|
لماذا تفوز الأحزاب اليمينية المتطرفة بأصوات الطبقة العاملة في جميع أنحاء أوروبا؟
رشيد غويلب
الحوار المتمدن-العدد: 8228 - 2025 / 1 / 20 - 20:07
المحور:
الهجرة , العنصرية , حقوق اللاجئين ,و الجاليات المهاجرة
أنطون جاغر - ترجمة:
أصبح صعود اليمين المتطرف، في الأربعين سنة الأخيرة، حقيقة مهيمنة في السياسة الأوروبية. منذ عام 1989، تمكنت الأحزاب اليمينية المتطرفة من زيادة قوتها التصويتية بمعدل بلغ قرابة 20 في المائة من الأصوات؛ وفي العقد الفائت، أصبحت على الأقل مرشحة للحكومة او وصلت إلى السلطة في دول مثل بولندا وفرنسا. بدأ هذا الاتجاه في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين مع الفوز الانتخابي لفيكتور أوربان في هنغاريا وأندريه دودا في بولندا، وسرعان ما وصل إلى النصف الغربي من القارة بنجاحات يمينية مفاجئة في إيطاليا وفرنسا وهولندا وألمانيا وأماكن أخرى. إن تقدم اليمين ليس موحداً بأي حال من الأحوال، ولكن يبدو من الواضح أن الديناميكيات السياسية تعمل لصالحه في الوقت الحالي. ولعل الأمر الأكثر إثارة للدهشة بشأن القوى اليمينية المتطرفة الجديدة، والتي تشكل ثلاث كتل مختلفة في البرلمان الأوروبي، هو قدرتها على كسب الدعم بين صفوف الطبقة العاملة أكثر بكثير من الأحزاب الفاشية والرجعية السابقة. وهذا يثير أسئلة صعبة ولكنها حاسمة بالنسبة لأي مشروع يساري حالي ومستقبلي في أوروبا. كيف يمكن تفسير التحول البروليتاري الجديد نحو اليمين، وقبل كل شيء: هل يمكن تغيير اتجاهه؟ هذا السؤال ليس جديدا على التحليل الماركسي. في وقت مبكر من عام 1941، تابع المنظر كارل كورش (1886 – 1960 منظر ماركسي وعضو الحزب الشيوعي في المانيا - المترجم) نجاحات حرب هتلر الخاطفة على جزيرة كريت من منفاه الأمريكي وقام بتفسير نظري طبقي جريء. وكتب كورش في رسالة إلى برتولت بريشت أن ما تم التعبير عنه في الهجوم الألماني هو "تحول طاقة يسارية إلى اليمين" ــ وهي رغبة ملتوية في السيطرة العمالية. وبعد عقود، لخص ألكسندر كلوغه (فيلسوف وكاتب ومخرج الماني 1932 - المترجم) وأوسكار نيغت (1932 – 2024 ، فيلسوف وعالم اجتماع الماني - المترجم) موقف كورش بخصوص الخلفية التاريخية للقوات الألمانية على النحو التالي: "خلال تحقيقه، وجد أن الطاقم المدني لأقسام الدبابات الألمانية كان في الغالب ميكانيكي سيارات أو مهندسين، وممارسين ذوي خبرة في الصناعة. وجاء عدد كبير منهم من محافظات ألمانيا التي تعرضت لمجازر دموية على يد السلطات خلال حروب الفلاحين (1524 - 1526). وفقا لكارل كورش، كان لديهم سبب لتجنب العلاقة برؤسائهم. وفي الوقت نفسه، كان جميعهم تقريبًا يفكرون في تجربة حرب الخنادق عام 1916، والتي يدينون بها أيضًا لرؤسائهم، الذين لم يكن لديهم ثقة كبيرة بهم في ذلك الوقت، وبهذه الطريقة، ووفقًا لكورش، أصبح من الممكن للقوات أن تخترع بشكل عفوي ولأسباب تاريخية الحرب الخاطفة بنفسها". على الرغم من أنه بعيد المنال من الناحية التحليلية، فمن المغري والمريح أن ننظر إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا من منظور مماثل. المناطق التي تمكنت من السيطرة عليها أخيراً أو منذ بعض الوقت مثل: ولاية تورينغن الألمانية، وضاحية بيلانكورت الباريسية، ومحافظة فلاندرز