أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (2)















المزيد.....


الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (2)


محمد بركات

الحوار المتمدن-العدد: 8226 - 2025 / 1 / 18 - 22:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


المثالية: العالم ملائم لنا

وجهة النظر العامة للمثالية
إن نظرةً واحدةً نلقيها على تاريخ الفكر في الحضارة الغربية لكفيلة بأن تبين لنا أن المثالية كانت، على الأرجح، أكثر الفلسفات شيوعًا وأعظمها أهمية. ولقد انتشرت هذه الفلسفة في العصور الحديثة بوجه خاص، وامتد تأثيرها إلى حد أن الطالب المبتدئ كثيرًا ما تتملكه الدهشة حين يكتشف أن «المثالية» و«الفلسفة» ليسا لفظين مترادفين. ولقد كان مركز السيطرة الذي احتلته هذه المدرسة، مقترنًا بما لقيته من قبول لدى جميع أنواع السلطات السائدة مؤديًا إلى أن تبدو منافستها الكبرى، وهي المذهب الطبيعي Naturalism كما لو كانت دخيلًا أقحم نفسه في حديقة الميتافيزيقا، أو قريبًا فقيرًا تسلل إليها. وكان من الأسباب التي أدت إلى احتلال المثالية مركز السيطرة هذا، وجود نقاط اتصال وتقارب بين آرائها وآراء المسيحية،

الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية: فما هي الآراء الرئيسية لهذه المدرسة الفكرية؟ إذا تجاهلنا مؤقتًا كل المدارس الفرعية المتباينة، وأرجعنا المثالية إلى ماهيتها الأصيلة، كانت هي الاعتقاد بأن الحقيقة النهائية ذات طبيعة نفسية أو روحية، وأن الكون تجسُّد للذهن أو الروح. فالمثالية ترى أننا إذا شئنا أن نكتسب أوضح تبصُّر بطبيعة الواقع، فلزام علينا ألا نبحث في العلوم الفيزيائية، بما فيها من اهتمام بالمادة والحركة والقوة، ومن إلكترونات وبروتونات وما شاكل ذلك، بل إن من واجبنا أن نتجه إلى الفكر والعقل وكل الأفكار والقيم الروحية لدى الجنس البشري. وليس معنى ذلك أن الصورة التي يقدمه إلينا العلم عن العالم فيها أي شيء من الخطأ — بل إن من الجائز أنها صحيحة جدًّا، وفي حدودها الخاصة، غير أنها ناقصة. فالعلم يدع جانبًا كثيرًا من الأمور التي يراها المثالي ضرورية لكي تكون الصورة صحيحة أو كاملة. مثال ذلك أنه يحذف الاعتبارات المتعلقة بالقيمة بل إنه لا يكاد يعترف بوجود ما يعد (من وجهة نظر المثالي) أهم شيء في الكون — وأعني به الشخصية. وفضلًا عن ذلك فالعلم، بما يتسم به من موضوعية ولا شخصية كاملة، لا يملك أن يتجنب تقديم صورة مشوهة لطبيعة الأشياء. فهو يتجاهل بالضرورة أهم عنصر في المعرفة أو التجربة: وهو الذهن أو الأنا المجرب: ذلك لأن من الواضح أن كل إدراك أو معرفة يقتضي ذاتًا عارفة، غير أن العلم يتجاهل هذه الحقيقة، والمذهب الطبيعي ينكر أهميتها القصوى. أما المثالية فترى أن هذه الذات العارفة المجربة هي مصدر كل معنى وقيمة، بل مصدر كل وجود. ومن هنا فإن أي مذهب لا يتخذ من الذهن أو الذات العارفة دعامة رئيسية، ينبغي بالضرورة أن يقدم صورة ناقصة (إن لم تكن باطلة) عن الحقيقة.
ومن الواضح أن مثل هذا الكون الذي يكون فيه لب الحقيقة ذهنيًّا أو روحيًّا، لا ماديًّا، هو نظام للعالم وثيق الصلة بالإنسان وأعماله، وأمانيه ومُثله العليا. فهو عالم يقدم للفرد تأكيدًا بأن له رسالة، وبأن البيئة الكونية تعطف على جهود الإنسان في سبيل تحقيق هذه الرسالة. فالمثالية هي نظرة إلى «الأشياء كما هي»، تجعل من العالم مكانًا نستطيع أن نشعر فيه بعلاقة وثيقة بيننا وبين الكون. في مثل هذا العالم نشعر بأننا في وسط ملائم لنا عقليًّا وعاطفيًّا؛ إذ إننا نحن وبيئتنا جزء من نظام كوني واحد، ومصدرنا هو نفس «الذهن» أو «الروح».

ومن الأفكار المثالية الأساسية الأخرى، الاعتقاد بأن أذهاننا والعالم الفكري الذي تتحرك فيه ترتبط بالواقع على نحو وثيق وذي دلالة خاصة. ففي نشاطنا العقلي أو الذهني نقترب كل الاقتراب من تلك «الفاعلية» الشاملة التي تشكل الكون. فإذا شئنا أن نعلم ما يكمن في قلب العالم، فعلينا أن نتأمل داخل أنفسنا. ففي أذهاننا ونفوسنا نحن، وفي طبيعة الشخصية الإنسانية، نجد أوضح تعبير عن طبيعة هذه «الفاعلية» الشاملة.

