|
عن الطوفان وأشياء أخرى (28)
محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8236 - 2025 / 1 / 28 - 20:29
المحور:
القضية الفلسطينية
-المقاومة ومعضلة القنفذ في النقاش (والأصح أن نقول "الردح") الدائر حول المقاومة (المسلحة تحديداً) والجدوى منها، يغيب عن بال الكثير أصل معنى "المقاومة" كسلوك موجود في الطبيعة تمارسه الكائنات الحية الحيوانية والنباتية على حد سواء، وبسب من صحة وصف المقاومة وبرهانها تجريبياً أصبح من السهولة بمكان إطلاق الصفة التعميمية عليها، بل وحتى نقلها إلى مجازات مختلفة كقولنا هذا المنزل العتيق "يقاوم" غدرات الزمن... إلخ وإذن؛ الأصل في المقاومة أنها خاصية ديناميكية تتصدى لفعل خارجي يؤثر على الذات أو الجماعة (بصرف النظر عن طبيعة هذا الفعل مادياً، أو فكرياً، أو سياسياً، أو سواه؛ وبهذا تصبح المقاومة أداة فاعلة ليس فقط في الدفاع عن النفس، ولكن أيضاً في مستوى العشيرة الإنسانية كجزء من المملكة الحيوانية وفي مستوى الاجتماع الإنساني كجزء من الحالة الأنطولوجية للنوع البشري)، بمعنى أنها تعبّر -هذه الخاصية- عن القدرة على التصدي للأطروحات، أو الأفعال التي تمارس تأثيراً ضاراً، أو غير مرغوب فيه، سواء على مستوى الظواهر أو الأفكار والتوجهات أو المواقف غير المتوافقة مع المنظومات المعرفية أو القيمية للفرد أو الجماعة. ويجرب التعبير عنها، أي المقاومة، كفعل وخيار عقلي واعٍ؛ يؤكد على مبادئ أو أفكار تتحدى وتتعارض مع معطيات راهنة لواقع معطى يراد تغييره أو احتواءه أو السيطرة عليه أو التصدي له.. وتتجسد، بالتالي، في السعي لتحقيق تغيرات مستدامة وفرض حدود، أو مواجهة لاستعادة توازن، أو تحقيق حرية (بالمعنى الوجود أو الحقوقي-السياسي)، أو هدف، أو سياق، أو حق من أي نوع. وعلى هذا، سيكون الفعل المقاوم تمثيلاً للقدرة على التصدي للتغيرات المفروضة بفعل تأثير خارجي. طيب... كيف نفهم "المقاومة" ونمارسها؟ منحت الطبيعة القنفذ وسيلة - أداة دفاع مميزة تجعله في منأى عن الافتراس، لكن معضلة القنفذ تكمن في مسالتين أساسيتين مهمتين لتطوير درجة "تأقلمه" مع تغيرات مفاجئة أو مستجدة أو طارئة. لا يملك القنفذ -ابتداءً- سوى أشواكه التي تغطي جسمه كآلية دفاعية لحماية نفسه من المفترسين ومن البيئة من حوله. وإذا ما أخفقت هذه الآلية في أداء وظيفتها، سيكون مصير القنفذ الموت المحتم لعدم امتلاكه مهارات دفاعية أخرى. من جهة أخرى؛ يعاني القنفذ تعقيدات "تقنية" في مواجهة بعض مظاهر الطبيعة؛ (وهذا عارض غير مرتبط بوجود أو عدم وجود المفترسات.. أي أنها مستوى آخر من التحديات من نوعية مختلفة). ففي يوم شديد البرودة تحتاج عشيرة القنافذ للدفء، فتسعى للتقارب، وكلما اقتربوا من بعضهم البعض أكثر؛ يزداد الألم الذي تتسبب به أشواكها؛ بيد أنه رغم هذا الألم سيكون الابتعاد عن بعض أشد ألماً نتيجة البرد الشديد، في هذه الحالة ستعمد القنافذ -وفقاً لتقنية وعي القطيع-إلى تغيير المسافات فيما بينها للوصول إلى المسافة الأمثل التي تؤمن الحماية من البرد والأشواك سواء بسواء*. صحيح حققت عشيرة القنافذ هدفها، لكن الأمر سيبقى متعباً في كل مرة يهطل المطر وفي كل مرة يولد قنافذ جدداً. (لا تملك القنافذ ذاكرة تستطيع تسجيل برنامج عمل يتضمن رأياً تجريبياً حدسياً لا يحتاج إلى استنباط حلول أخرى ضد البرد، لذلك ستبقى سجينة وعيها بطرق "المحاولة والخطأ" الغريزية؛ في مواجهة التحديات ومتطلبات التكييف المستمر). ولو امتلكت العشيرة "وعي بشري" في تلك اللحظة، فسوف تكون تحت ضغط نفسي هائل بسبب التوتر الناجم عن ملاءمة ظرفه الذاتي (الأشواك- حماية الذات) مع الظرف الموضوعي (البرد-حماية الجماعة). ومثلما أن أشواك القنفذ وسيلة دفاعه الوحيدة، فإن المقاومة (اقرأها الآن حماس) شكلت وسيلة دفاعية "مادية" (اقرأها الوحيدة الآن) الفلسطينيين لحماية أنفسهم من عسف واضطهاد الطغمة الاستعمارية في فلسطين، ومثلما شكلت هذه الوسيلة عنصر أمان وحماية نسبية للفلسطينيين وتمثيلاً لبعض تطلعاتهم؛ فقد أسهم تبنيها في الاصطدام بتحديات وآثارٍ جانبية، وعواقب (حصار، قتل، تهجير، دمار، وتبعات الحرب المستمرة). وسوف تشكل الظروف المحيطة في الفلسطينيين مجاز البرد عند القنافذ، وهي ظروف لا بد من أن تجبرهم على التقارب والاتحاد لمواجهة عدو مشترك، على الرغم من التباين في وجهات النظر والمواقف بينهم. ألم الأشواك يشبه الاختلافات الداخلية بين الفلسطينيين حول سياسات حماس وأسلوبها في إدارة المواجهة المسلحة والمقاومة. فالبعض يرى أن أفعال حماس، (رغم أنها دفاعية)، لكنها تضعهم في مواقف صعبة في مواجهة عواقب عسكرية وسياسية سيؤدي حتماً إلى خسائر كبيرة بين المدنيين. ومثلما عطلت القنافذ المسافة بينها سيسعى الفلسطينيون لإيجاد توازن بين دعم المقاومة كضرورة لمواجهة الاحتلال وبين التخفيف من تبعاتها على حياتهم اليومية، مما يعني الأخذ في الاعتبار المصالح والمخاوف والجدوى من كل خطوة، لاسيما في مواجهة عدو استعماري استيطاني عنصري. من قبيل هل يجب للمواجهة أن تكون محض عسكرية؛ أم يجب تضمينها استراتيجيات سياسية واجتماعية مختلفة؟ وهل خيار المواجهة هو خيار فردي أم جماعي؟ وهل يرتبط بفصيل أو بالفصائل معاً؟ ومن هنا يتولد التوتر، وحتى التعارض، بين دعم البعض للمقاومة المسلحة بصفتها ضرورة وطنية وشعورهم بثقل التضحيات اليومية الناتجة عن هذه المواجهة المفتوحة، وبالتالي الحاجة إلى تقويم استراتيجيات العمل الوطني بين حين وآخر لتقليل الخسائر قدر المستطاع. ستقول حماس إن خيار المقاومة هو الخيار الأنسب لمواجهة عدو على شاكلة إسرائيل (مثل القنفذ الذي لا يملك سوى أشواكه للتخلص من أعدائه، علماً أنه في زمن مضى كانت الحركة الوطنية الفلسطينية على اختلاف مشاربها ترى في المقاومة "المسلحة" الوسيلة الوحيدة لتحرير فلسطين وحق مشروع لإنهاء الاحتلال، ولا يمكن تحقيق الاستقرار في ظل الاحتلال والعدوان المتواصل). بينما يعبر الطرف الآخر عن حجم الألم الذي تسببه لهم الحركة بسياستها التي لم تتكيف مع الواقع الجديد، معتبرين أن على حماس مراجعة أسلوب مقاومتها "الوحيد" لمنع أو تقليل الضرر. (وهذا يتوافق مع الموقف العربي "الرسمي" منذ حرب العام 1973؛ وصار موقفاً "رسمياً" للعديد من الناشطين الفلسطينيين، وهم يشكلون تياراً عريضاً لا ينبغي الاستهانة به) ........ *أشار الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور إلى خاصية تكيف القنفذ هذه في عمله الذي نشره في العام 1851 في عمله "هوامش وملاحق" Parerga und Paralipomena. وتعرف في الأوساط الفلسفية باسم "معضلة قنفذ شوبنهاور"؛ كما تطرق لها فرويد في أحد الهوامش في كتابه "علم نفس الجماهير وتحليل الأنا" (راجع الطبعة العربية من ترجمة جورج طرابيشي؛ دار الطليعة 2006). كان الهدف من المجاز الفلسفي لشوبنهاور وصف "التحدي الذي يواجهه الأفراد في العلاقات الإنسانية، حيث يرغبون في التقارب العاطفي والاجتماعي، ولكنهم في نفس الوقت يتأذون من التقارب الشديد بسبب صفاتهم الشخصية أو اختلافاتهم". فالقنافذ تتقارب لتدفئة بعضها البعض في البرد الشديد، ولكنها قد تؤذي بعضها بسبب هذا التقارب فتبتعد عن بعضها، ثم تعود لتقترب مرة أخرى بسبب البرد، ثم تبتعد... وهكذا دواليك. الوعي بالحدود وحده الذي يجعل القنافذ تأخذ المسافة أو الوضعية المناسبة، ونظرا لعدم امتلاك القنافذ وعياً بتعيين الحدود، ستبقى تقترب وتبتعد وتقترب وتبتعد...
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (25)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (24)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (23)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (26)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (27)
-
استثمار الكارثة بين العقاب الإلهي والشخصنة والتأويل
-
قتل الأب عند دوستويفسكي
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (22)
-
مختبر فلسطين: تسويق وتصدير تقنيات الاحتلال
-
الطوفان وأشياء أخر (21)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (20)
-
علم الآثار الكتابي في إسرائيل: حين يغمّس -إسرائيل فنكلشتين-
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (19)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (18)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (17)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (16)
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
-
عن الطوفان وأشياء أخرى( 15)
-
عن الطوفان وأشياء أخرى (14)
-
عن الطوفان واشياء أخرى (12)
المزيد.....
-
تطورات الحادث الجوي في واشنطن.. طائرة ركاب اصطدمت بمروحية عس
...
-
مصادر لـCNN: اصطدام مروحية عسكرية بطائرة ركاب بالقرب من واشن
...
-
فيديو استقبال محمد بن سلمان وأداء صلاة الميت على الأمير محمد
...
-
كيف تتم عملية تبادل الرهائن في غزة؟
-
اصطدام مروحية عسكرية أمريكية بطائرة ركاب تحمل 60 شخصا بالقرب
...
-
يكثر استهلاكه في المنطقة العربية.. الحليب الحيواني الأكثر فا
...
-
إسرائيل: 11 رهينة محتجزين في غزة سيتم الإفراج عنهم هذا الأسب
...
-
تصادم طائرة ركاب مع مروحية عسكرية قرب مطار ريغان بالعاصمة ال
...
-
عاجل | رويترز: طائرة ركاب تابعة لخطوط جوية أميركية اصطدمت بط
...
-
ترامب يستعد لإعلان قرار يهم طلاب الجامعات المتعاطفين مع حماس
...
المزيد.....
-
اعمار قطاع غزة بعد 465 يوم من التدمير الصهيوني
/ غازي الصوراني
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
/ غازي الصوراني
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
المزيد.....
|