر للدعم الإيراني لجبهة حزب الله في لبنان وكجبهة مُحتملة في الحرب ضد إسرائيل. كذلك رسخت أمريكا نفسها كراعية للنظام الإقليمي السائد في الشرق الأوسط والتي تحتفظ بقواعد عديدة في معظم دوله وبنفوذ كبير على الغالبية العظمى من الأطراف الفاعلة فيه. في المقابل، الخاسر الأكبر هو إيران التي كانت لها علاقة إستراتيجية مع النظام السوري منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية والتي استثمرت كثيراً في هذه العلاقة سواء بالأموال أو بالدعم العسكري والسياسي، بالإضافة الى محور المقاومة الذي تضرر توازن القوة بينه وبين إسرائيل بخسارة سوريا وبصعوبة تأمين الدعم اللازم لإعادة بناء القوة العسكرية لحزب الله والمقاومة الإسلامية في فلسطين.
المآلات الجيوستراتيجية المحتملة
لكن الأمر يختلف من المنظور الجيوستراتيجي على المديين المتوسط والبعيد، فالوضع الإقليمي والعالمي هما أبعد ما يكونان عن الاستقرار، وأكثر عرضة للتقلبات الحادة، ما قد يقلب موازين القوة الإقليمية ويغيّر مناطق النفوذ وساحات الصراع في المنطقة. فمن جهة، وعلى الرغم من الضربات القوية التي تلقاها حزب الله في لبنان وحرب الإبادة في غزة والاضرار الكبيرة التي صاحبتها، ما تزال قوى محور المقاومة بعيدة عن الهزيمة أو الاستسلام بدلالة اجبار إسرائيل على اتفاقيات وقف الحرب في جنوب لبنان وغزة بدون تحقيق إنجازات لافتة كاحتلال ثابت للأراضي أو تهجير قسري يمكن أن تستثمره إسرائيل في بناء مستوطنات أو إنهاء للقوة العسكرية والدعم الجماهيري لقوى المقاومة. كذلك فشلت إسرائيل في إنهاء الحصار البحري الذي أقامه الحوثيون في مضيق باب المندب أو في ردع الهجمات الصاروخية للحوثيين وإيران. ومن جهة أخرى، لا يزال المعسكر الغربي بقيادة أمريكا في مسار الانحدار والضعف مقابل القوى الدولية المنافسة على الصدارة العالمية مثل روسيا والصين؛ كما إن إسرائيل هي في وضع أسوء بكثير عما كانت عليه قبل معركة طوفان الأقصى ليس فقط عسكرياً واقتصادياً، بل سياسياً ومجتمعياً أيضاً بسبب الانقسام الحاد فيها بين معسكر العلمانيين ومعسكر المتشددين اليهود.
من هذا المنطلق يبدو إن هناك تحديات كبيرة تعيق التقدم في مسار السياسة الأمريكية القادمة في الشرق الأوسط أهمها هو التصادم بين عدم القبول الاسرائيلي بفكرة الدولة الفلسطينية والسعي لإنهاء أدوار قوى المقاومة الإسلامية في لبنان وغزة مع تقويض الدور الإقليمي الإيراني؛ وبين الواقع الإقليمي الجديد الذي خلقته معركة طوفان الأقصى والحرب في فلسطين من إرادة فلسطينية لم تنكسر للمقاومة والسعي لتقرير المصير مع صمود ايران واليمن-الحوثي (والى حد أقل حزب الله) كقوى فاعلة ضد الهيمنة الأمريكية في الإقليم، بالإضافة الى التأثيرات المهمة لتطورات الصراع العالمي بين أمريكا وروسيا والصين، والذي تمثّل مؤخراً بتوقيع معاهدة الشراكة الإستراتيجية بين روسيا وإيران. كذلك يصطدم سعي النظام السوري الجديد وبدعم تركي كبير لإعادة بناء دولة مركزية تحتكر السلاح وتمارس سيادتها على مجمل الأرض السورية، بمصالح إسرائيل التي تشعر بالتهديد من أي دولة قوية مجاورة ومن تمدد النفوذ التركي. فقد أوصت لجنة "فحص ميزانية الأمن وبناء القوة" الحكومية الإسرائيلية بالاستعداد لمواجهة مباشرة بين إسرائيل وتركيا، وتم عقد اجتماعات أمنية خاصة حول هذا الموضوع، بينما نوّه وزير الخارجية الإسرائيلي جدعون ساعر في نوفمبر الماضي الى تبني إسرائيل إستراتيجية "تحالف الأقليات" في المنطقة وخص الكرد والدروز كحلفاء مستقبليين لإسرائيل.
