أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - طارق الحلفي - -حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملومة كقطرة ماء-















المزيد.....


-حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملومة كقطرة ماء-


طارق الحلفي

الحوار المتمدن-العدد: 8228 - 2025 / 1 / 20 - 02:51
المحور: قضايا ثقافية
    


قراءة في قصيدة "برج بابل" للشاعر جمال مصطفى

مدخل


تتلاعب قدرة الشاعر جمال مصطفى في الحياكة الباذخة للكلمات من اجل خلق عوالم من الدهشة.. ندية المبنى.. بليغة المعنى.. شاهرًا ودائعه اللغوية بلا صخب.. وخائضا حلباتها بلا وجل.. منفتحًا كأفق.. وملمومًا كقطرة ماء مشتهاة..

تمثل تجربة الشاعر جمال مصطفى المدهشة في هندسة القصيدة العمودية مادة دسمة للدراسة والتحليل لما تحمله من رشاقة في البناء وصور فخمة ومبهرة وكلمات ذات ابعاد فكرية وانزياحات ودلالات قل نظيرها في شعرنا المعاصر.. والذي يدل على انه لا يكتب القصيدة الا بعد ان يستوفي شروطها التي تكمن في جمع العديد من الشواهد والمشاهد التي سعى بجد وبجدارة ليملأها بماء الشعر فتأتي نَظِرَة ومُسِرّة للقارئين فكل بيت فيها يبهرك بحسن صياغته ودقة وقعه وموقعه وامتلاء مفردته بأريج حصافته..

جمال مصطفى، كما عودنا، يطبخ قصيدته بنبيذ التأمل ويلمعها بماء الخلود فتأتي واردة لا شاردة.. لا يماثلها الا نبضه وهو يتبصر في كتابة القصيدة.. فيقطرها كمصائر العناقيد..

القصيدة التي بين أيدينا هي آخر نص ادبي نشره جمال مصطفى حسب علمي.. النص الجدير بالتأمل والتفكير وإعادة القراءة على مستويات عدة.. ولأني اعتقد ان ليس هناك تفسير واحد او قراءة واحدة له.. فان ما انا ذاهب اليه لا يعبر الا عن جزء من حقيقة انه مجرد راي شخصي وتفسير مجزوء.. ادعي، انه لا يخص أحدًا غيري لأني أرى ان القصيدة تستدعي من بين ما تستدعيه امكانية الاستعانة بعلوم أخرى لفهم أعمق للمعاني الكامنة في النص.

ان ما يميز هذه القصيدة.. وهي ميزة استثنائية لا يحددها الا هو.. بهندسة بارعة الذكاء واقتدار باهر النجابة في اختيار الموضوعات وامتدادها.. مملوءة بماء الشعر ونبض الجملة الشعرية.. بتركيبها وعلاقة مفرداتها من حيث البراءة والتوقد.. فتجيء مترفة ومدهشة..




في قصيدته الملحمية "بانوراما برج بابل" التي تشكل مشهداً شعرياً عميقاً يستحضر رمزية برج بابل القديمة ويجعلها حاضنة لمجموعة من الأفكار والتأملات الفلسفية، الدينية، والإنسانية، من خلال استخدام الرموز والأساطير ليخلق عالماً متداخلاً من المعاني.
سأعمل على تناولها اجمالا.. كمدخل قبل ان افصل في قراءة كل فقرة فيه بما اوحت لي من دلالات ومعاني وانزياحات عليّ اوفق بما عزمت عليه..

1. الأبعاد الفلسفية والفكرية:

** يرتكز النص على تأملات فلسفية حول الصعود والسقوط، والتعالي والانحدار. برج بابل هنا لا يمثل مجرد بناء معماري، بل هو استعارة عن الطموحات الإنسانية، وعن قدرة الإنسان على الصعود والتطور، ولكنه أيضاً يحمل في طياته إشارة إلى احتمالية الفشل والانهيار. يقول في المقطع الأول: "كيف تصعد، لا سلالم؟"، ما يعكس استحالة الوصول إلى الكمال من دون وسيلة، وهو هنا قد يرمز إلى السعي البشري للمعرفة والحكمة من خلال أدوات الفكر والعقل. التساؤل حول الصعود، والحديث عن الأبراج التي "لا ترقم بل تسمى" في المقطع الثالث، يفتح الباب أمام التفكير في أن بعض القيم والمعاني لا يمكن تحديدها أو حصرها، فهي أبعد من أن تُدرك بسهولة.

