أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - في وداع السجن الأسدي والدولة السرية















المزيد.....


في وداع السجن الأسدي والدولة السرية


ياسين الحاج صالح

الحوار المتمدن-العدد: 8226 - 2025 / 1 / 18 - 22:02
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


متن هذه المقالة القصيرة مكتوب قبل نحو عام ونصف، وهي لا تكاد تضيف جديداً بخصوص السجن الأسدي. لكنها بمثابة وداع شخصي، يُرجى أن يكون نهائياً، للدولة السجن ولسياسة السجن التي رزحت سورية تحت وطأتها طوال أكثر من جيلين.

(كان) لدينا في سورية منظمة سرية خطيرة، اسمها الدولة، هي كذلك منظمة فئوية وعنيفة وفاسدة. إنها باختصار لا دولة، أو دولة مضادة، هذا إن كان يتوقع من الدولة أن تكون علنية، عامة، ضامنة لأمن الأفراد والسلم الاجتماعي، وقامعة للفساد. وأول ما يحتاج غير السوريين إلى وضعه في البال عند الكلام على سورية أن النظام يحكم البلد منذ 54 عاماً، هي أكثر من كامل نصف تاريخ سورية، وأن الممارسات الاعتقالية والسجنية يجب أن يفكر فيها في ارتباط بالأطوار الفرعية ضمن هذه الزمن الكابوسي الطويل.
بناء على خبرة شخصية، ثم على مباحث تتوفر أكثر وأكثر عن هياكل بعض أجهزة النظام، يمكن التمييز بنيوياً بين دولتين في سورية، واحدة ظاهرة وواحدة باطنة، واحدة عامة جامعة وواحدة خاصة مطيفة، واحدة ذات هياكل بيروقراطية تعمل فوق قواعد معلومة والثانية بهياكل عنف تعمل بلا قواعد معلومة، واحدة معروفة والأخرى محجوبة وسرية ولا يجوز الكلام عليها. الأخيرة بينهما، الباطنة والخاصة المطيفة وغير المنضبطة بقواعد والمحجوبة هي مقر السلطة الحقيقي. التقرير الذي أصدرته "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا" في تشرين الأول 2022 عن "الهيكلية الإدارية لسجن صيدنايا وعلاقات التنظيمية" يتكلم على أن معيار قوة الأشخاص العاملين في هذا الجهاز لا يعود إلى "المركز الإداري والموقع الهرمي في [تراتبية] السجن"، بل إلى "قرب الرجل من رأس النظام" أو من أقوى النافذين في مركز السلطة. التقرير يتكلم، بالمناسبة، على 30- 35 ألف ضحية في هذا "المسلخ البشري" مثلما كانت منظمة العفو الدولية قد وصفته في تقرير شهير في مطلع 2017 (قدرت المنظمة عدد الضحايا المحتملين وقتها بنحو 13 ألفاً). أعدم بعض الضحايا، وقتل بعضهم بالتعذيب ومات بعضهم جوعاً أو مرضاً.
هذه الثنائية البنيوية عامة في سورية، وتميز النظام السوري عن الدول العربية كلها. وما يهم فيما يخص العلاقة بالسجن هو أنه كان هناك سجون ظاهرة وسجون باطنة. السجون الظاهرة معروفة، يغلب أن يُزار السجناء فيها، وكان السجناء اليساريون فيها معظم الوقت، والباطنة هي سجون تعذيب، أحيل إليها الإسلاميون كقاعدة ولكن قضى يساريون من أمثالنا أوقاتاً بالسنوات فيها.
الاعتقال تتولاه أجهزة أمنية تمارس التعذيب روتينياً، ولا تُعرِّف بنفسها وقت الاعتقال ولا تعرض أمر توقيف مُوقع من سلطة قضائية أو سياسية. يختفي المعتقل لفترات تتفاوت قبل أن تستطيع الأسرة معرفة أين هو أو هي أن كان في سجن ظاهر. أما إن كان في سجن باطن، فيغلب ألا يزار ولا يُعلم مصيره، القلة الذين جرت زيارتهم دفعت الأسر مبالغ طائلة، ربما وصلت إلى سيارة مرسيدس أو بي أم دبليو جديدة، حين كان هذا نادراً وباهظ الكلفة في سورية، على ما أورد محمد برو في كتابه ناج من المقصلة. حال المعتقلين في السجون الباطنة هي بالتالي حال غياب قسري، وليس حبساً. ثم أنه يحدث أن يقتل المعتقل دون أن تعلم الأسرة لسنوات طويلة. في كتاب برو نفسه، يروي المؤلف الذي قضى ثماني سنوات في سجن تدمر (ونحو أربع سنوات في صيدنايا)، أن صديقه خلدون قتل في لحظاتهما الأولى في معسكر التعذيب الرهيب ذاك عام 1980، لكن العائلة لم تعرف بالأمر حتى سمعتْه هو يتكلم عنه في برنامج تلفزيوني بعد 35 عاماً من الواقعة. لأول مرة صلت الأم الثاكلة صلاة الميت على ابنها، بكته، ثم "نامت قريرة العين هادئة البال" بحسب الكاتب.
لكن حتى حين يكون السجن معروفاً، مثل سجني المسلمية في حلب وعدرا في دمشق، فإن سيرتهما وسيرة المعتقلين السياسيين فيهما مُلفّعة بالسر ولا تذكر في أي منابر عامة، وعلى المرء أن يكون حذراً عند ذكرها في أوساطه الخاصة. يجري إبقاء هذه السيرة شأناً يخص العائلات وحدها، ولا يخص المجتمع ككل.
لذلك ليست المسألة أن هناك سجون سرية وسجون علنية، تجربة السجن كلها ذات صفة سرية شديدة، بعضها أكثر سرية، مثل تدمر ذاته وسجن أبو الشامات الذي يبدو أنه كانت تجري فيه تجارب على الأسلحة الكيماوية في ثمانينات القرن الماضي بحسب كتاب محمد برو، لكن ليس بينها ما هو علني، أي ما هو مؤسسة عامة وما يجري تداول عام بشأنها.
