محمود الصباغ
كاتب ومترجم
(Mahmoud Al Sabbagh)
الحوار المتمدن-العدد: 8234 - 2025 / 1 / 26 - 08:29
المحور:
القضية الفلسطينية
-الفلسطيني ومعضلة الحرية: غداً نهار آخر
تروي إيما غولدمان (1869-1940) في كتابها " أعيش حياتي" أنها كانت ترقص بجنون في إحدى الليالي مع أصدقائها، حين اقترب منها أحد رفاقها في الحزب بوجه قاتم، "كأنه سيخبرني بوفاة أحدهم"، هامساً لها: "لا يليق بثورية أن ترقص". فجاء ردها: ً"إنها ليست ثورتي؛ إن لم أستطع أن أرقص"*.
طيب... في سياق آخر، تقول الأسيرة المحررة نداء زغيبي أن ابنها لم يقبلها لأنه لمن يتعرف عليها؛ والذي كان عمره أقل من عام لحظة اعتقالها.
إذا كان يبدو من غير المنطقي المقارنة بين الروايتين فلا بأس من النظر لكليهما عن كثب كي نفهم لماذا تعمل المستعمَرة في فلسطين على مصادرة أي نوع من المشاعر الإنسانية للفلسطينيين الذين ممنوع عليهم ليس الفرح أو الرقص أو الغناء، بل ممنوع عليهم الحزن على شهدائهم وضحاياهم وبيوتهم، بل حتى ممنوع عليهم الألم، بالأحرى إظهار مشاعر الألم؛ وهو أكثر المشاعر عمقاً، يخضع للمراقبة، بحيث يتم حرمان الفلسطيني من التعبير عنه بحرية، ويصبح مرهوناً بإرادة المستعمِر، وكأنها امتياز يمنحه أو يمنعه وفقاً لمصالحه. ويندرج هذت في أن تلك المشاعر المختلطة هي مشاعر إنسانية حقيقية لا تخص مكاناً معيناً أو زماناً معيناً، وطالما هم ينظرون إلينا بسوية غير سوية البشر؛ فمن غير المسموح لنا إظهار مشاعر البشر.
لا يقتصر الاستيطان على السيطرة على الأرض فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة احتلال مشاعر ووعي الفلسطينيين بتجريدهم من مشاعرهم الطبيعية وتحويلها إلى أدوات للسيطرة والقمع، بحيث يصبح الفرح والحزن وحتى الألم خاضع لمنطق الاحتلال.
لعل العنوان الأوضح لهذه المصادرة هو خوفهم من إحساسنا بـ "الحرية". بمعنى ما هي -حقاً- مشكلتهم مع الحرية؟ وهل يستطيعون مصادرتها؟ (علينا التذكير هنا أن الحرية ليس مطلباً سياسياً فحسب، بل هي حق شخصي وجودي بالدرجة الأولى قبل أن تكون مطلباً جماعياً).
أليس هذا استلاباً للجوهر الإنساني لتلك المشاعر حين تخضع لعلاقات القوة والسيطرة.
هل مطلوب من نداء تحوير علاقة الأمومة ومشاعرها الفياضة إلى نمطية مختلفة؟ تتساوق مع شكل استعماري يسعى إلى فرض واقع يُجبر الفلسطينيين على التعامل مع أنفسهم وفق منظومة الاحتلال، مما يجعل التعبير عن المشاعر الحقيقية شكلاً من المقاومة في حد ذاته. فهو يحاول أن يصادر حتى العلاقة بين الأم وطفلها، ويعيد تشكيلها وفقاً لشروطه، بمعنى أن تخلق صيغ "للتعامل" الاحتلال بديلة عن صيغ "مقاومة" الاحتلال، وهل مثل هذه الصيغ قادرة على تفكيك الاحتلال أو حتى "التعامل" مع قوة العنف في المشروع الإسرائيلي الذي كان وما زال ينطوي على عملية مستمرة في تحويل الفلسطينيين ليس فقط إلى أعداء فحسب، بل إلى أغراب يقعون خارج "الحداثة"؛ وإرجاعهم-مجازاً و فعلاً- إلى حالة سجالية تقع بين "الحضارة" و "البربرية"، دون السماح لهم أو لغيرهم الخوض في تحديد أو تعيين أو تثبيت التجربة الفلسطينية الطامحة في لحظة ما لإنتاج "فلسطين" ؛ الآن وهنا.
إن ما هو مشترك بين إيما ونداء على صعيد العموميات، وهذا يشملنا نحن أيضاً، جملة الأحاسيس المتناقضة بين أن نكتشف ما يحقق لنا "السعادة" عبر غريزتنا الاجتماعية وبين غريزة "البقاء" أي اندفاع الأنا على حساب الغير، فنهرب نحو فكرة ما صحيحة بالمطلق كالحق مثلا لنغرق في وحل عبوديتها.
يصف إيريك فروم الإنسان بأنه كائن رد الفعل، أو كائن الاستجابة التي تحدث بفعل محرض وهو بهذا يتساوى مع الكائنات الأخرى من الجراثيم للصراصير والفئران حتى القردة، ولذلك يعتقد البعض أن السلوك الإنساني مبني على ثنائية العقاب والثواب اللذين يحملان تأثيراً كبيراً على مسار حياة الإنسان الذي يُنتظر منه أن يسلك، مثل أي كائن آخر، سلوكاً يقوده -في نهاية المطاف- لاقتناص المكافأة أو -على الأقل- تجنب المعاقبة أو حتى التهديد في العقاب "باعتباره معاقبة من سوية أخرى".