الشرقية في بلجيكا أو ضواحي فيينا كانت جميعها معاقل للحركة العمالية في القرن العشرين. ومن الواضح أن المطلب القديم بالسيطرة العمالية هناك تحول إلى كراهية شديدة للأجانب، وحلّت محل الرغبة في الإطاحة بالنظام البرجوازي محاولة سحق أضعف أعضائه. وسيرغب المرء ـ ان يعتقد مع كورش ـ أن خلف قناع الرجعية ما تزال هناك صورة تحررية محتملة، وأنه يمكن بناء مشروع يساري مرة أخرى على أنقاض الحركة العمالية. هل غيرت الطبقة العاملة اصطفافها؟ منذ أوائل التسعينيات، عندما حقق اليمين المتطرف أول اختراقاته في أوروبا، ظهرت مجموعة كبيرة من أدبيات العلوم الاجتماعية التي يبدو أنها تدعم تفسير كورش. وكما هو حال العديد من الدراسات حول الشعبوية، التي تتبع فرضية "تغيير الاصطفاف ": مع الانتقال إلى مجتمع ما بعد صناعي جديد، غادرت الطبقات العاملة الأوروبية تدريجياً بيتها السياسي السابق في الأحزاب الشيوعية والديمقراطية الاجتماعية وهاجرت إلى الطرف المضاد من الطيف السياسي. وبما أن التطرفين (في اليسار واليمين) يلامسان بعضهما البعض، كما فعل الليبراليون بالفعل في القرن العشرين فيما يتعلق بالشمولية في عصرهم، فقد كان بوسع العمال بنفس السهولة أن يجلبوا "طاقة اليسار" التي تحدث عنها كورش للتأثير على اليمين. شكلت هذه الأطروحة الخطاب السياسي خلال فترة التسعينيات الطويلة واكتسبت في ما بعد معقولية تتجاوز بكثير المناقشات الأكاديمية حيث اتخذ اليمين المتطرف بشكل متزايد موقفًا اجتماعيًا معاديًا لأوروبا. فقد تم تقديم التشكيلات اليمينية المتطرفة، من حزب الجبهة الوطنية الفرنسي إلى حزب الحرية النمساوي بقيادة يورغ هايدر، باعتبارها أحزابا عمالية أو تم إدراجها تحت عنوان "الشعبوية" - وهو مصطلح كان جديدا، نسبيا، في مفردات العلوم الاجتماعية في أوائل التسعينيات. ومع ذلك، فإن نقاط الضعف في الأطروحة واضحة. ورغم أنها تلامس بعض سمات خطاب التطرف اليميني الجديد، التي تستحضر خصائص ثقافية بدلا من الهوية "العنصرية"، إلا أنها غالبا ما تحررها من وصمة تقليد ما بعد الفاشية وتصورها كمدافعة عن الطبقة العاملة التي تدافع عن نفسها. وقد تخلى عنها ممثلوها اليساريون. وفي الوقت نفسه، لا شك أن مفهوم الشعبوية يدين بجاذبيته إلى الطابع الجديد لبعض هذه الأحزاب. وبما أنها لا تمتلك جناحا عسكريا ولا يدعمها قدامى المحاربين الذين يشعرون بالمرارة، لهذا فمن الصعب مقارنتها بأسلافها الفاشيين. ومن ناحية أخرى، استمدت شعبيتها من الانحدار البنيوي للأحزاب في أوروبا: فقد ابتعد الناخبون عن أحزابهم التقليدية وأصبحوا جزءاً من نوع جديد من "الشعب" الافتراضي غير المحدد الذي يمكن إغراؤه بسهولة من قِبَل قوى اليمين المتطرف. ان فرضية "الانتقال الى الجانب الآخر" كانت دائمًا أكثر من مجرد أداة تحليلية. وتحولت تدريجياً إلى برنامج سياسي شامل يدعو الأحزاب اليسارية إلى التكيف مع اليمين المتطرف والتعلم منه أو البحث عن قاعدة أخرى في الطبقة الوسطى الجديدة والبروليتاريا الخدمية متزايدة التنوع. وبما أن ناخبي اليسار السابقين قد غادروه، فسيتعين عليه العثور على ناخبين جدد. ان مصطلحات مثل "يسار لوبان" و"السياسة الحمراء والرمادية"، لم تدعم أدبيات التفسير الشعبوي لليمين المتطرف الجديد فقط بل دعت اليسار أيضًا ليحذو حذو