|
مع كتاب شخصية الفرد العراقي
صفاء علي حميد
الحوار المتمدن-العدد: 8235 - 2025 / 1 / 27 - 09:15
المحور:
قراءات في عالم الكتب و المطبوعات
كتاب ( شخصية الفرد العراقي ) بحث في نفسية الشعب العراقي على ضوء علم الاجتماع الحديث للمرحوم الاستاذ علي الوردي رحمة الله ...
طبع الكتاب اول مرة في بغداد عام 1951 وتم اعادة طبعة في عام 2001 بلندن عن منشورات دار ليلى ...
يقع الكتاب في ( 84 صفحة ) حسب الطبعة الثانية بلندن وجاء في مقدمتها بما نصه بالحرف الواحد ( لست أدعى بأن هذه المحاضرة بحث قد استوفي شروطه العلمية.
وربما صح القول: بأنها أشبه بالمقالة الأدبية منها بالبحث العلمي.
وعذري في ذلك: إنها محاضرة كتبت لكي تلقى في حفل عام، ولم يكن الغرض منها أول الأمر أن تطبع أو تنشر على القراء بهذا الشكل الحاضر.
إنها قد كتبت إذن على أساس الاسترسال الفكري وتداعى الخواطر. فهي لا تحتوي على فصول منظمة أو حلقات متتابعة كل حلقة تؤدي ما يليها، على حسب ما يستوجبه التسلسل المنطقي.
وربما تاه القارئ في طيات ما فيها من أفكار شتى لا يجمعها نظام موحد.
وعلى أي حال، فأن القارئ قد يستبين، بعد انتهائه من قراءة المحاضرة، بأنها تنقسم إلى قسمين رئيسيين:
القسم الأول منها أريد به بحث الشخصية البشرية بوجه عام . أما القسم الثاني فقد اختص ببحث شخصية الفرد العراقي ) ص 5 ...!
قبل ان ندخل في قراءة الكتاب اجد من المناسب ان اسأل الدكتور الوردي عن تعريف الشخصية في علم الاجتماع وعلم النفس ...؟
يجيب بما نصه ( علم النفس ينظر إلى الإنسان كفرد قائم بذاته، ولذا فهو يدرس شخصية الإنسان من حيث كونها مجموعة الصفات الخاصة التي تميز أي فرد عن الآخر.
وهذا مفهوم لا يخلو من صواب، ولكن علماء الاجتماع يضيفون إلى ذلك بان الشخصية، في كثير من وجوهها، ممثلة للمجتمع وهم اليوم يكادون يجمعوا على الفرد والمجتمع ما هما إلا وجهين لحقيقة واحدة، أو كما قال (كولي): أن الفرد والمجتمع توأمان يولدن معاً ) ص 6 ...
اختار المرحوم الوردي تعريف للشخصية بانها ( المجموعة المنظمة من الأفكار والسجايا والميول والعادات التي يتميز بها شخص ما عن غيره ) ص 12 ...
ننتقل للسؤال المهم الذي يجب ان نسأل الدكتور الوردي عليه وهو ايهما أهم في تكوين الشخصية الوراثة والعوامل البيولوجية ام المحيط والعوامل الاجتماعية وعلى هذا السؤال يجب المرحوم الوردي بما نصه ( لقد مال العلماء أول الأمر نحو التأكيد على العوامل البيولوجية أما اليوم فقد اصبحوا يعيرون اهتماما كبيرا للعوامل الاجتماعية ويعتبرون الشخصية، كما ذكرنا آنفا، نتيجة للتفاعل المستمر بين الدوافع الطبيعية العارمة في الإنسان من ناحية والقواعد التي يفرضها المجتمع عليه من ناحية أخرى.
ولا تظنوا أيها السادة أن سر الشخصية قد اكتشف نهائيا أو أن العلماء قد توصلوا بالضبط إلى اكتناه العوامل التي تؤثر فيها.
فلا يزال جزء كبير من الشخصية غامضا.
يقول تيرل في كتابه (شخصية الإنسان) أن هناك في أعماق النفس البشرية قوى خارقة مبدعة تتحدى نطاق الزمان والمكان ولا يمكن تفسير كنهها بما نعلم اليوم من قوانين الطبيعة ) ص 21 ...
حينما تسير مع الاستاذ المتمرس الدكتور الوردي فيما يسرده تظن نفسك في رواية لا تريد ان تنتهي بسبب كلماته البسيطة ذات الفهم العالي والعميق ...
