|
تعريب العلوم: جدل الهوية والتحرر
محمود سلامة
الحوار المتمدن-العدد: 8236 - 2025 / 1 / 28 - 12:11
المحور:
الطب , والعلوم
أثار إعلان جامعة الأزهر دراسة تعريب العلوم، بما يشمل المقررات الطبية، جدلاً واسعاً على مواقع التواصل الاجتماعي. تنوعت الآراء بين مؤيد يرى في الخطوة تعزيزًا للهوية الثقافية، ومعارض يحذر من تأثيرها على جودة التعليم الطبي والتصنيف الدولي للجامعة. وفي بيان رسمي، أوضحت الجامعة أن القرار ما زال قيد الدراسة العلمية الشاملة، مع الأخذ بعين الاعتبار الأبعاد الأكاديمية والتقنية لضمان تحقيق أفضل معايير التعليم الطبي وتلبية احتياجات الطلاب والمجتمع.
رغم تأييد البعض لفكرة تعريب العلوم الطبية باعتبارها خطوة نحو التوافق بين لغة الطبيب والمريض، أعرب آخرون عن مخاوفهم من أن يؤدي الاعتماد الكامل على اللغة العربية إلى عزلة علمية. يعود ذلك إلى هيمنة اللغة الإنجليزية على المراجع الطبية والدوريات العلمية.
المؤيدون لهذه الخطوة استشهدوا بتجارب سابقة لتعريب العلوم. معتبرين أن التعليم باللغة الأم يعزز من فهم الطلاب للمناهج الدراسية ويؤسس قاعدة معرفية متينة. الدراسات تدعم هذا الطرح، إذ تشير إلى أن التعليم باللغة الأم يساعد في تنمية مهارات التفكير النقدي، وحل المشكلات، والإبداع. كما أن استخدام اللغة المحلية يعزز من التفاعل بين الطبيب والمريض في الحياة العملية.
على الجانب الآخر، يشير المعارضون إلى تحديات كبيرة واجهتها تجارب مشابهة في دول أخرى مثل سوريا، حيث عانى الطلاب من صعوبة الاندماج في المجتمع العلمي الدولي. ويحذرون من أن تعريب التعليم الطبي قد يضعف قدرة الطلاب على المشاركة في المؤتمرات والأبحاث العالمية. بالإضافة إلى ذلك، يرون أن تعريب المصطلحات العلمية، التي غالباً ما تكون معقدة، قد يؤدي إلى “تشويه المعنى”، بالغ البعض أيضًا في هذا النقد واصفين اللغة العربية بالتخلف وأنها غير مناسبة للعلوم الحديثة.
قبل أن نحاول الاشتباك مع هذه المعركة، من الضروري أن نتراجع بضع خطوات إلى الوراء ونعيد النظر في الأسئلة الأساسية. قبل أن نناقش بأي لغة يجب أن نتعلم، علينا أولاً أن نفهم لماذا نتعلم من الأساس. ما هو الهدف الحقيقي من التعليم، خصوصًا في بلد يعاني من الفقر مثل مصر؟ الإجابة الشائعة والرسمية لهذا السؤال غالبًا ما تشير إلى أن الهدف هو توفير أيدٍ عاملة ماهرة وإعداد عمال قادرين على المنافسة في السوق العالمي.
في ظل هذا التصور، يصبح التعليم مجرد وسيلة إنتاجية تخضع تمامًا لاحتياجات السوق. ولا يوجد مثال أوضح على هيمنة هذا الفكر من الاقتراحات التي يقدمها بعض رجال الأعمال بشأن ضرورة التعليم باللغة الألمانية مثلا لتأهيل عمالة لخدمة عملاء الشركات ألمانية (على غرار تجربة الهند). أو الدعوات إلى تدريب عمال على التحدث باللغة الإنجليزية – وأحيانًا بلكنات محددة! – لتمكينهم من العمل في الشركات متعددة الجنسيات.
في مثل هذا السياق، يتحول النقاش حول التعليم باللغة الأم إلى سؤال “خارج التاريخ”. إذ إن السوق العالمي له لغته الخاصة، و”مواكبة التطور” تعني، ضمنيًا، التخلي عن ثقافتنا تمامًا والخضوع للغة السوق من أجل المنافسة.
هذا المنطق لا يقتصر على التعليم فقط، بل يمتد إلى كل المجالات تقريبًا. على سبيل المثال، في مجال الرياضة، تحاول الدولة الترويج لبرامج أشبه بـ”مفرخة” لإنتاج لاعبين مهرة يُصدَّرون إلى السوق العالمي ليصبحوا مصدرًا للعملة الأجنبية. ببساطة، في هذا النموذج الذي يحكمه منطق السوق، لا مجال للحديث عن الإنسان وتحرره كقيمة أو غاية في حد ذاته. الجميع مطالب بأن يكون جزءًا من ماكينة الربح، بلا اعتبار لأي أبعاد إنسانية أخرى.