ناخبيه السابقين، ورسائل وسائل الإعلام المثيرة للقلق والتحرك يمينا. واليوم أصبحت عواقب هذه الأطروحة أكثر وضوحا. بالنسبة للمؤسسة اليمينية المحافظة، فهي بمثابة ذريعة لمزيد من التحول نحو اليمين، في حين تحاول أجزاء من اليسار إما استعادة أصوات الطبقة العاملة من خلال تبني تكتيكات يمينية أو التخلي عن قاعدتها السابقة بالكامل. منذ أوائل التسعينيات، واجهت هذه الأطروحة معارضة. وأشار المنتقدون إلى أن نسبة إقبال الناخبين انخفضت اكثر من المتوسط في العديد من المناطق التي تعتبر الآن معاقل يمينية. وشددوا على أن الناخبين أحجموا عن أحزاب العمال بسبب خيبة الأمل إزاء إصلاحات السوق الليبرالية في التسعينيات والعقد الأول من القرن الحادي والعشرين، التي لا يجسدها مصطلح "العولمة" بشكل كاف، وليس بسبب كراهية الأجانب التي لا يمكن التغلب عليها. ما عدا ذلك سلطوا الضوء على أن علاقات هؤلاء الناس باليمين المتطرف أضعف بكثير من علاقتهم السابقة بأحزاب اليسار، التي وفرت لهم عالمًا اجتماعيًا كاملاً. إن مجموعة الدردشة عبر الإنترنت ليست مثل تجربة بيوت الشعب الإيطالية "كاسا ديل بوبولو"، وأساسا، يفتقر البرنامج الاجتماعي لليمين المتطرف إلى أي رغبة في مواجهة السلطة المتنامية لرأس المال. وهكذا نشأت مغالطة إحصائية كلاسيكية في أبحاث القرن الحادي والعشرين حول الفاشية: النتيجة هي أن المناطق التي تصوت فيها نسبة عالية من العمال للفاشية قد حجبت حقيقة أن الأصوات المعنية تأتي من الفئات الوسطى، وليس من العمال الذين كانوا دائما مفقودين بشدة في قوام الأحزاب اليمينية المتطرفة. ليس هناك أي تحول نحو اليمين في الطبقة العاملة، بل إن العديد من العمال الحضريين الهابطين من طبقتهم ابتعدوا عن السياسة تمامًا. لقد انتقل البعض بالفعل إلى اليمين مع البرجوازية الصغيرة الجديدة ـ جزئياً بسبب الخوف من المنافسة في سوق العمل، وجزئياً بسبب كراهية الأجانب، ولكن ليس كعنصر جماعي فاعل واع طبقيا. سيادة النزعات الفاشية بلا تعبئة لقد أصبحت موضوعة التحول الى الجانب الآخر في السنوات القليلة الماضية، أكثر جاذبية. ويبدو لا يمكن إنكار حقيقة أن العمال في شرق ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وبريطانيا العظمى وهولندا لا يبقون في منازلهم أثناء الانتخابات فقط، بل يصوتون للأحزاب اليمينية المتطرفة بشكل متزايد. وقد أدت إلى حرب تفسيرات مريرة. تصر العديد من الأصوات على أن صعود اليمين المتطرف ليس بأي حال من الأحوال، كما قال كورش ذات مرة: يمكن أن يُعزى إلى رغبة نفسية يسارية زائفة متصاعدة، بل يُفهم كتعبير عن عفن رأسمالي متأخر، وليس كتمرد يحتاج إلى عكس اتجاهه، بل كدافع لمهاجمته بشكل مباشر. في الجوهر، هناك الكثير من الاتفاق بشأن هذا التشخيص: التكوين الطبقي لناخبي الأحزاب اليمينية المتطرفة الجدد، ليس متجانسا بروليتاريا؛ وهم لا يتفاعلون، في كثير من الأحيان، مع أي حدث من شأنه أن يشير إلى أي "تهديد" ملموس من الهجرة؛ ويجري خداعهم لاتخاذ القرار، من قبل الطبقة السياسية من ناحية، والجيش المتنامي من رجال الأعمال اليمينيين المتطرفين ووسائل التواصل الاجتماعي من ناحية أخرى، وانحراف أوروبا نحو اليمين يرجع إلى التقارير الإعلامية المثيرة أكثر من المشاكل الفعلية التي تواجهها