"عن الحكم والمعارضة في العراق" (حلقة اولى) " دولة خَنَقت المجتمع المدني في المهد"
اذا كان العراق مهد الحضارات القديمة، والثقافة والعلوم في العهود الوسيطة، فأنه عانى التخلّف والأمرّين تحت نير الحكم العثماني الأقطاعي القروسطي بكلّ ادواره، وعانى من حروب الدولتين العثمانية والصفوية الدموية التي كان العراق مسرحها، والتي لم تُخلّف الاّ الدمار والحرائق والنحيب، والهجرة والمجاعة . . التي دامت بمجموعها اكثر من اربعة قرون .
ليكملها قرابة نصف قرن من السيطرة البريطانية (بواجهة حكم عراقي وطني)، التي وضعت اسس الدولة التابعة الحديثة، مفتتحة صفحة جديدة من الصراع الدامي بين السلطة التي تقود الدولة، وبين معارضة العراقيين المتنوعة، بسبب صعوبات العيش والفقر والغطرسة والأستغلال والشوفينية، والتي كانت تُقمع منذ البدء، لتندلع بشكل هبّات وانتفاضات، وتُواجَه بتشريعات تلك الدولة وقوانينها وشرطتها وسجونها،التي بُنيت لدعم الأحتلال، ولضمان سريان النفط رخيصاً الى ماكنته الصناعية العسكرية، بعيداً عن ضجيج المواجهة .
ثم نصف قرن بدأ بفجرثورة تموز 1958، لينتهي بمذابح هزّت الضمير، وفتحت الباب لطغم عسكرية جاهلة ادّت في الأخير الى حكم دكتاتور دموي شوّه المجتمع بالأرهاب والتعذيب والديماغوجيا والحروب والقتل الجماعي . . وسط صمت الغرب والشرق لأسباب متنوعة، مادام النفط لايتوقف سريانه رخيصاً !
يقول علماء الأجتماع ان شخصيّات الشعوب ووعيها وخبراتها لاتموت، وانما تنتقل عبر الأجيال، ان لم يكن بالكتاب اذا مُنع او حُرِق او حُرّم، فبالحكايات والروايات والأساطيرو الشعر والغناء والمواّل . . ولمّا كان تاريخ بلاد النهرين حافل وغني بالأحداث والتلاقح الحضاري لأقوام متعددة التجارب والمعتقدات والأديان والأنتماء، ازدادت خِبرْ البشر ووعيه في واديه حتى شاعت مقولة "العراقيون مفتحون باللبن، يقرأون الممحي (اللامنظور)".
ولمواجهة ذلك درجت السلطات المتعاقبة ومَنْ ورائها، على تمزيق العراقي(1) ووعيه وشعوره بالوطن ورغبته الطبيعية بالحياة الحرة، بتحريم المعارضة، وبالأفقار في بلد الثروة، وبالتجهيل والمرض وتفتيت شخصيّته بالرعب المنظّم وانعدام الأمان، فارضة عليه اللجوء الى القومية، الى الدين والمذهب والعشيرة، (الاّ انه لجأ بوعي وليس عن فطرة) . . ليعوذ بها من هول الظلم، وليجد للنفس ملاذاً، الاّ انه فوجئ بمخططات اخرى تستكمل التمزيق.
الأمر الذي جعل العراقي بالنتيجة يعاني من الكبت والقلق والتخوّف من المجهول، ويميل للمعلوم الملموس، او للغيب على سيرة الآباء ظاهراً، حابساً مشاعره ورغباته واحلامه المشروعة ، لينتفض بها على الظالم لدى اقلّ متنفّس ممكن، كاسراً تخوّفه وكبته والغيب . . عاكساً انطلاقه الذي انفلت من ظلم السلطة، وافراحه القلقة التي قلّما جاءت غير مقيّدة، وحزنه على سلب ارادته على مايجري، وهو واعٍ به !
نشوء الدولة العراقية
انهارت الدولة العثمانية بخسارتها الحرب امام الحلفاء، ووقع العراقيون امام محنة البديل للحكم الأقطاعي القروسطي الشوفيني، الذي حَكَم تحت راية القرآن وعانوا منه الأمريّن وعملوا وتمنّوا الخلاص منه، ومجئ حكم اجنبي غربي هزمَه، وقدّم الوعود للعرب العرااقيين بالتحرير، وبالحقوق القومية للكرد، الاّ انه لايمتّ الى الأرض و" لم يشرب من مائها الطاهر"، ولايمتّ للغتها ودينها وعاداتها، ازرق العيون، اشقر الشعر، مسلّح حتى الأسنان، مزوّداً بتكنيك لم يألفه قط .