فهو يتحدث عن كيف يصنع المجتمع المجرم ويساعده في اجرامه بدل هدايته واصلاحه وتهذيبه وجعله صالحاً للعيش المشترك مندمجاً مع الناس ...
يقول رحمة الله ما نصه ( فلو اقترفت جريمة وكان حضر اقترافها شخصان، أحدهما جميل والآخر دميم، فإن الشرطة عادة تكون أميل وأسرع إلى إلقاء القبض على الدميم منها على الجميل؛ وإذا جيء بالاثنين إلى المحكمة، فان الحاكم عادة يكون أميل إلى إدانة الدميم والإفراج عن الجميل، فإذا أدين الدميم وذهب إلى السجن، تعود هناك أفانين الجريمة حيث يتلقنها من زملائه في السجن، وهكذا يتخرج من السجن أستاذاً في الجريمة أو حاملاً لشهادة الدكتوراه فيها وإذا أراد يتوب لم يتب الناس عنه، فهم يطالبونه عادة بشهادة حسن السلوك في أي عمل شريف يريد أن يعمل به أنه مضطر إذن على أن يكون مجرماً.
لقد وسمه المجتمع بطابع الجريمة، فهو لا يتصور نفسه إلا كما يتصوره المجتمع وتجده لذلك يبحث عن أقران له يماثلونه في المصير فيؤلفون عصابة منظمة تتعاطى الإجرام وتتخذه حرفة لها.
وفي جو العصابة هذه يكتشف المجرم نفسه مرة أخرى، إذ هو يخلق فيها من جديد بنفس جديدة لها كرامتها ومنزلتها في مجتمع العصابة الصغير، وذلك بعد أن فقد الكرامة التي بخل المجتمع الكبير بها .... هكذا يصنع المجتمع بيده قاتليه ) ص 36 ...
المرحوم الوردي بعدما يذكر عدة امثلة يستنتج استنتاج مهم جداً يتعلق بالنفس البشرية وما يتكون حولها من شخصية فيقول ما نصه بالحرف الواحد ( هي صنيعة الجماعة أو صورة منعكسة عنها ) ص 37 ...
الجميل في دراسة المرحوم الوردي انه لا يحصر الحقيقة بنفسه ويدعي امتلاكه لها وحده فقط ويقوم بتعميم دراسته لجميع افراد المجتمع العراقي بل يتعامل معها معاملة علمية بحتة فيقول ما نصه ( ونحن إذ نتحول الآن نحو دراسة شخصية الفرد العراقي ونحاول أن نعين خصائصها ومزاياها، لا نعني أن كل فرد في العراق متصف حتماً بتلك الخصائص العامة.
فكثير من الأفراد يميلون إلى التمرد على ما تعودوا عليه في مجتمعهم من قواعد ومألوفات ) ص 44 ...
الازدواجية هي أولى الصفات التي يتميز بها المجتمع العراقي وهذا ما قال عنه المرحوم الوردي بما نصه ( لقد لاحظت بعد دراسة طويلة بأن شخصية الفرد العراقي فيها شيء من الازدواج وأني وان كنت غير واثق، كما قلت أنفا، من نتيجة هذه الدراسة ولكني أجد كثيراً من القرائن تؤيدني فيما اذهـــب إليه.
وقد يندهش بعضكم من هذا القول حيث انه لا يحس عيانا بهذا الازدواج الذي أعزه إليه. والواقع أن كثيراً منا فيه هذا الازدواج الشخصي قليلاً أو كثيراً، ولكننا نشأنا فيه، وتعودنا عليه بحيث أصبح مألوفاً لدينا، وهو يبدوا لنا كأنه طبيعي لا شية فيه ) ص 46 ...
بعد ذلك يذكر الوردي عدة امثلة على ازدواجية المجتمع العراقي وهي جديرة فعلاً بالمطالعة والقراءة الى ان يصل الى اسباب تلك الازدواجية وهي ثلاثة بحسب ما يقول ويوعزها الى نواحي ثلاث حضارية واجتماعية ونفسية ...
وعن الناحية الحضارية يقول الوردي ما نصه ( العراق كان من اوائل الأقطار في العالم التي نشأت فيها طبقتان : طبقة حاكمة وطبقة محكومة، أو بعابرة أخرى غالبة ومغلوبة.
أن هذه الحقيقة الحضارية تؤدي بنا إلى نتيجة عظيمة الاهمية؛ حيث نجد في العراق، منذ بدء المدينة الأولى، طبقتين أو حضارتين تتصارعان: حضارة بدوية محاربة من ناحية وحضارة زراعية خاضعة من ناحية أخرى.