أوروبا. ووفقا لهذا النقد، فإن قاعدة اليمين المتطرف الجديد لا تتكون من “مواطنين ينتابهم القلق” بل من قطاعات انتقامية من البروليتاريا الرثة والفئات الوسطى غير القادرة على التعامل مع حقيقة التغير الاجتماعي في القرن الحادي والعشرين. وقد حاولت بعض الأدبيات بشأن "الفاشية الجديدة" أو "الفاشية المتأخرة"، التي يمثلها مؤلفون مثل ألبرتو توسكانو وإنزو (فيلسوف ومنظر اجتماعي ماركسي إيطالي من مواليد 1977 – المترجم) ترافيرسو (باحث إيطالي في التاريخ الفكري الأوروبي، تولد 1957- المترجم)، وضع الأوهام الانتقامية لليمين المتطرف اليوم في هذا الإطار، وإظهار كيف تستحضر الظروف الجديدة أشباحًا قديمة. وكما هو الحال مع مفردة "شعبوي" ذات الفائدة المحدودة للغاية عندما يتعلق الأمر بفهم اليمين الجديد، فإن مصطلح "الفاشي" يثبت أيضًا أنه قليل الإضاءة. وفي ضوء الإيديولوجية المفضلة، من "التبديل الكبير" المفترض للسكان إلى الأوهام العرقية القومية الأخرى؛ فمن الصعب نكران استمرارية القرن العشرين. وكما لاحظ المؤرخ كريستوفر هيل ذات مرة، في السياسة، كما هو الحال في علم الأحياء، غالبًا ما تثبت العوامل البيئية أنها لا تقل أهمية عن النسب. ويواجه الفاشيون اليوم ظروفًا مختلفة تمامًا عن أسلافهم. على سبيل المثال، فقدت النزعة العسكرية قدراً كبيراً من أهميتها، ولم يعد اليسار يشكل تهديدا ثوريا. يكتب ديلان رايلي بدقة (أستاذ علم الاجتماع في جامعة كاليفورنيا، بيركلي- المترجم)، أن خصوصية اليمين المتطرف المعاصر تصبح واضحة عندما يدرك المرء أن الفاشيين لم يتمكنوا تقليديا قط من الحصول على دعم قوي في صفوف الطبقة العاملة، وشكل هذا مصدر إحباط مستمر لكادرهم القيادي. وصلت الفاشية الأوروبية إلى السلطة في وقت كانت فيه المواجهة الاجتماعية واسعة النطاق: انتصر هتلر وموسوليني بعد محاولات فاشلة للثورة البروليتارية، واعتبرتها النخب الخيار الواعد لتحقيق استقرار النظام الاجتماعي وضبط العمال مرة أخرى. لا توجد بروليتاريا قوية في أوروبا اليوم؛ وقد أدى تراجع التصنيع والبطالة إلى إضعاف العاملين بأجر بشكل خطير. وعلى النقيض من ثلاثينيات القرن العشرين، عندما كان العنف الفاشي في الشوارع مزدهرا، يعتمد اليمين المتطرف اليوم على إضعاف تعبئة المنافسين، في الانتخابات وبعدها. على سبيل المثال، فاز حزب "إخوة إيطاليا" بزعامة ميلوني في الانتخابات، التي لم يشارك فيها قرابة أربعة من كل عشرة إيطاليين، وانخفضت نسبة المشاركة في الانتخابات قرابة 10 في المائة. وفي فرنسا، كان أداء حزب التجمع القومي الذي تتزعمه لوبان بأفضل حالاته عندما تكون نسبة إقبال الناخبين على التصويت في أدنى مستوياتها. وفي بولندا، حيث وصل حزب القانون والعدالة التابع للأخوين كاتشينسكي إلى السلطة، فهو لا يضم 1 في المائة من السكان في صفوفه. من الواضح أن الأمر لا يتعلق بالجماهير، بل يتعلق بتمارين في إطار سلبية منسقة لا تكاد تقارن بالأحزاب الجماهيرية في القرن العشرين. وكما لاحظ ديفيد برودر (محرر مجلة جاكوبين الأوروبية ومؤرخ للشيوعية الفرنسية والإيطالية) في حالة إيطاليا، فإن "الصعود الأخير لحزب يميني متطرف في مهد الفاشية يدفع بالتأكيد إلى تشبيهات قوية"، ولكن "هذا لا يعني أن ورثة موسوليني يكررون، ببساطة الماضي في