النتائج الرئيسية للمثالية: هذا التوازي الخاص بين أذهاننا وبين الواقع له عدة نتائج هامة، وهذه النتائج هي التي تكسب المثالية أقوى جاذبية لها بين الناس. ذلك لأننا نستطيع أن نفترض أولًا. على أساس الحقيقة القائلة إن أذهاننا المتناهية تعمل على أساس المنطق والنظام والإحكام، أن «الذهن المطلق» يعمل على نفس النحو. ولما كان الكون تجسدًا أو خلقًا لهذا «الذهن» فلنا أن نتوقع أيضًا أن تتكشف بيئتنا الطبيعية عن نفس خصائص النظام والإحكام والمنطق. ومن هذا التوازي نستطيع أن نفترض أن الكون في أساسه يتسم بالمعقولية؛ إذ إنه لما كان هذا الكون من خلق العقل الشامل، فمن الطبيعي أن تكون المعقولية متغلغلة في تركيبه الأساسي. وأخيرًا، نستطيع أن نفترض من هذه المعقولية والقابلية للفهم، أن أذهاننا البشرية قادرة على التعامل مع العالم الذي نعيش فيه. فذهننا قادر على فهم العالم لأن كليهما معقول في أساسه، وكلاهما معقول لأنهما يعتمدان على «العقل» الكوني.

التمييز بين «المظهر» و«الحقيقة»
فاتصالنا اليومي المباشر بالعالم المحيط بنا يكشف لنا عن أمر واقع لا تكاد تربطه صلة بهذا الفرض النظري الجريء؛ ذلك لأن الحياة تبدو في نظر الإنسان خليطًا مضطربًا من التقدم والتدهور، والانتصار والهزيمة، والحرب والسلام، والجوع والوفرة، والطبيعة العطوف والطبيعة المعادية إلى حد التوحش. وفي حياة الفرد، تكون معقولية الكون وقابليته للفهم أقل حتى من ذلك: فالإحباط والألم والهزيمة تحتل في تجربتنا مكانةً لا تقل عن مكانة النجاح والسعادة والانتصار، بل إن أنجح حياة وأكثرها تنظيمًا، تكشف عن جوانب كبيرة من المعاناة التي لا يبدو لها هدف، ومن الألم الذي لا يبدو له معنى.

أهمية التمييز: إزاء هذه الحقيقة الأساسية للحياة البشرية، يكون لنا أن نتوقع من المثالي دعم موقفه بشيء آخر إلى جانب التجربة المباشرة، إذ إنه أكثر الناس شعورًا بأن كسب المناقشة ينبغي أن يكون على أسس أخرى غير هذا الأساس، ولا يمكن أن يهيب المرء بالتجربة عندما تكون الشواهد المستمدة من هذا المصدر غير قاطعة على أحسن الفروض، وسلبية إلى أبعد حد على أسوئها. وهكذا فإن المثالي، لكي يواجه مشكلة إثبات أن الكون معقول ومنسجم على الرغم من كل الشواهد المضادة، يضع أولًا تمييزًا له أهمية كبرى في تفكيره، وأعني به التمييز بين المظهر والحقيقة.