استمرالجيش البريطاني يحتل البلاد، ويعزز وجوده بكثافة في مرافقها، غير مبالٍ بمشاعر العراقيين السلبية ازاءه، ومطالبتهم بالأستقلال، في الوقت الذي اخذ الوضع المعيشي للغالبية الساحقة منهم يتدهور، على ارضية الأقتصاد المخرّب بسبب الحرب وتجنيد الدولة العثمانية للعراقيين لمقاتلة الأنكليزمن جهة، وسوق الأنكليز للكثير منهم الى الخدمة في معسكراتهم، والى اعمال السخرة وشقّ الطرق ونقل السلاح، اضافة الى الأستيلاء على المحاصيل الزراعية، كشكل من اشكال الضريبة، وسنّ انواع الضرائب والتبرعات الأجبارية من جهة أخرى .
وقد اثارت اجراءات سلطات الأحتلال باقرار المراسيم العثمانية بتمليك الأراضي الزراعية التي تمّ اغتصابها من الفلاحين، لشيوخ العشائر وكبار موظفي الدولة، ولأبناء اغنياء المدن من العسكريين والتجار، وممارسة السياسة ذاتها، قاضية هذه المرّة بحرمان الفلاحين والملاكين الذين لم يقفوا مع الأنكليز في الحرب منذ البداية .
وازداد شعور العراقيين ان الأنكليز يخدعوهم، فلا تحرير ولاحقوق قومية للكرد، الأمر الذي اخذ يثير العراقيين، فبدأوا بممارسة انواع الأحتجاج السلمي سواءاً عن طريق الجمعيات اورجال الدين وبعض شخصيات المدن، اوبعض رؤساء العشائر، الاّ انها لم تلق اذنا صاغية ، الأمر الذي ادى الى انتفاضة النجف، عام 1918، التي اخمدت بالرصاص، واعدم قادتها، الحاج نجم البقال ورفاقه علناً . ثم اندلاع انتفاضة السليمانية الكردية بقيادة الشيخ محمود الحفيد التي أُخضعت بالحديد والنار . اضافة الى شنّ حملات تأديب عسكرية شرسة ضد الفلاحين والعشائر لأخضاعهم مخلّفين مئات القتلى والجرحى .
صدر قرار عصبة الأمم بوضع العراق تحت الأنتداب البريطاني اثناء انعقاد مؤتمر سان ريمو في نيسان 1920 ، الأمر الذي فجّر ثورة العشرين التي اجتاحت البلاد، وعبّرت عن رفض العراقيين للأحتلال، مطالبين بالأستقلال وبحل ازمة البلاد السياسية واطلاق الحريات، وانهاءالأزمات الأقتصادية، الأجتماعية، الدينية التي خلقها الأحتلال .
واجه الأنكليز الثورة بالحديد والنار، دون السعي الى تفهّم وحل المشاكل بالطرق السلمية، مستخدمين المدافع والطائرات، وحرق القرى وتدمير المدن المنتفضة، مجندين لذلك من ايّدهم من رؤساء العشائر والملاكين والضباط العثمانيين ، وكل الفئات التي ربحت، جاهاً وثروة من الأرتباط بهم، التي بدورها ايّدتهم . وبعد معارك ضارية، ولأفتقار الثورة لتنظيم ولقيادة موحدة، وخوف عدد من رؤساء العشائر على املاكهم ومصالحهم، ومحاولة الأنكليز استمالتهم والصفح عنهم، اخمدت القوات البريطانية المتفوّقة الثورة واعدمت عدد من قادتها وزجّت الآخرين في السجون والى المنافي .
انتبه الأنكليز الى ان القاعدة الأجتماعية للثورة والرفض لوجودهم والوعي السياسي كانوا اكبر مما توقّعوا، ومن جهة اخرى فرغم تعدد القوميات والأديان والثقافات،كان العراقيون يتجمّعون تحت راية الوطن ورفض الحكم الأنكليزي المباشر .