الحاضر، أو حتى أن العناصر الفاشية في ثقافتهم مستعارة دائمًا من إيطاليا في فترة ما بين الحربين العالميتين. وتبين البيانات المتاحة الطبيعة المعاصرة العميقة لصعود اليمين المتطرف في أوروبا، فهو يعتمد على أنواع جديدة من الشبكات المتطرفة، وليس على العودة إلى عنف الفيالق الحرة أو النزعة العسكرية البولانغية (نسبة الى الجنرال الفرنسي ارنست بولانغر – المترجم) التي كانت متأخرة تاريخيا، وسعت إلى إنشاء مستعمرات في أوروبا. شرق. لقد وعد هتلر وموسوليني بإمبراطوريات استعمارية مثل تلك التي استحوذ عليها منافسوهم الفرنسيون والبريطانيون منذ فترة طويلة. وكان هدفهم كسر الحدود، وليس تعزيزها. بالضد من ذلك، يريد اليمين المتطرف اليوم عزل العالم القديم عن بقية العالم؛ ويدرك أن أوروبا لن تظل بطلاً قوياً في القرن الحادي والعشرين، ويمكنها في أفضل الأحوال أن تأمل في الحماية من جحافل ما بعد الاستعمار. ماذا يقول لنا هذا عن تشريح الظاهرة؟ كما ذكرنا سابقًا، فإن الموجودين على اليسار والذين يريدون محاكاة نجاح اليمين المتطرف داخل أجزاء من الطبقة العاملة وأولئك الذين يتخلون ببساطة عن التضاريس الطبقية يواجهون المشكلة نفسها. إن الفرضية القائلة بأن العمال ينتقلون إلى اليمين المتطرف تجد بعض التأكيد التجريبي، ولكنها تنشأ من قرارات معيارية أولية أكثر من التحليل العلمي الرصين. والأمر الأكثر إثارة للدهشة بشأن النجاحات الانتخابية التي حققها حزب البديل من أجل ألمانيا والأحزاب اليمينية المتطرفة في الغرب بشكل عام هو أنها لا تعود إلى إعادة التعبئة، بل إلى تفكيك او إضعاف التعبئة، فمعظم العمال يبتعدون عن السياسة، في حين يتحول عدد قليل منهم إلى اليمين المتطرف، ويتم بعد ذلك تقديم هذا الجزء الصغير كممثل لعمليات تفكيك او إضعاف تعبئة عموم الطبقة العاملة. وعلى هذا فإن عملية تفكيك التعبئة يُساء فهمها باعتبارها عملية إعادة تعبئة، إذ يقوم بعض الناخبين من الطبقة العاملة بتجربة تشكيل أحزاب جديدة، ولكن رد فعلهم المهيمن يتلخص في مزيج من اللامبالاة والانسحاب، وليس التحول المتمرد الى الجانب الآخر. وحتى الأعداد المحدودة التي تهاجر إلى اليمين، ما يخلق وهمًا بصريًا بانشقاق عام، تميل إلى أن يكون ارتباطها بالأحزاب اليمينية المتطرفة الجديدة أضعف بكثير مما كان عليه الحال سابقًا مع أحزاب اليسار (وهو النمط الذي يحدث في شمال فرنسا، حيث تمكنت لوبان سابقًا من التغلب على معاقل الشيوعية، ويتجلى ذلك بشكل خاص في ألمانيا الشرقية). إن التصويت لليمين المتطرف هو مسألة خاصة، ويحتفظ بها المرء لنفسه، وليس التزاما عاما، وهو سلوك أكثر عدوانية وسلبية منه نشطا، وغير موضوعي او ملزم أكثر منه موضوعي او ملزم. في مقالته عن سيرته الذاتية وعن والديه الشيوعيين السابقين، وصف ديدييه إريبون (فيلسوف ومؤرخ فرنسي ولد في 10 تموز 1953) كيف كان لا بد من التعبير عن انتقال والده إلى اليمين المتطرف بطريقة مختلفة عن أسلوب حياة الشيوعي الذي التزم به سابقًا: "على النقيض من التصويت للشيوعيين "حيث يصوت بثقة ووضوح وعلنية، فإن التصويت لصالح اليمين المتطرف سيكون مخفيا عن الخارج، وحتى يتم إنكاره". ويلخص إريبون اختلافًا آخر في الثقافة الشيوعية على النحو التالي: "عند التصويت للجبهة الوطنية، ظل الأفراد