مشكلة الشر
تستخدم المدارس الفرعية المختلفة، المنتمية إلى المذهب المثالي، أساليب مختلفة في تفسير هذا التعارض بين المظهر والحقيقة.
والمشكلة باختصار هي: إذا كان الكون هو تجسُّد «الذهن» أو «العقل» فكيف حدث أن تجربتنا تكشف لنا الكثير مما هو لا معقول ولا مفهوم؟ وكيف يحدث أننا كثيرًا ما نضطر إلى التوفيق بين ما هو بوضوحٍ اتفاقٌ أعمى أو مصادفة أليمة، وبين الغاية العاقلة التي يفترض أنها تكمن من وراء ذلك كله؟
لو كان الله ذا قدرة شاملة وحكمة شاملة، ولكن ليس ذا خير شامل، لأمكننا أن نفهم وجود مثل هذا العالم الذي نعيش فيه بالفعل، أو لو كانت لديه أسمى حكمة وخيرية، ولكن مع قدرة محدودة، لأمكننا أن نفهم ذلك أيضًا. ولكن كيف نوفق بين وجود إله لا متناهٍ وبين حقيقة الشر؟
بعض الإجابات الدينية: يرى التوحيديون المؤمنون بإله مشخص ولكنه لا نهائي، أن المشكلة تقتضي بالضرورة تحليلًا مطولًا لطبيعة الألوهية، والعلاقات بين الله والكون الذي خلقه … إلخ. وسوف نبحث كثيرًا من هذه التحليلات في الفصلين الأخيرين، ولكن يكفينا هنا أن ننظر إلى الإجابات التي يقدمها الإنسان في موقفه الطبيعي على هذه الأسئلة المحيرة. إن أوضح جواب وهو قطعًا أوسع الإجابات انتشارًا — هو أن «زمان الله هو الأفضل». فهو يعلم ما يفعله، وما هو أفضل لعالمه وكل المخلوقات فيه. ومن المسلَّم به أن أساليبه ليست أساليبنا، وزمانه ليس دائمًا زماننا، ولكن سوف يتضح لنا في آخر المطاف، عندما يكون كل شيء مفهومًا، وعندما نتمكن من أن نرى كل شيء في ضوئه الحقيقي، أن شكنا في عدم اكتراث الله أو عدم قدرته أمر لا مبرر له. وعندئذٍ سنرى أن «مظهر» الأشياء هو وحده الذي خدعنا، أما «الحقيقة» (التي كان يعرفها بالطبع منذ البداية إله عالم بكل شيء) فكانت معقولة، مفهومة، خيرة، وبالاختصار، فصاحب هذا المذهب في الألوهية يرى، مثلما يرى المثالي، أن المشكلة الحقيقية هي أن نخترق حجاب أي المظاهر وننفذ بأنظارنا إلى الحقيقة.
على أن هناك ثلاثة حلول رئيسية لمشكلة الشر واللامعقولية الظاهرَين في العالم. ففي استطاعتنا أن نتخذ موقفًا متطرفًا ونقول إن ما يسمى بالشر ليس إلا خطأ في أذهاننا نحن. ففي الذهن الإلهي أو اللامتناهي، لا يمكن أن يوجد إلا الخير والحق، بحيث إن أي خطأ أو شر لا بد أن يكون ناتجًا عن أذهاننا نحن المتناهية الفانية. وكل ما علينا هو أن نطرح جانبًا فكرة الشر (ما دامت لا توجد إلا في أذهاننا) لكي نمحو تحقيق الشر؛ ذلك لأن الفكرة والتحقق هنا شيء واحد. والحل الثاني لمشكلة الشر أقل تطرفًا وأقرب إلى «الذهن العادي». في هذا الحل يعترف بحقيقة الشر، ولكن يقال إننا لو نظرنا إلى الأمور من منظور طويل الأمد؛ أي إذا تعلَّمنا أن نرى الأشياء «من منظور الأزل» — لأدركنا أنه مهما تكن أصالة الأمم والشقاء والحمق الموجود في العالم، فإن هذه الأمور تتناقص بالتدريج. ومن الممكن أن يسمى هذا بالموقف التاريخي من المشكلة. فأنصار هذا الموقف يؤمنون بالتقدم، ويرون أن في استطاعة الإنسان، باستخدام العقل وجهوده الخاصة، أن يعجل مسيرة التقدم ويمضي بحركته إلى تحقيق نتائج لا حد لها، من بينها محو الكثير مما نعده الآن شرًّا. وتُعرف وجهة النظر هذه باسم «مذهب التحسن Meliorism»؛ أي المذهب القائل إن الأمور قابلة لأن تنصلح. ويوحي هذا المذهب في الدين — حيث تدعو إليه كثير من الكنائس المتحررة اليوم بأن الله يحتاج إلى مساعدتنا في الكفاح، وبأن الحياة (وربما العملية الكونية بأسرها) تمثل صراعًا لا يرحم بين قوى الخير وقوى الشر. في هذا الصراع لا بد من تجنيد كل مقاتل، وفيه يساعد اختيار الخير على قطع دابر الشر من جذوره. وباختصار، فالشر حقيقي بالفعل، غير أن حقيقته ستزول بانتصار الخير بمضي الوقت، وهو انتصار يمكن تحقيقه بتضافر الجهود بين الله والإنسان.



#محمد_بركات (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (1)


المزيد.....




- علماء: إحدى العادات الدينية للفايكنغ القدماء سببها ثوران برك ...
- تعليق ساويرس على منشور عن -دخول مسلحين مناطق مسيحيين في دمشق ...
- الجهاد الاسلامي تبارك العملية البطولية بتل أبيب كرد طبيعي عل ...
- قائد الثورة الاسلامية آية الله خامنئي يعزي باستشهاد اثنين من ...
- وزير الخارجية الايراني عراقجي يهاتف الامين العام لحركة الجها ...
- الإلحاد والطب النفسي.. ما العلاقة؟
- حرس الثورة الاسلامية يزيح الستار عن مدينة استراتيجية أخرى تح ...
- -ما مصدقتش الخبر-.. ساويرس يثير تفاعلا بتعليقه على -ادعاء- ب ...
- بـاقة أناشيد رمضـان 2025.. اضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد ...
- في يوم استثنائي.. الفاتيكان يحتضن مربي الحيوانات للاحتفال بع ...


المزيد.....

- السلطة والاستغلال السياسى للدين / سعيد العليمى
- نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية / د. لبيب سلطان
- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - محمد بركات - الفلسفة أنواعها ومشكلاتها (2)