أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - في غياهب الغيبوبة العقلية: من يستفيد من تغييب الوعي؟















المزيد.....


في غياهب الغيبوبة العقلية: من يستفيد من تغييب الوعي؟


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8234 - 2025 / 1 / 26 - 14:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في كل عصر، تتجلى ملامح السيطرة على العقل الجمعي للشعوب من خلال أدوات مبتكرة، غايتها إخفاء الضوء عن العيون، حتى لا ترى الحقيقة التي تكشف خيوط المؤامرة. لم يكن تغييب الوعي مجرد صدفة، بل هو فعل مقصود، تُحكم فيه حلقات الجهل والتضليل، ويُدار بعناية لتبقى الشعوب أسيرة الوهم، خاضعة لأهواء من يستفيد من غفلتها.
إن العقل العربي، الذي كان يومًا منارة للعلم والفكر، يعيش اليوم في غيبوبة مفتعلة، أبطالها مؤسسات وقوى، تعرف أن استيقاظ هذا العقل قد يُسقط عروشًا ويُغير خرائط. فالإعلام، على سبيل المثال، أداة فعّالة في هذا الصراع، وقد تحوّل من وسيلة لنقل الحقائق إلى سلاح يبث التفاهة ويغرق الجماهير في دوامة لا تنتهي من الاستهلاك السطحي. إنهم يقدمون الأخبار كما لو كانت طُعومًا لصيد العقول، ويملأون الشاشات ببرامج تخديرية، تصرف النظر عن القضايا الكبرى وتغرس قيمًا سطحية تجعل المواطن رهين اللحظة العابرة.
أما التعليم، تلك الساحة التي يُفترض أن تكون ميدانًا لتحرير العقول، فقد أُفرغ من جوهره، وصار أشبه بمصنع للتلقين، يُنتج أجيالًا عاجزة عن التفكير النقدي، تفتقر إلى أدوات التحليل العميق. لا يُعلمون الطفل كيف يسأل، بل يلقنونه الإجابة، حتى إذا ما كبر وجد نفسه مجرد ترس صغير في آلة لا يعرف وجهتها.
وإذا نظرنا إلى المؤسسات الدينية، التي كان يُفترض بها أن تكون حصنًا للقيم السامية، نجد بعضها قد انحرف عن رسالته، وصار شريكًا في تغييب الوعي. يُستغل الدين، تلك القوة الروحية العظيمة، كذريعة لتكريس الأمر الواقع، وتقويض أي محاولة للتغيير. يتم وأد الأسئلة الفلسفية الكبرى تحت مسمى “حماية الثوابت”، وكأن الفكر الحر يُهدد الإيمان، مع أن التاريخ يشهد أن الدين كان دائمًا حليفًا للتجديد لا عدوًا له.
وفي خضم هذا المشهد، تتبدى أمامنا صورة مألوفة، وكأنها نسخة جديدة من أوروبا في العصور الوسطى. عندما أقرأ صفحات “قصة الحضارة” لويل ديورانت، تتكشف لي صورة إنجلترا وفرنسا في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، وكأنها انعكاس لواقعنا العربي اليوم. شوارع تكتظ بالفقر والجهل، نقاشات عقيمة وجدالات لا طائل منها حول قضايا هامشية حسمها العقل والعلم منذ قرون، ومجتمعات تتصارع على الوهم بينما يفر العقلاء إلى عزلة مريرة.
لكن التاريخ ليس سلسلة متكررة من الإخفاقات، بل سجلّ حافل بالتجارب التي أثبتت أن الشعوب قادرة على النهوض إذا ما وجدت الإرادة. تأمل اليابان، تلك الدولة التي خرجت من العزلة القسرية في القرن التاسع عشر، لتُعيد بناء نفسها على أسس من العلم والانفتاح. لم تجعل اليابان من ثقافتها ذريعة تعزلها عن العالم، بل تصالحت مع الواقع، وأخذت من الغرب أدواته العلمية دون أن تتخلى عن خصوصيتها. فكانت النتيجة أن أصبحت نموذجًا عالميًا يُشار إليه بالبنان، لأن قادتها أدركوا أن الخصوصية الحقيقية لا تعني الجمود، بل القدرة على التفاعل مع المتغيرات وإعادة تشكيل الذات.