تسقط هذه الرؤية الرأسمالية للتعليم التي تعمل فقط لأجل السوق وبلغته في تناقض واضح مع المبادئ الأساسية للعلم والتعليم. تشير الأبحاث إلى أن التعليم باللغة الأم يحقق نتائج أفضل في تطوير المهارات المعرفية. تؤكد منظمة اليونسكو (2022) أن التعليم باللغة الأم يعزز من فهم الطلاب للمفاهيم ويقلل من الإحباط، مما يدعم تقدمهم الأكاديمي. اللافت أن معظم دول العالم تعلم طلابها بلغتها الأم، حتى الدول ذات اللغات الأقل انتشارًا. أما عن المصطلحات العلمية، فهي تمثل نسبة صغيرة جدًا من المحتوى العلمي لأي تخصص (لا تتجاوز 5%)، وبالتالي فإن التحديات اللغوية في هذا السياق يمكن التغلب عليها إذا توافرت الإرادة والإبداع.
الأمر الآخر الذي يجب فهمه هو العلاقة الجدلية بين اللغة والإنتاج المعرفي. فاللغة ليست كيانًا جامدًا؛ إنها ابنة سياقها وزمانها. اللغة التي نتحدث بها اليوم ليست هي نفسها لغة المصريين قبل مئة عام، إذ تؤثر اللغة وتتأثر بالسياق الذي توجد فيه. في هذا الإطار، يستند معارضو التعريب إلى حجة مفادها أن غياب الإنتاج العلمي باللغة العربية يبرر الحاجة إلى التعلم باللغة الإنجليزية. إلا أن هذه الحجة تتجاهل حقيقة أن الإنتاج المعرفي – سواء كان علميًا، أدبيًا، أو فلسفيًا – هو الذي يحافظ على حيوية اللغة ويمنحها الاستمرارية. الإنتاج العلمي لا ينبثق من فراغ، بل هو ثمرة تفاعل مع سياقات اقتصادية واجتماعية محددة، تخلق الحافز والبيئة المناسبة لإنتاج المعرفة.
أما في مصر، فإن التعليم – بمعناه الحقيقي أو بأي معنى له بالأحرى! – يتذيل قائمة أولويات السلطة. كما عبّر “السيسي” يومًا: “يعمل إيه التعليم في وطن ضايع”. في ظل سياق يحتقر العلم والمتعلمين ويتعامل معهم كتهديد سياسي، لا مجال لإنتاج معرفي حقيقي، بغض النظر عن اللغة المستخدمة. فالدولة ومنذ تولي السيسي مقاليد السلطة لم تستوفي الحد الأدنى المنصوص عليه دستوريًا للإنفاق على التعليم، بل على العكس تمامًا تتوسع في خصخصة التعليم عبر الجامعات الأهلية التي تخرج -عمليًا- الجامعات الحكومية من الخدمة، أو كما قال “السيسي”: ” أنا معرفش حاجة اسمها ببلاش، ولازم يامصريين تتعودوا تأخد خدمة تدفع تمنها”. هكذا ببساطة، يتحول التعليم بدلًا من أن يكون وسيلة للتحرر وللترقي الاجتماعي إلى سلعة تنتجها الدولة لا يقدر عليها غير الأغنياء، وبهدف وحيد وهو خدمة السوق العالمي. فيصبح التعليم وسيلة لتعزيز اللا مساوة بدلا من القضاء عليها.
في مصر تبلغ نسبة الأمية حوالي 24.6% وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2022)، مع تركز الأمية في المناطق الريفية والصعيد. أكثر من 45% من المدارس في هذه المناطق تفتقر إلى البنية التحتية الأساسية مثل الفصول الدراسية المجهزة، المياه النظيفة، والصرف الصحي. كما أن الفقر يدفع حوالي 1.6 مليون طفل بين 6 و17 عامًا إلى ترك المدرسة للعمل أو لمساعدة أسرهم، حيث تعاني الفتيات بشكل خاص من الزواج المبكر والقيود الثقافية. بالإضافة إلى ذلك، يشكل الاعتماد المتزايد على الدروس الخصوصية عبئًا ماليًا على الأسر ويعمق الفجوة بين الطبقات الاجتماعية.
إعادة التفكير في التعليم: هل نحتاج إلى نموذج جديد؟ نعود مرة أخرى إلى سؤال اللغة، وسؤالنا الأكثر جوهرية عن جدوى التعليم. في هذا السياق، يساعدنا المفكر البرازيلي باولو فريري في كتابه الشهير تعليم المقهورين على استكشاف إجابات لهذه التساؤلات. هل التعليم مجرد عملية لتكديس المعلومات في عقول الطلاب؟ أم أنه وسيلة للتحرر الذاتي والفكري؟ وما المقصود حقًا بالتحرر؟
في جوهره، يجب أن يكون التعليم عملية تحررية تهدف إلى مساعدة الأفراد على فهم واقعهم وتحليله بعمق، ومن ثم تجاوز قيوده، بدلاً من أن يكون مجرد أداة لإعداد العمالة أو إنتاج أفراد يتناسبون مع قوالب جاهزة ومحددة سلفًا.