فنشأ في العراق بناء على ذلك، نظامان للقيم: نظام يؤمن بالقوة والبسالة وتسود فيها قيم الاباء والشجاعة والكبرياء وما إلى ذلك من صفات المحارب الفاتح؛ وبجانبه نظام آخر يؤمن بالكدح والصبر ويمارس أداء الضريبة والخضوع والتباكي ) ص 50 ...
اعطى الوردي عدة امثلة جاء بها من العهد السومري والعباسي والعثماني ليبرهن على الناحية الحضارية لازدواجية المجتمع العراقي من هذه الناحية ...
بعد ذلك ينتقل الى الناحية الاجتماعية فيقول ( قد يلاحظ الباحث في العائلة العراقية ظاهرة يمكن أن نطلق عليها بظاهرة ((التجزء))، واقصد ((بالتجزء)) هو ما نلاحظ من انقسام في أسلوب الحياة بين الرجل والمرأة والطفل، فإذا علمنا بأن العائلة.
مكونة في جوهرها من عناصر ثلاثة الرجل والمرأة والطفل وجدنا بان كل واحد من هذه العناصر الثلاثة قد اخذ جانباً أو مجالاً من الحياة يختلف عن جانب الآخر.
فالمرأة مجالها البيت لا ينبغي أن تحيد عنه والرجل مجاله في أوقات فراغه المقهى، بينما ذهب الطفل إلى الزقاق يتسكع فيه مع أقرانه ) ص 57 ...
هذه الثلاثية الرجل والمرأة والطفل يتحدث عنها الاستاذ الدكتور الوردي ويسهب بل يطنب عن كل واحدة بالتفصيل المهم والجميل ...
بعد ذلك ينتقل المرحوم الدكتور الى الناحيك النفسية فيكتب حولها ما نصه ( العراقي بارع في اكتشاف العيوب فــــي غيره وماهر في عرضها على المستمع شيئا فشيئا.
والحقيقة أن كـــــلا منا ينتقد غيره، وكل منا ينسب خراب الوطن إلى الآخرين ناسيا انــه هو مساهم في هذا الخراب العام قليلا أو كثيرا.
والغريب أن موظفي الحكومة ينتقدون الحكومة كأن الحكومة مؤلفة من غيرهم.
وكل فرد من الناس ينتقد الناس كأنه ليس من الناس.
والواقع أن كلاً منا مبتل بنفس الداء الذي يراه في غيره.
فالموظف الصغير ينتقد الموظف الكبير على تأثره بالوساطة مثلاً .
بينما هو نفسه يتأثر بها أيضاً - ولكن على نطاق أضيق.
يسرع في انجاز معاملة تعود لصديق، أو لحامل بطاقة من صديق، ثم يرفع صوته بعد ذلك في ذم الواسطات وشرح أضرارها.
وقل مثل هذا عن عامة الناس، فرجل الشارع يشتكي عادة من ما يجده في الناس من كذب ونميمة وغش وغيبة ولكنه ينسى انه هو أيضاً يكذب وينــــم ويغش ويغتاب انه ينجرف مع التيار ثم يشتكي منه.
أن هذه الظاهرة النفسية المنتشرة في العراق يمكن تفسيرها بما في عقولنا الباطنة من دوافع مكبوتة تحاول التنفيس: فالدافع الجنسي مكبوت لشدة الحجاب، ودافع القوة مكبوت لسيادة الاستعباد في العراق منذ مئات السنين، ودافع الحياة مكبوت لما توالى في العراق من مجاعات وأوبئة وحروب وفيضانات ) ص 69 ...
ان محاضرة المرحوم الوردي عن شخصية الفرد العراقي جديرة بالقراءة والدراسة والفهم والتدقيق من اولها الى اخرها ولم نذكر هنا سوى مختصرات منها ...
وقد اكتفى الوردي رحمة الله بالازدواجية وتحدث حولها حديثاً علمياً واعياً ولم يكتفي بذكر السلبيات واكتفى بذلك بل ختم كلامه بكتابة هي بمثابة علاج لهذا المرض الاجتماعي القاتل ...
يقول رحمة الله ( لعلي لا اخطأ إذا حصرت العلاج بأنواعه الثلاثة:
أولاً: إزالة الحجاب عن المرأة ورفع مستواها وإدخالها في عالم الرجل لكي تتوحد القيم ويتشابه الرجل والمرأة فيما يفهمان وما ينشدان من مثل وأهداف.