هذا الوعي بأهمية القيادة المتنورة ليس جديدًا على التاريخ. ففي أوروبا، كان فريدريك الثاني، إمبراطور الإمبراطورية الرومانية المقدسة، مثالًا حيًا على الحاكم الذي فهم أن العلم هو الطريق الوحيد للخروج من نفق الجهل. حين أمر بترجمة كتب ابن رشد إلى اللاتينية، لم يكن يفعل ذلك بدافع الإعجاب الشخصي فقط، بل كان يدرك أن الفكر العقلاني الذي مثله ابن رشد هو المفتاح لتحرير أوروبا من أغلال العصور المظلمة.
لكن السؤال الذي يثقل كاهلنا اليوم هو: لماذا نحن، في المنطقة العربية، نرفض أن نتعلم من هذه التجارب؟ لماذا نستمر في معاداة العلم والفكر النقدي؟ لماذا ننخرط في جدالات عقيمة حول قضايا حسمها العلم، مثل التعليم القائم على التفكير النقدي أو أهمية البحث العلمي في حل مشكلاتنا المزمنة؟
إن ما يهلكنا ليس نقص الموارد، بل تلك الحواجز العقلية التي نبنيها حول أنفسنا، والتي تمنعنا من التقدم. نحن لا نحتاج إلى إعادة اكتشاف الحقيقة، بل إلى شجاعة الاعتراف بأننا تأخرنا كثيرًا، وأن الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن نكسر أغلالنا الفكرية، ونتبنى نهجًا جديدًا يقوم على الإيمان بالعلم والفكر كأدوات للتحرر. لكن الصورة اليوم، كما في العصور الوسطى، تنقلب. فكما كان العلماء في أوروبا يُتهمون بأنهم عملاء للمسلمين الذين يحملون أفكارًا لا تتماشى مع الكنسية السائدة، يُتهم اليوم علماء العرب بأنهم أدوات للأجندات الغربية، أو حتى عملاء للأجانب. في ذلك الزمن، كان العلماء الذين نقلوا كتب ابن رشد وابن سينا إلى اللاتينية يُنظر إليهم على أنهم خونة لأفكارهم المحلية، حتى وإن كانوا يحملون إرثًا من العلم الذي فتح أبواب النهضة الأوروبية. واليوم، نرى نفس التهمة تُوجه لأبناء العلم والفكر في عالمنا العربي، فقط لأنهم يعبرون عن أفكار تتحدى الركود الذي تعيشه المجتمعات. لكن الحقيقة أن هذه الآليات هي نفسها التي يستخدمها حراس الجهل في كل عصر؛ فهم يتهمون العلماء بما لا يتناسب مع رؤيتهم الضيقة، لتظل العقول في دائرة مغلقة ترفض التغيير، رغم أن العلم هو السبيل الوحيد إلى النهوض.
نحن لا نحتاج إلى إعادة اكتشاف الحقيقة، بل إلى شجاعة الاعتراف بأننا تأخرنا كثيرًا، وأن الطريق الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن نكسر أغلالنا الفكرية، ونتبنى نهجًا جديدًا يقوم على الإيمان بالعلم والفكر كأدوات للتحرر.
ولعل أخطر ما في هذا التغييب أنه لا يتوقف عند الحاضر، بل يمتد ليعادي المستقبل. فيتم قمع العلم ومحاربته، وكأن المعرفة عدو يجب القضاء عليه. فالعلماء، بدلًا من أن يكونوا رموزًا يُحتفى بهم، يُقابلون بالسخرية والتشويه، ويتم اتهامهم بالابتعاد عن الواقع أو العمالة لأجندات خارجية. يُقتل الفكر الرصين قبل أن يولد، ويُحاصر الإبداع حتى يختنق في مهده.