اثر ذلك نصّب الأنكليز فيصل بن الحسين ملكا على دولة العراق، بعد ضم ولاية الموصل (كردستان العراق) الغنية بالنفط اليها، بصفقة مع فرنسا من جهة ، ولأحكام السيطرة على منابع نفط كركوك وعلى الحكومة العراقية، لأطلاق يدها في ابرام عقود النفط من جهة اخرى . ووضعوا دستوراًعراقياً متطوراً قياسا الى واقع الحال آنذاك واقاموا مؤسسات دستورية شائهة بتعيين مستشارين انكليز(2) جوار كل المسؤولين من الملك وحتى مدراء المصالح الحيوية، يفرضون اتخاذ القرارات بما يلبيّ مصالح بريطانيا .
ومنذ قيام الحكم الملكي وطيلة وجوده، لم يخضع لانمط الحكم ولا الدستور لأبسط تصويت، وزُوّرت الأنتخابات البرلمانية، وفُرضَ الوزراء، وحوربت الحياة السياسية ولوحق السياسيون من كل القوى السياسية ومن كل القوميات والأديان والطوائف ، وزٌجّ بهم في السجون وفُُرضت الأتفاقيات الأقتصادية والعسكرية التي كبّلت البلاد وافقرت الشعب , واستمرت سياسة نهب الفلاحين واغراق تحرّكاتهم بالدم والسحل والسجن، وقُمعت مطالبات العمال بزيادة الأجور وتحسين ظروف العمل، وضُربت اضراباتهم بالرصاص، كما في اضرابات عمال النفط والسكك والميناء، وكذا الحال مع مطالب الطلبة والنساء، وكانت تُسَنّ لكل ذلك (قوانين واحكام) دستورية(!) يفرضها الحكام الأنكليز.
ويوجز ذلك الواقع قول الشاعر البغدادي المبدع معروف الرصافي، الذي اختير عضوا في البرلمان ثم استُغني عنه لمواقفه الوطنية التي اعتبرت تحريضاً وقذفاً بالحكومة، ومُنعت قصائده وحُكم بالأبعاد وفق القانون(!)، حين قال :
عَلَمٌ ودســـــتورٌ ومجلسُ أمةٍ كلّ عن المعنى الصحيح محرّفُ
اسماءٌ ليس لنا سوى الفاظها اماّ معانيها فليســـــــــت تُعرَفُ
لقد كان (الدستور) المعلن والبرلمان، ستاراً لتكريس العلاقات الأنتاجية شبه الأقطاعية المتخلّفة في العراق (وهي من اكثر انماط الأقطاع الآسيوي تخلّفاً(3) )، بتطبيق قانون دعاوى العشائر من جهة، واعاقة التطوّر الحضاري والرأسمالي للبلد، وحاجاته لمؤسسات ديمقراطية اكثر تقدمية وتحضّراً من جهة أخرى .
وبذلك انشأ الحكام البريطانيون جهاز دولة وسلطة للسيطرة على البلاد، كبقرة حلوب تابعة مستفيدين من التخلّف العام في البداية، حارمين العراقيين بعربهم وكردهم وكل اقليّاتهم القومية والدينية من سبل مواكبة التطوّر الحضاري، والعيش في اطار ركب الأنسانية التقدمي ككل شعوب العالم، قامعين ايّ صوت للأصلاح والمدنية والتحضّر والحقوق، يدعمهم من تدرّب في المدرسة العثمانية وحالفهم في البداية، ومن دعمهم لاحقاً على حساب مصالح شعبه ودمائه، لنيل مكاسب انانية، ولم ينجُ هؤلاء ايضاً من ركل ماكنة رأس المال لهم، عندما شكّلوا اية عقبة امام جشعها اللامحدود . (يتبع)
9. 7. 2003
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ليس المقصود هنا تجاوز الأنتماء القومي والديني . . وانما للأشارة الى وجود شعور وطني عراقي نحتته سوح الكفاح المشترك ووحدة المصير والمعاناة والعواطف والفرح والآلام التي جمعت اليها الكل وصاغت الشعور العراقي الذي يشدّه العراق، والذي يزداد قوة الآن بتقديرالكثيرين، لأنه عاد ليكون المصير الوحيد الممكن .
(2) كانوا في الحقيقة هم الحكام الحقيقيين، الذين يمتلكون الصلاحيات .
(3) أصطلح اسم "الأقطاع الآسيوي" الأبوي، تمييزاً عن مصطلح اقطاع اوربا الأكثر تحضّراً . راجع الأنسكلوبيديا البريطانية والألمانية .