وعبر السنوات، صارت السرية والتكتم والتحفظ و"التُقْيَة" صارت خصائص للمجتمع السوري ذاتها بفعل مأسسة الاعتقال السياسي والتعذيب، وانتشار الأذرع الأمنية، بمن فيها المخبرين، للمجتمع. يمكن وصف الدولة الأسدية الباطنة بأنها الدولة الجاسوس، تتجسس طوال الوقت على محكوميها وتراقبهم وتكتب التقارير الأمنية عنهم.
هناك موجتان اعتقاليتان تعذيبيتان سجنيتان كُبريان في تاريخ "سورية الأسد". واحدة بين أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات وتوجت بمذبحة حماه 1982، وقد يكون سقط فيها 20 ألفاً أو أكثر من سكان المدينة. وكان معظم المعتقلين في هذه الموجة الكبيرة الأولى مرتبطين بصور مختلفة بمنظمات سياسية، يسارية أو إسلامية أو قومية عربية أو قومية كردية. الموجة الثانية واكبت الثورة السورية، والمعتقلون فيها في أكثريتهم الساحقة مواطنون ثائرون أو من مناطق ثائرة، تعرضوا لتعذيب شديد، وقتل الألوف منهم تحت التعذيب وأعدم الألوف. قلة فقط من معتقلي الثورة أحيلوا إلى سجون معروفة ويزارون. لقد كان نهج النظام في مواجهة الثورة إبادياً، ابتداء من عام الثورة الثاني. ولا يتعلق الأمر بإبادة أفراد مهما كثر عددهم، بل بتحطيم بيئاتهم الاجتماعية، بما في ذلك عبر استهداف النساء بالاغتصاب والتعذيب، وتكميل أثر الحصار والبراميل المتفجرة والمجازر. ويتوافق هذا الوجه الإبادي مع تحول مهم طرأ على الدولة الأسدية بعد الثورة، تمثل في تقلصها بقدر كبير إلى دولة باطنة، أي سلطة تعذيب وتغييب وقتل، في التعامل مع الثائرين عليه، وبالتالي اتجاه الفرق بين الاعتقال والتغييب القسري، وبالتالي مجهولية مصير معظم المعتقلين.
وبسبب التوسع في الاعتقال والتعذيب استخدمت أجهزة متعددة للتوقيف منها الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد والحرس الجمهوري، ومجموعات الشبيحة، فضلاً عن الأجهزة المعروفة من قبل. واحتجز المعتقلين في أماكن مثل مطار المزة وفي سجون غير معلومة.
بعد الثورة السورية ظهرت سلطات هنا وهناك، إسلامية وكردية، ولديها سجونها ومقرات اعتقالها، ومعظمها غير معروف ولا يخضع لإشراف حقوقي. وممارساتها أقرب إلى التغييب القسري منه إلى التوقيف والحبس في أكن معلومة ووفقاً لقواعد مضبوطة.
كان لداعش سجون مختلفة، ومن المحتمل أن الدواعش قتلوا الألوف ممن اعتقلوهم، خطفاً من الشارع في الغالب. لا يزال مصير أكثرية مغيبي داعش غير معلوماً، ومنهم عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح واسماعيل الحامض والثائر السوري والراهب الجزويتي الإيطالي باولو دالوليلو وكثيرين غيرهم. عند داعش يختفي الفرق بين الاعتقال والتغييب القسري، وهو كذلك الميل العام عند النظام بعد الثورة، مثلما قلنا للتو. تكلمت الشبكة السورية لحقوق الإنسان في أحدث تقاريرها (آب 2024) حديث على أكثر من 113 ألف مغيب، وقالت إن النظام مسؤول عن تغييب 85% منهم.
وكان لدى جيش الإسلام، وهو تشكيل سلفي محلي ظهر في دوما القريبة من دمشق عام 2012، عدة سجون كلها سرية، تندرج ضمن جهاز اعتقالي تعذيبي اسمه التوبة، يجري تعذيب المعتقلين فيه باستخدام "الأخضر الإبراهيمي"، الاسم الذي يستخدمه جلادو النظام لوصف أنبوب مياه سميك، أخضر اللون، يستخدم في التعذيب. ومن المغيبين لدى جهاز التوبة الإجرامي سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل مادة وناظم حمادي منذ ما ينوف اليوم على 11 عاماً. ويعرض هذا التشكيل السلفي الميل العام نفسه إلى زوال الفرق بين الاعتقال والتغييب، ومع الأخير مجهولية المصير.
ولدى هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقاً) سجون متعددة في مجال سيطرتها في إدلب، وقلما يتمتع المعتقلون بحقوق فيها. وكذلك تعتقل سلطة بي واي دي من يعترضون على حكمها أو ينتقدونه، وحدث أن قتل معتقلون تحت التعذيب أو تركوا ليموتوا.
ورهان السلطات في جميع هذه الأمثلة يبدو إقامة حكم واحدي، شبيه بالحكم الأسدي.
ما يمكن بناءه على ما تقدم هو أن السجون كلها خارج القانون، خارج الرقابة الحقوقية والإعلامية، وهي بالتالي ليست مؤسسات عقابية عامة. المسألة بالتالي ليست سرية السجن، بل سجن السرية الذي تعيش سورية في ظلمته القاتمة منذ عقود، والذي تتشبه به سلطات أمر الواقع في السوريات الأربعة القائمة اليوم. والسرية هذه ليست مجرد شرط تقني للدولة والسياسة في سورية، بل هي جوهر الدولة المخصخصة وركيزة سياستها، إلى جانب العنف التعذيبي. والقصد من السرية هو أن يكون المجتمع مكشوفاً بالكلية أمام قوة حكم خاصة، تراه دون أن ترى هي، مثل البانوبتيكون الذي تكلم عليه فوكو في المراقبة والعقاب.
لقد جرى تطبيع الترابط بين كلمتي الأمن والسرية عبر ما يقترب من ستين عاماً هذا بينما يفترض العكس، أي أن يكون الأمن عاماً وعلنياً. لذلك العلنية ليست مطلباً شكلياً في بلد مثل سورية، إنها خروج من السجن، وهذا بقدر ما إن السرية سجن هي ذاتها، وأول الحرية هو الخروج منها.