إذن حتى في حالة نجاح إدارة ترامب في فرض وقف العمليات العسكرية الواسعة في غزة ولبنان وما بين إسرائيل وايران – وهو احتمال غير مضمون – فإن الصراع العسكري في المنطقة سيستمر ولو في جيوب محدودة مثل الضفة الغربية أو جنوب لبنان أو سوريا، أو قد يمتد الى جبهات أخرى مثل العراق أو الأردن حسب مدى تصاعد مستويات التوتر والصراعات في المنطقة. لقد كشفت حرب الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل بالمشاركة الامريكية والدعم الغربي غير المشروط إن الاتجاه الحقيقي للمشروع الصهيوني هو التوسع وفرض الإرادات بالتوحش وليس السلام واستقرار المنطقة. كما إن استهتار أمريكا بضوابط النظام الدولي الذي أنشأته هي والغرب بعد الحرب العالمية الثانية واستخدامها لهيمنتها على النظام المالي والمصرفي العالمي لفرض عقوبات غير مشروعة تخدم مصالحها الضيقة، قد أنذر المنطقة بنخبها الحاكمة وشعوبها وأثار قلق حتى حلفاء أمريكا التقليديين فيها. فيما طورت دول المنطقة علاقاتها مع المعسكر المنافس للغرب، عبر العلاقات التجارية الواسعة مع الصين وعبر انضمام دول متعددة الى مجموعة بريكس المنافسة لمجموعي الجي 7 الغربية.
وإذا أخذنا في الاعتبار إن كل من إيران وتركيا – وهما اللاعبان الاقليميان الرئيسيان خارج الهيمنة الامريكية المباشرة – لديهما تجربة مرّة في تاريخهما الحديث في التصادم مع الغرب وتقديم التنازلات في استقلال وسيادة بلديهما، وإن لا رابح لأي منهما مع سقوط الآخر وتحوله للمعسكر الأمريكي-الصهيوني، تصبح احتمالية تقاربهما وتنسيق سياساتهم الإقليمية ضد المحور الأمريكي-الإسرائيلي أكثر احتمالا.
خلاصة القول إن ما أفرزته معركة طوفان الأقصى وحرب فلسطين من واقع إقليمي جديد بالإضافة الى الصراع العالمي الجاري نتيجة صعود روسيا والصين كدول عظمى تنافس نظام الهيمنة الأمريكية، يمثل تحدياً كبيراً للمضي في تنفيذ السياسة الأمريكية القادمة في الشرق الأوسط التي تستند بالأساس على عنجهية ترامب وسياسته في الصفقات الانتهازية. في تقديري إن هناك على الأغلب المزيد من الأحداث المزلزلة عالمياً وإقليمياً والتي ستلقي بظلالها على تطورات الاحداث في المنطقة ومآلاتها الجيوستراتيجية المحتملة. وإذا اخذنا في الحسبان إن الاستقرار الهش والتوازن غير المستقر قد أصبح ميزة للاعبين التقليديين مثل أمريكا وإسرائيل ودول الاتحاد الأوروبي، يمكن لنا أن نتوقع مسارات جديدة غير تقليدية لتطورات الأحداث لا تصب بالضرورة لمصلحة الهيمنة الامريكية ونظامها العالمي المتصدع.
#فراس_ناجي (هاشتاغ)
Firas_Naji#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحرب حول فلسطين ومستقبل المنطقة – الى أين؟
-
ثورة بغداد المنسية 1831- المحطة المبكرة في بزوغ العراق الحدي
...