كما هم". الرأي الناتج هو مجموع قرارات تلقائية وردود فعل مسبقة. مديات رد الفعل عند النظر الى فرضية تغيير الاصطفاف، من المهم تجنب موقفين متطرفين: مثلما ان التطرف اليميني الجديد ليس تعبيرا حقيقيا عن احتياجات الطبقة العاملة، التي تخلى عنها اليسار التقدمي بشكل مفرط، كذلك هو ليس مشروعًا حصريًا للطبقات الوسطى والنخب، التي تتظاهر بأن لديها قاعدة بروليتارية. ان طريقا وسطا بين الاقتصادي والثقافي يحمينا من تحويلها إلى تمرد بروليتاري أو الادعاء بأن الانحدار الاجتماعي والاقتصادي هو مجرد هلوسة ناخبين يمينيين متطرفين. إذا لم يكن صعود اليمين المتطرف تعبيراً مشوهاً عن "المصالح المادية"، فلا ينبغي لنا، على العكس من ذلك، أن ننظر إليه باعتباره "ظاهرة بناء فوقي" محضة، وبالتالي نحجب الأسباب الاقتصادية الكامنة وراء الأزمة الحالية. ومن الممكن أن يؤدي منظور كورش إلى تبريرات دفاع مريحة، ولكن هناك أيضاً نوع معين من مناهضة الاقتصاد التي تنطوي على خطر حجب التضاريس الاجتماعية، وبالتالي التخلي عن احتمال تغييرها. ولكي نفهم البيئة القابلة ببساطة للاشتعال، التي يقوم المتطرفون اليمينيون المهووسون بإيقادها، لإشعال الحرائق في أوروبا، فإننا في حاجة إلى قدر أقل من علم النفس الجماهيري والمزيد من الاقتصاد السياسي. إذا فهمنا الأمر بهذه الطريقة، فإن اليمين الجديد هو في الجوهر محاولة للسيطرة الخطابية على التناقض المركزي بشأن تمويل أوروبا: اقتصاد لم يعد قادراً على تحقيق أي ارتفاع كبير في الإنتاج، وبالتالي يعتمد على العمالة الرخيصة لتحقيق نموه الهزيل، يواجه شعباً يرغب على نحو متزايد في رؤية تدخل الدولة في إدارة النظام. أحد الجوانب التي غالباً ما يتم إهمالها بشكل خاص هو كيف تدعم العوامل الاقتصادية الوضع المتناقض للهجرة في الحياة الأوروبية العامة. بعد التراجع الجزئي للتصنيع في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، ظل توفير العمالة الرخيصة أمرا لا غنى عنه: كان النمو الديموغرافي مطلوبا لدعم قطاع الخدمات المتوسع وكذلك لدعم القدرة التنافسية للصناعة الأوروبية في سوق عالمية متزايدة التنافس. وعلى الرغم من خطابها المنمق، فإن الأحزاب المحافظة لم تفعل الكثير، في العقود الأخيرة، لتغيير هذا النموذج الهش للنمو. في بريطانيا العظمى، على سبيل المثال، لم يخفض حزب المحافظين عدد المهاجرين في السنوات العشر الماضية، ولم يقم حتى بأدنى محاولة لتشجيع نقل الإنتاج الصناعي إلى أراضي البلاد، كما فعل جو بايدن، بينما تزايد الغضب في قواعدهم. لقد تزايد السخط بين السكان البريطانيين منذ نهاية العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على الأقل، عندما أصبح الشعور أقوى في المستويات الدنيا من سوق العمل بأن الهجرة قد لا تكون السبب في ضعف الدخل، ولكنها مع ذلك جزء لا غنى عنه من نظام الأجور المنخفضة، الذي التزمت به النخبة السياسية. ما تمكنا من ملاحظته في السنوات الأخيرة، ليس في بريطانيا العظمى فقط، هو انفجار هذا السخط في شكل "سياسي مفرط" سيميز عشرينيات القرن الحادي والعشرين: التحريض دون تنظيم دائم، والعفوية قصيرة المدى دون تعزيز المؤسسات. مثل هذه "نقاط رد الفعل" (زناد البندقية)، كما يسميها ستيفن ماو (الماني وأستاذ علم الاجتماع السياسي - المترجم) وفريقه البحثي، يمكن بسهولة أن يتم شحنها من قبل مجموعة جديدة من اليمينيين المتطرفين المؤثرين. إن كراهية الأجانب المتزايدة حاليا لها أيضا بعد دولي. فهل من المفاجئ أن الدول التي تعمل بمثابة كلاب لسلسلة الهيمنة الإمبراطورية المتدهورة وتدعم الإبادة الجماعية دون قيد أو شرط في الشرق الأوسط، تصبح شهودا على أن عقلية الحرب هذه تأتي بنتائج عكسية على بلادها؟ لقد قامت كل من بريطانيا وألمانيا بتطبيع جرائم الحرب المستمرة في فلسطين وبررتها مرارا وتكرارا، ما أعطى دفعة كبيرة للقوى الدافعة نحو العنف ضد المسلمين. خلافاً للأشكال السائدة من معاداة السامية، فإن المواقف المعادية للمسلمين نادراً ما تكون مصحوبة بإسقاط قدرة عالمية مطلقة. وبتعبير أدق يتم تصوير "المسلم" كشخصية متناقضة بشكل خطير. وفي لعبة المحصلة الصفرية للرأسمالية المتأخرة، يُنظر إلى قدرته على الحفاظ على الحد الأدنى من التماسك في مجتمعه على أنها ميزة في المنافسة في سوق العمل. ليس الخوف من الآخر هو الذي يخلق مشاعر معادية للمسلمين، بل الخوف من المماثل: من شخص يعتمد بنفس القدر على السوق، ولكن يفترض أنه أفضل تسليحاً ضد وحشيته. وفي الوقت نفسه، يُنظر إلى "المسلم" على أنه وكيل ثانوي للفكرة المجردة التي فرضها القطاع المالي على العالم المستقر في عقود ما بعد الحرب: فهو في المكان الخطأ، وهو المسؤول عن "تآكل الحدود"، على حد تعبير ريتشارد سيمور (عالم اجتماع ايرلندي يعيش في لندن- المترجم). اختراقات في عام 1913، طرح لينين فرضية مثيرة للجدل مفادها أنه وراء "المئة السود"، المنظمات الملكية الرجعية التي يعود إليها مصطلح "المذبحة" - يمكن للمرء أن يحدد "ديمقراطية فلاحية غير واعية" "خشنة للغاية، ولكنها عميقة جدًا" أيضًا. كان ملاك الأراضي الروس "يناشدون الأحكام المسبقة الأشد جمودا لدى الفلاحين الأكثر تخلفًا، مستغلين جهلهم". وأضاف لينين، لكن "مثل هذه اللعبة، لا تخلو من المخاطر. بشكل متكرر يخترق صوت حياة الفلاحين الحقيقية، وديمقراطية الفلاحين، كل رتابة المائة السود وروتينها". إن صعود اليمين المتطرف في أوروبا لا يحمل جوهراً تحررياً مشوهاً؛ فهو لا يتغذى على "طاقة" يمكن إعادة توجيهها. وفي هذا الصدد، يجب التخلي عن الأمل اليائس الذي قرأه كورش في الحرب الخاطفة. ان صعود اليمين المتطرف يرتكز على عالم من البؤس، الذي يشكل الغاؤه مهمة اليسار التاريخية. ومن وقت لآخر، وكما قال لينين، فإن صوت فلاح ما بعد الصناعة يخترق أيضًا كل "رتابة وروتين" الرجعية. وما يجعل الوضع خطيراً إلى هذا الحد هو الافتقار إلى الاستراتيجيات الواعدة القادرة على تعزيز مثل هذه الاختراقات. لقد كانت حتى الآن، مسكنة اكثر من كونها معارضة حقيقية. ان التظاهرات التي تجري حالياً شهراً تلو الآخر في العديد من المدن الأوروبية قد تكون مفيدة في وضع خط أحمر والدفاع عن الحد الأدنى من متطلبات أي سياسة يمكن أن توقف اليمين المتطرف. ولكنها غير قادرة على ملء الفراغ الاجتماعي الضخم الذي يستغله اليمينيون المتطرفون الجدد في أوروبا. أنطون جاغر: مؤرخ وأستاذ علوم سياسية بلجيكي، مختص بتاريخ الفكر السياسي، يعمل في جامعة أكسفورد. الترجمة لنص بحثه المنشور بالألمانية في موقع مؤسسة روزا لوكسمبورغ بتاريخ 16 تشرين الأول 2024.