التعليم النقدي، كما يطرحه فريري، يهدف إلى تمكين المتعلمين من فهم التناقضات الكامنة في واقعهم. عبر هذا الفهم، يبدأ الإنسان بتحديد هوياته المختلفة وفهم تفاعلها مع العالم من حوله. هذا النموذج من التعليم يعتمد على الحوار والتفكير النقدي، على عكس ما يسميه فريري بـ”النموذج البنكي في التعليم”، حيث يتم تلقين الطلاب المعلومات بشكل سلبي دون مشاركتهم أو إفساح المجال للنقد. هذا النهج البنكي يعزز الفكر القمعي ويُنتج أفرادًا مهيئين لتلقي الأوامر وتنفيذها بدلاً من التفكير المستقل أو النقدي. يمكن رؤية هذا النموذج القمعي بوضوح عند الاطلاع على مناهج التاريخ في النظام التعليمي الحكومي المصري. هذه المناهج غالبًا ما تقدم نسخة شديدة السطحية وأحادية الجانب من التاريخ، تتبنى خطاب الدولة كما لو أنها كيان يتجاوز التاريخ والتغيرات. ليس من قبيل المصادفة أن يتم حذف أو تجاهل العديد من الأحداث والتفاصيل، والاقتصار على قشور سطحية تخدم الخط الرسمي للدولة دون فتح المجال لنقاشات أوسع أو وجهات نظر متعددة.
التعليم الحقيقي هو ذلك الذي يعزز التفكير النقدي، ويحرر العقول من القوالب الجاهزة، ويدفع المتعلمين لفهم واقعهم وتجاوزه. ولكنه لا يمكن أن يتحقق بمعزل عن سياق مجتمعي يدعم هذه الغايات. فهو يحتاج إلى بيئة تضع الإنسان في مركز اهتمامها، وتعتبره الغاية الأساسية لكل عملية تعليمية. تعليم كهذا لا يمكن أن يُزهر إلا في سياق يسعى إلى وضع مقدرات المجتمع وأدوات إنتاجه تحت سيطرة الغالبية، حيث تكون القرارات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية متجذرة في احتياجات الناس الفعلية، لا في متطلبات السوق أو مصالح فئات محدودة.
في مجتمع كهذا، تصبح الغايات الحقيقية للتعليم واضحة: بناء وعي نقدي، وتمكين الأفراد من تحدي التفاوتات الاجتماعية، وتحفيزهم على العمل الجماعي من أجل بناء مستقبل أكثر عدلاً وكرامة. وحين تتحقق هذه الرؤية الشاملة، يمكننا عندها فقط الإجابة بشكل حقيقي عن الأسئلة المتعلقة بجدوى التعليم، ولغته، ودوره في بناء مجتمع أكثر حرية ومساواة.
#محمود_سلامة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بيزنس الموضة في عيون الماركسية
-
سقوط نظام الأسد حصاد لعقود من الاستبداد
-
عرض كتاب “القضية الفلسطينية الآن”
-
ماذا يقول ماركس؟
المزيد.....
-
احذر السكر السائل.. هذه المشروبات تحتوي على كميات كبيرة منه
...
-
علامات الوسواس القهرى عند الأطفال
-
هل ستعزز روسيا والولايات المتحدة تعاونهما في الفضاء مع عودة
...
-
كوب من المناعة.. الينسون الدافئ يحسن دفاعات الجسم ضد الأمراض
...
-
أميرة بريطانية تضع مولودتها قبل أسابيع من -الموعد الطبيعي-
-
بلجيكا تشيد بمبادرة -الحكم الذاتي- في الصحراء المغربية
-
مؤشر أسهم أوروبا يقفز لمستوى غير مسبوق بفضل أسهم التكنولوجيا
...
-
علامات تحذيرية لالتهاب كبيبات الكلى وطرق الوقاية
-
نصائح لعلاج آلام المفاصل فى الشتاء
-
قهوة ولا شاى.. 6 آثار جانبية مزعجة للإفراط في الكافيين
المزيد.....
-
هل سيتفوق الذكاء الاصطناعي على البشر في يوم ما؟
/ جواد بشارة
-
المركبة الفضائية العسكرية الأمريكية السرية X-37B
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في الهند
-
-;-السيطرة على مرض السكري: يمكنك أن تعيش حياة نشطة وط
...
/ هيثم الفقى
-
بعض الحقائق العلمية الحديثة
/ جواد بشارة
-
هل يمكننا إعادة هيكلة أدمغتنا بشكل أفضل؟
/ مصعب قاسم عزاوي
-
المادة البيضاء والمرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
بروتينات الصدمة الحرارية: التاريخ والاكتشافات والآثار المترت
...
/ عاهد جمعة الخطيب
-
المادة البيضاء والمرض: هل للدماغ دور في بدء المرض
/ عاهد جمعة الخطيب
-
الادوار الفزيولوجية والجزيئية لمستقبلات الاستروجين
/ عاهد جمعة الخطيب
-
دور المايكروبات في المناعة الذاتية
/ عاهد جمعة الخطيب
المزيد.....
|