-
حرب غزة وانكشاف أزمة الحداثة الغربية
-
إنتخابات مجالس المحافظات وأزمة أحزاب المعارضة في العراق
-
تحوّل إسرائيل الى عبء جيوستراتيجي على أمريكا وانعكاساته الاق
...
-
طوفان الأقصى والمشروع الوطني العراقي
-
14 تموز وتقرير المصير لكرد العراق
-
الحرب البريطانية العراقية 1941 ودروس اليوم - نزاعُ أجيالٍ أد
...
-
الحزب الشيوعي العراقي وعملية التغيير السياسي في العراق
-
الغطاء السياسي لسرقة القرن في العراق
-
الانتخابات المبكرة في العراق وإصلاح المنظومة الانتخابية
-
رؤية اجتماعية-ثقافية لنشوء الدولة العراقية، القسم الثاني
-
رؤية اجتماعية-ثقافية لنشوء الدولة العراقية، القسم الأول
-
التغيير السياسي في العراق: الممكن المستعصي
-
ما بين ثورة العشرين العراقية ويوم الأنزاك الأسترالي- مقارنة
...
-
الانغلاق السياسي في العراق، الى أين؟
-
حكام العراق الجدد وخرافة الدولة المصطنعة
-
المعارضة الوطنية والتحديات القادمة - انتخابات مجالس المحافظا
...
-
العراق ما بعد الانتخابات القادمة
-
أنْ نقاطع أو لا نقاطع الانتخابات العراقية القادمة...!
المزيد.....
-
إسرائيل تُعلن تأخير الإفراج عن فلسطينيين مسجونين لديها بسبب
...
-
الخط الزمني للملاحقات الأمنية بحق المبادرة المصرية للحقوق ال
...
-
الخارجية الروسية: مولدوفا تستخدم الطاقة سلاحا ضد بريدنيستروف
...
-
الإفراج عن الأسير الإسرائيلي غادي موزيس وتسليمه للصليب الأحم
...
-
الأسيرة الإسرائيلية المفرج عنها أغام بيرغر تلتقي والديها
-
-حماس- لإسرائيل: أعطونا آليات لرفع الأنقاض حتى نعطيكم رفات م
...
-
-الدوما- الروسي: بحث اغتيال بوتين جريمة بحد ذاته
-
ترامب يصدر أمرا تنفيذيا يستهدف الأجانب والطلاب الذين احتجوا
...
-
خبير: حرب الغرب ضد روسيا فشلت وخلّفت حتى الآن مليون قتيل في
...
-
الملك السعودي وولي عهده يهنئان الشرع بمناسبة تنصيبه رئيسا لس
...
المزيد.....
-
افتتاحية مؤتمر المشترك الثقافي بين مصر والعراق: الذات الحضار
...
/ حاتم الجوهرى
-
الجغرافيا السياسية لإدارة بايدن
/ مرزوق الحلالي
-
أزمة الطاقة العالمية والحرب الأوكرانية.. دراسة في سياق الصرا
...
/ مجدى عبد الهادى
-
الاداة الاقتصادية للولايات الامتحدة تجاه افريقيا في القرن ال
...
/ ياسر سعد السلوم
-
التّعاون وضبط النفس من أجلِ سياسةٍ أمنيّة ألمانيّة أوروبيّة
...
/ حامد فضل الله
-
إثيوبيا انطلاقة جديدة: سيناريوات التنمية والمصالح الأجنبية
/ حامد فضل الله
-
دور الاتحاد الأوروبي في تحقيق التعاون الدولي والإقليمي في ظل
...
/ بشار سلوت
-
أثر العولمة على الاقتصاد في دول العالم الثالث
/ الاء ناصر باكير
-
اطروحة جدلية التدخل والسيادة في عصر الامن المعولم
/ علاء هادي الحطاب
-
اطروحة التقاطع والالتقاء بين الواقعية البنيوية والهجومية الد
...
/ علاء هادي الحطاب
المزيد.....
|