ليس بعيدًا عن الذاكرة تلك المشروعات الفكرية التي كان بإمكانها أن تكون شعلة تنير الطريق، لكنها أُجهضت عمدًا. فمشروع محمد عبده للتجديد الديني، الذي كان يسعى إلى تحديث الفكر الإسلامي وربطه بروح العصر، قُوبل بمعارضة شديدة من القوى التقليدية. وطه حسين، الذي أراد أن يجعل التعليم حقًا لكل إنسان، حُورب بكل السبل، لأن علمه كان يشكل خطرًا على الجهل المقدس. حتى جمال حمدان، الذي وضع رؤى استراتيجية لاستعادة الهوية العربية، ظل حبيس كتبه، لأن أفكاره كانت تُهدد المصالح الراسخة لمن أرادوا بقاء الحال على ما هو عليه.
في هذا السياق، لا بد من الإشارة إلى الجهود المتواضعة التي تُبذل لإحياء الوعي، والتي غالبًا ما تواجه بالعقبات. فالمبادرات الشبابية التي تحاول نشر الفكر النقدي والتوعية المجتمعية تُحاصر، والإعلام الحر يُكمم، والمثقفون يُدفعون إلى هامش المجتمع.
لكن رغم كل هذا الظلام، يبقى الأمل ممكنًا. فالتاريخ يعلمنا أن العقول قد تُغيّب لفترة، لكنها لا تموت. إن الشعوب التي أضاءت العالم بفكرها في الماضي قادرة على استعادة مكانتها، إذا ما توافرت الإرادة. إن الطريق طويل وشاق، لكن أول خطوة فيه هي إدراك حجم الغيبوبة التي نعيشها، ورفض الاستسلام لمن يريدون لنا أن نبقى أسرى الظلام.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- هل يستطيع ترامب تنفيذ تصريحاته حول المثليين .. حدود السلطة ت ...
- بين ابتلاء العقل وابتلاء الواقع: قراءة في حريقين… وعقلين
- في عالم متغير: نحو نظام عالمي جديد بين التحديات والطموحات
- العقل العربي بين قيود الماضي وأحلام المستقبل
- الحضارة الغربية بين القيم والانتقادات: رؤية متوازنة
- من هزيمة المغول إلى كسر أوهام الشرق الأوسط الجديد: مصر مقبرة ...
- المستقبل في ظل الاعتماد على الروبوتات: العالم بين الابتكار و ...
- لماذا ينتظر العقل الجمعي العربي والإسلامي انهيار الحضارة الغ ...
- العقل الديني واستغلال الكوارث: بين الادعاء والحقيقة
- مجدي يعقوب: أيقونة الإنسانية والعلم في مسار نحو نوبل وجامعة ...
- الأسرى في ظلال الكهف: رحلة العقل من القيود إلى النور
- العقل المسلم بين تأكيد القناعات الذاتية والوقوع في فخ الأخبا ...
- العقل العربي بين الشماتة والكوارث: قراءة في الانهزام الحضاري
- أصداء الرعب: كيف تتحطم الأمم تحت وطأة الديكتاتورية
- العرب والمسلمون بين أسطورة الماضي وسراب الحاضر
- الإنسان المغترب: قراءة في فكر إريك فروم وأبعاد الاغتراب في ا ...
- انتظار الحلول الغيبية: هروب من الواقع أم أمل زائف؟
- ما الذي يدفع العقول المتعلمة إلى رفض العلم لصالح الوهم؟
- احترام الأديان والتعايش السلمي: رؤية نقدية لسلوكيات تسيء للإ ...
- سوريا على مفترق طرق: تساؤلات حول انهيار الجيش وتحديات المرحل ...


المزيد.....




- مصادر فلسطينية: قوات الاحتلال تعتقل اربع سيدات من المسجد الا ...
- مجلس الشورى الاسلامي يدين بشدة القرار الأخير للبرلمان الأورو ...
- عودة الآلاف لشمال غزة ارتبطت بالإفراج عنها... من هي أربيل يه ...
- عشرات المستوطنين يقتحمون باحات المسجد الأقصى تحت حماية شرطة ...
- حماس:المسجد الاقصى عنوان الصراع وستبقى القدس العاصمة ابدية
- حماس:المسجد الاقصى عنوان الصراع وستبقى القدس عاصمة ابدية
- بدء عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال غزة بعد موافقة حماس ع ...
- الجهاد الاسلامي: هذه العودة تأتي ردا على كل الحالمين بتهجير ...
- الجهاد الاسلامي:صمود شعبنا سيبدد احلام الصهاينة لسرقة الفرح ...
- الجهاد الاسلامي:تم افتعال مشكلة اربيل يهود بهدف قتل فرحة اهل ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - في غياهب الغيبوبة العقلية: من يستفيد من تغييب الوعي؟