2. البعد الرمزي والأسطوري:

يستخدم الشاعر أسطورة برج بابل القديمة، والتي تتعلق بقصة طموح البشر لبناء برج يصل إلى السماء تحدياً للإله، كرمزٍ للتحدي الإنساني للطبيعة والآلهة. في المقطع الرابع والخامس، يشير إلى "قرميدو وإقصيدو"، وهما مهندسان بنّاءان، وربما يمثلان العقلانية والخيال، أو الواقع والحلم. البرج هنا يصبح رمزاً لهذا التوازن بين البناء والتدمير، بين الحقيقة والمجاز. يقول في المقطع الثامن: "الحقيقة كالمجاز"، في إشارة إلى تعقيد الحقيقة ذاتها، وأنها ليست مطلقة بل نسبية، تتداخل مع المجاز.

3. الأبعاد الأدبية والإبداعية:

على المستوى الأدبي، يمتاز النص بثراء اللغة وتنوع الصور الشعرية، التي تتجاوز الوصف المباشر إلى خلق مشهديّة شعرية متداخلة. النص يستخدم أسلوب التداعي الحر، حيث تنتقل الأفكار والصور من حجرة إلى أخرى في البرج، مما يعكس عمق التجربة الشعرية. في المقطع الحادي عشر، على سبيل المثال، "البرج أعْرَقُ منكِ بابل، البرج أحلام الأوائل"، نجد أن البرج يصبح رمزاً لأحلام الإنسان القديم في التحرر والانتصار على العلو والرفعة.

4. الأبعاد الاجتماعية والإنسانية:

النص يحمل تأملات عميقة في العلاقة بين الإنسان والسلطة، وبين العبيد والأسياد. في المقطع التاسع عشر، على سبيل المثال، نجد تلميحات إلى التمرد الاجتماعي والإنساني، حيث يصرح الشاعر: "البرج معبد"، لكنه سرعان ما يتحول إلى موضع للتمرد حين يقول: "البرج معجزة العبيد". هذا التعارض يعكس الصراع الأبدي بين الطموح البشري نحو الحرية والقيود التي تفرضها القوى العليا، سواء كانت آلهة أو سلطة بشرية. والتي تجبر العبيد على تشيد وبناء أمثال هذه المآثر والعجائب

5. البعد الديني والتأملي:

على المستوى الديني، يمتلئ النص بالرموز الدينية من مختلف الثقافات والحضارات. نجد إشارات إلى الأنبياء (مثل المقطع الثلاثين الذي يتحدث عن غرفة يسوع)، وإلى الأساطير الدينية (مثل المقطع العشرين الذي يتحدث عن "أجنحة جبرائيل" و"ألواح الزمرد"). البرج يصبح في هذا السياق مكاناً للالتقاء بين الدنيوي والمقدس، بين الأرضي والسماوي. في المقطع الحادي والثلاثين، نرى "حجرة المصطفى"، حيث "الكتابة لابن مقلة" والديك يؤذن في الفجر، مما يعكس اتصالاً بين الروحانيات الإسلامية والرمزية العالمية لهذا البرج.

6. الرمزية والهندسة المعمارية الفكرية:

النص يستخدم البرج كرمز للمعرفة والتنوير، لكنه أيضاً يشير إلى جوانب فلسفية عميقة متعلقة بالصعود والهبوط، بالبناء والهدم. في المقطع السادس عشر، نجد "حجرة التيجان"، التي يدخلها المرء كما لو كان إمبراطوراً، ولكن النص لا يكتفي بالرمزية الملكية، بل يضيف لها بعداً فلسفياً يعكس زوال السلطة وفناء الملوك. البرج هنا يتجاوز كونه بناءً هندسياً ليصبح معبراً عن صعود وسقوط الحضارات والإنسانية.

7. الأبعاد الإنسانية والوجودية:

هناك حس وجودي عميق في هذه المقاطع، حيث يتم تناول مواضيع مثل الحرية، السقوط، والصعود. المقطع السابع يقول: "النزول كهاوية"، مما يعكس فكرة الوجود الإنساني الذي دائماً ما يسعى للصعود نحو الكمال، ولكنه يواجه خطر السقوط في الهاوية. الفكرة تتكرر في المقطع الثالث عشر عندما يقول: "برج الطيور معاً تطير لكي تطرز في الصباح سماء بابل"، وهو تصوير للحرية والرغبة في التحليق نحو الأعلى، رغم ما يواجهه الإنسان من قيود.

8. الرموز الزمنية والتاريخية:

يحتوي النص على إشارات زمنية تاريخية، تربط الماضي بالحاضر. في المقطع العشرين، يتحدث عن "حجر الفلاسفة، الهَيُولَى، البَهِيموث"، وهي رموز تعود إلى الفلسفة والعلم القديم، مما يربط بين المعرفة القديمة والبحث المعاصر عن الحقيقة. البرج يصبح متحفاً للرموز والأفكار عبر التاريخ، فهو لا يمثل مجرد مكان مادي، بل مستودعاً للذاكرة البشرية. الزمن في هذا النص ليس خطياً، بل دائرياً، يتكرر من خلال الصعود والهبوط، والتفاعل المستمر بين الماضي والمستقبل.. انها ديالكتيكية الانزياح..