هذا، في الواقع، ما تحاول وتسعى إسرائيل إلى تعميمه حين "تتعامل" مع الفلسطيني بسياسات هدم البيوت والحصار والاعتقال والإعدام على الحواجز، وهي التي تحتل الأرض وما تحت الأرض والجو والفضاء والهواء وتعد الأنفاس. كل هذا من خلال نظام معقد من الرصد على مدار اليوم، وأقمار صناعية وطائرات استطلاع وبالونات حاملة للكاميرات للمراقبة في الوقت الحقيقي عند الاشتباه بأي عمل مقاوم، فضلاً عن تأسيس "بنك" معلومات هائل وقاعدة بيانات، واختبارات الـ DNA بحيث تحول الصراع إلى "حرب" تقاس فيه المسافة بين أطرافها بالأمتار أو أقل وهو ما أتاح لإسرائيل -من خلال تفوقها غير المتناسب، رصد كل غرفة في كل منزل ...كل سيارة ... وكل مكالمة هاتفية أو بث إذاعي.
لقد قامت إسرائيل بكي "سطح" الحياة الفلسطينية اليومية وطيّ معيشه اليومي كما تطوى السجادة؛ وهو أمر لا يمثل فقط اعتداء على الجسم الاجتماعي الفلسطيني ككيان سياسي محتمل؛ بل هو أيضاً اعتداء على "الحياة المجردة" بحد ذاتها. وكل هذا لا تعده إسرائيل -ومن يدعمها- إرهاباً. فالقاعدة المعروفة -على الصعيد الإسرائيلي- القيام بحرب شاملة ليس عسكرية فحسب، بل أيضاً دعاية عالمية تحول المجموع الفلسطيني إلى إرهابيين يتوجب حربهم من خلال السعي لتأسيس هوية تربط بين الإرهاب والمقاومة الفلسطينية للاحتلال دون تحديد شكل أو جذور أو سمات هذه الهوية. وقد سمح هذا النظام للمضي قدماً في التلاعب الفظ في تعريف معنى الأمن والإرهاب والعنف والمقاومة وتمزيق إهاب الحياة اليومية الفلسطينية؛ وفرض هندسة القوة ودفع فلسطين إلى حافة التاريخ وإلى حافة اليأس.
لا تمتلك نداء، ولا أحد غير نداء، عصا سحرية لاكتشاف ما استغلق من معادلات الصراع مع المستعمَرة.. وما زال الكثير على الفلسطينيين عمله ليس فقط على مستوى تثبيت الأبعاد الوجودية لحياتهم المادية، بل هم مطالبون بطرح تساؤلات (أكثر من الإجابة على تساؤلات) حول المعاني الراهنة للحرية والهُوية والمقاومة في ظل واقع يحاول سلب الفلسطينيين ليس فقط أرضهم، بل أيضاً قدرتهم على الحب والارتباط والتواصل.
الصراع مع المستعمَرة ليس فقط مواجهة مع قوة احتلال عسكري، بل هو صراع مع قوة تسعى إلى إعادة تشكيل العلاقات والذكريات والمشاعر وفق رؤيتها الاستعمارية. إذ ليس سهلاً أن تكون جاراً لعدو على شاكلة إسرائيل، ليس كمثله عدو، تحركه غرائز الحقد العنصري المكبلة بأساطير دينية متعصبة ومتحيزة، وعقد التفوق ومنطق "الأغيار"، ويبني عقيدته وفقاً لمقولة "ما لا أحصل عليه بالقوة، أحصل بمزيد من القوة".
مصدر الصورة https://www.facebook.com/MetrasWebsite
....
*تحدثت "الطفلة" الفلسطينية عهد التميمي بما يشبه تجربة إيما وذلك في سردها لتجربتها في السجن: "كنا نعمل حفلات ونغني ونرقص ونضل ننط بالغرف نتهبل وكنت أقضي الوقت في دورة القانون ودراسة التوجيهي وقراءة الكتب ومشاهدة التلفزيون وكنا نعمل فطور جماعي أنا والصبايا وغدا جماعي". كان هذا بعد الإفراج عنها (تموز 2018)؛ عقب قضائها عقوبة السجن ثمانية أشهر بتهمة صفع جندي إسرائيلي، كما أطلق سراح أمها، ناريمان التميمي، في اليوم ذاته، بعد أن ألقي القبض عليها بتهمة تصوير الفيديو الذي ظهرت فيه عهد وهي تصفع الجندي أمام منزلها في قرية النبي صالح.
#محمود_الصباغ (هاشتاغ)
Mahmoud_Al_Sabbagh#
الحوار المتمدن مشروع
تطوعي مستقل يسعى لنشر قيم الحرية، العدالة الاجتماعية، والمساواة في العالم
العربي. ولضمان استمراره واستقلاليته، يعتمد بشكل كامل على دعمكم.
ساهم/ي معنا! بدعمكم بمبلغ 10 دولارات سنويًا أو أكثر حسب إمكانياتكم، تساهمون في
استمرار هذا المنبر الحر والمستقل، ليبقى صوتًا قويًا للفكر اليساري والتقدمي،
انقر هنا للاطلاع على معلومات التحويل والمشاركة
في دعم هذا المشروع.
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