ثانياً : تقليل هذا الفرق الكبير بين اللغة الدارجة واللغة الفصحى.
تحدثوا كما تخطبون واخطبوا كما تتحدثون اتركوا ما ابتدع سيبويه
ونفطويه، والحريري والهمذاني من لغو باطل وقيود لا فائدة منها.
ثالثاً : هيأوا للأطفال ملاعب أو رياضاً حيث يتكيفون فيها للحياة الصالحة تحت إشراف مرشدين أكفاء علموهم بأن القوة التي تحكم العالم اليوم ليست هي قوة فرد إزاء فرد أو سيف إزاء سيف.
إنها قوة العلم والصناعة والنظام فمن فشل في هذه أن له أن يفشل في معترك الحياة ... رغم ادعائه بالحق وتظاهره بالمثل العليا ) ص 74 ...
رحم الله العلامة الدكتور المرحوم الاستاذ المتمرس علي الوردي واسكنه فسيح جناته وجزى عن هكذا دراسات وهكذا ابحاث الف جزاء وجعله مرتاحاً في الدار الآخرة انه تعالى ارحم الراحمين وعلى كل شيء قدير !
#صفاء_علي_حميد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اصدقاء الكتابة ولا شيء غيرها
-
الدولة لا تسيطر على المليشيات
-
نصوص اسلام المذاهب (12)
-
برلمان الحمقى لا يجيد سوى الصراخ
-
القائد المليشياوي نهاب وهاب
-
امريكا تخشى المهدي المنتظر
-
نصوص اسلام المذاهب (11)
-
المعجزة التي حولت الاهتمام
-
غزة تكذب انها لم تنتصر
-
العصائب عملاء بأعتراف جابر رجبي
-
اتفاقيات وشراكات بلا جدوى
-
تحول الحب الى مرض قاتل
-
العلمانية ليست اصوات
-
أعتراف للأنسان الخطأ
-
نصوص اسلام المذاهب (10)
-
كص اجنحة الفصائل القاتلة
-
استقطاع رواتب الموظفين غير مبرر
-
نصوص اسلام المذاهب (9)
-
شامخاً ووفياً للعراق
-
لعن دائم على السوداني وغزة ولبنان
المزيد.....
-
العقل المدبر وراء -ديب سيك-: من هو ليانج وينفينج؟
-
بانتظار قرارات القضاء.. البحرية الإيطالية تنقل إلى ألبانيا 4
...
-
احتجاجات حاشدة في دالاس ضد سياسات ترامب للهجرة وترحيل الأسر
...
-
العراق.. الأمين العام لمنظمة -بدر- يعلق على إقالة رئيس هيئة
...
-
رويترز: صور تظهر تشييد الصين منشأة كبيرة للأبحاث النووية
-
مجلس الشيوخ الأمريكي يعرقل مشروع قانون لفرض عقوبات على الجنا
...
-
انفجار في سفينة حاويات في البحر الأحمر
-
إعلام إسرائيلي يكشف عن وعد -حماس- لأسرتي البرغوثي وسعدات
-
رئيسة الحكومة الإيطالية تخضع للتحقيق القضائي بعد قرار الإفرا
...
-
مصر.. الجامعات تحسم مصير طلاب المنح الأمريكية بعد تعليق إدار
...
المزيد.....
-
-فجر الفلسفة اليونانية قبل سقراط- استعراض نقدي للمقدمة-2
/ نايف سلوم
-
فلسفة البراكسيس عند أنطونيو غرامشي في مواجهة الاختزالية والا
...
/ زهير الخويلدي
-
الكونية والعدالة وسياسة الهوية
/ زهير الخويلدي
-
فصل من كتاب حرية التعبير...
/ عبدالرزاق دحنون
-
الولايات المتحدة كدولة نامية: قراءة في كتاب -عصور الرأسمالية
...
/ محمود الصباغ
-
تقديم وتلخيص كتاب: العالم المعرفي المتوقد
/ غازي الصوراني
-
قراءات في كتب حديثة مثيرة للجدل
/ كاظم حبيب
-
قراءة في كتاب أزمة المناخ لنعوم چومسكي وروبرت پَولِن
/ محمد الأزرقي
-
آليات توجيه الرأي العام
/ زهير الخويلدي
-
قراءة في كتاب إعادة التكوين لجورج چرچ بالإشتراك مع إدوار ريج
...
/ محمد الأزرقي
المزيد.....
|