9. البعد الرمزي للغات والثقافات:

يتناول النص في عدة مقاطع فكرة التواصل واللغات، وهي جزء من الأسطورة الأصلية لبرج بابل، حيث تسبب انهدامه الى تبعثر اللغة الواحدة الى اللغات المختلفة في تشتيت البشرية. في المقطع الأول، نرى إشارة إلى "اللوح الكتاب"، مما يعكس أهمية المعرفة والكتابة في بناء البرج، ولكن هذه المعرفة ليست متاحة للجميع، فهي تتطلب بحثاً واكتشافاً. في المقطع الأخير، نجد حواراً بين العاملين في البرج، مما يعكس تباين الآراء حول كيفية البناء، وهذا قد يكون رمزاً لتعدد الثقافات واللغات التي لا تزال تشكل تحدياً للتفاهم البشري.

10. البعد الصوفي والتأمل الروحي:


من أروع جوانب النص هو الطابع الصوفي الذي يتخلله. المقطع الرابع عشر، على سبيل المثال، يتحدث عن "حجرة الشامان"، حيث تتحول الحجرة إلى غابة، وتفهمك الأيائل "فقه إبكاء السحابة"، مما يخلق جواً روحياً يتجاوز المادي والمباشر. هذه اللحظات الصوفية تأخذ القارئ إلى عوالم أخرى من التأمل، حيث يصبح البرج مكاناً للتجلي الروحي وليس فقط المعماري.

"بانوراما برج بابل" هي رحلة شعرية عبر الرموز والتأملات، تجمع بين الفلسفة والدين، بين العمارة والخيال، وبين التاريخ والرمزية. فالنص لا يقدم مجرد وصفٍ للأشياء، بل يخلق عالماً متكاملاً تتفاعل فيه الأفكار والمعاني بشكل ديناميكي. البرج يصبح هنا رمزاً للإنسانية بكل تناقضاتها: الطموح والسقوط، الحرية والعبودية، الحقيقة والوهم. إنها دعوة للتفكير العميق في مغزى الحياة والوجود، وكيف يمكن للإنسان أن يصعد، رغم كل ما قد يواجهه من صعوبات ومعوقات، وقد يصبح هو القصيدة ذاتها، بكل ما تحمله من جلال الكلمة وعظمة المعنى وخطورة التأويلات..
سنبحر مع الشاعر جمال مصطفى في قراءة "بانورامته" المتجلية في كل مقطع والتي سنتناولها، في القادم من الأيام، بالتفصيل..
انها سلوى في القراءة.. ومتعة في المنادمة.. لا تحدها قراءة ولا لوميضها سكون..
***

رابط القصيدة
https://www.almothaqaf.com/nesos/971491



#طارق_الحلفي (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- لي.. ما اشاء
- شهوة الالوان
- غداة ذكرى
- ايها الحنين
- زغب في خريف العمر
- هايكو/ التوت
- فيض ذكرى
- زحام
- ارتباك
- متاهات العالم الجديد
- الطلق
- وانا كل الكلام
- اسرار
- فائض الحب
- نقد
- ايقونة
- اوتار قصيدة
- جنون عشق
- بكاء الروح
- لفقيد من ذهب


المزيد.....




- في ظل طقس بارد وخطير.. شاهد كيف تستعد أمريكا لحفل تنصيب ترام ...
- التطبيع وملفات أخرى تنتظر ترامب في الخليج
- ماذا أهدت -القسام- الرهينات الإسرائيليات قبل الإفراج عنهن؟ ( ...
- ثلاث حيثيات تهدد صمود وقف إطلاق النار بين -حماس- وإسرائيل
- استطلاع: ثلثا الألمان يتوقعون تدهور العلاقات مع الولايات الم ...
- الهولندي هوغربيتس يحذر ويتنبأ بالأماكن الأكثر عرضة لزلازل قو ...
- شاحنات المساعدات تبدأ الدخول إلى غزة من معبر كرم أبو سالم
- -نيويورك تايمز-: بلينكن أصر عام 2022 على مواصلة القتال في أو ...
- لغز في أعماق الأرض.. اكتشاف غامض يحيّر العلماء ويعيد كتابة ت ...
- الخارجية الإيرانية: ما حدث في غزة خسارة وعار لإسرائيل وداعمي ...


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - طارق الحلفي - -حين تكون القصيدة مفتوحة كأفق وملومة كقطرة ماء-