#رشيد_غويلب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الليبرالية والديمقراطية أمران مختلفان
-
طلبة صربيا يحتجون على الفساد والقمع
-
بالعودة إلى خريطة «المكسيك الكبرى».. رئيسة جمهورية المكسيك ت
...
-
مراجعات 2024 .. العام الثالث لحكومة الفاشيين الجدد في ايطالي
...
-
ما زال يحاول فك شِفراتها المعقدة / يسار 2024.. تحديات جديدة
...
-
منظمات حقوق الإنسان تعرب عن مخاوفها / النازيون الجدد في الأر
...
-
مؤتمر واسع لمؤسسة روزا لوكسمبورغ الأزمة العالمية وصعود اليمي
...
-
البرلمان الكولومبي يقر قانونا يحظر زواج القاصرات
-
الموقف العنصري تجاه الكرد أحد مفرداته / تركيا تريد تحديد ملا
...
-
هل يقود كوربين حزباً يسارياً جديداً في بريطانيا؟
-
جمعية اليسار الماركسي في ألمانيا.. حملة للتضامن مع نضال حزب
...
-
المحكمة الدستورية تلغي نتائج الانتخابات الرئاسية في رومانيا
-
سوريا بين الحلم الديمقراطي والسيناريو العراقي
-
رسالة من كلارا زيتكن تعكس قلقها على الحركة الشيوعية
-
الحرب في سوريا وخطط إعادة تشكيل الشرق الأوسط
-
في كوريا الجنوبية الصراع يتواصل بين الرئيس والمعارضة
-
الاتحاد الأوربي يضاعف إنفاقه العسكري خلال 10 سنوات
-
قراءة نظرية تاريخية لحركات إلغاء العبودية وعقوبة الإعدام
-
أسئلة برؤية يسارية مستقبلية
-
مرشح تحالف اليسار رئيسا لجمهورية الأورغواي
المزيد.....
-
مصادر لـCNN: ترامب يعتزم العفو عن المدانين بجرائم غير عنيفة
...
-
نيبينزيا: اتفاق وقف إطلاق النار في غزة خطوة نحو سلام مستدام
...
-
فتحي غراس…حكم بالسجن للمعارض الجزائري وزوجته مسعودة شبالة
-
ترامب يُعيد تيك توك إلى الحياة في أمريكا مؤقتًا رغم تأييده ل
...
-
كيف سيضع ترامب حدا للحروب في العالم؟
-
ترامب يصبح الرئيس الـ 47 للولايات المتحدة الأمريكية.. 4 سنوا
...
-
مفاجآت ترامب في خطاب التنصيب
-
-سترحلون ونحن سنبقى-.. اتفاق وقف النار بغزة وصور الهزيمة وال
...
-
موقع البيت الأبيض يعلن -عودة أمريكا- بعد أداء ترامب يمين تنص
...
-
خلال خطاب تنصيبه.. ترامب ينتقد بايدن بينما كان يقف وراءه
المزيد.....
-
العلاقة البنيوية بين الرأسمالية والهجرة الدولية
/ هاشم نعمة
-
من -المؤامرة اليهودية- إلى -المؤامرة الصهيونية
/ مرزوق الحلالي
-
الحملة العنصرية ضد الأفارقة جنوب الصحراويين في تونس:خلفياتها
...
/ علي الجلولي
-
السكان والسياسات الطبقية نظرية الهيمنة لغرامشي.. اقتراب من ق
...
/ رشيد غويلب
-
المخاطر الجدية لقطعان اليمين المتطرف والنازية الجديدة في أور
...
/ كاظم حبيب
-
الهجرة والثقافة والهوية: حالة مصر
/ أيمن زهري
-
المرأة المسلمة في بلاد اللجوء؛ بين ثقافتي الشرق والغرب؟
/ هوازن خداج
-
حتما ستشرق الشمس
/ عيد الماجد
-
تقدير أعداد المصريين في الخارج في تعداد 2017
/ الجمعية المصرية لدراسات الهجرة
-
كارل ماركس: حول الهجرة
/ ديفد إل. ويلسون
المزيد.....
|