#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- ملاحظات وخواطر من سورية في زمن جديد
- سورية وإسلامية ما بعد التغول
- إله المشرق الإسرائيلي وتناسُخاته
- ليلى سويف: دفاع استشهادي عن النفس
- في وجوب تحرير قضية فلسطين من الممانعة والممانعة المعكوسة
- إدوارد سعيد وهشام جعيط
- الثورة السورية، القضية السورية، المسألة السورية: بحثاً عن تر ...
- حزب الله: قصة ضلال عام
- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
- الأكاديمي السوري بين التعالي والذّمّيّة
- شهادة المحتل الأمين بمن يحتلهم من السوريين
- الصفح المستحيل: أفكار في شأن الصفح والعدالة والانتقام في الس ...
- في فشلنا التربوي العظيم
- من الهولوكوست والاستعمار إلى الممانعة و«الربيع العربي»: في ن ...
- -نظام بلا سلطة-، تعليق نقدي
- حزب الله قوة احتلال وقتل في سورية
- المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
- من السويداء إلى غزة: بحثاً عن توازن رادع
- عن الإذلال واللاعدالة في ذاكرة سورية وراهن فلسطيني
- في شأن اليهود والغرب والتطبيع الممتنع


المزيد.....




- الفائزون بجائزة الإنجاز مدى الحياة من Joy Awards بالسعودية
- ترامب يرجح فكرة منح تيك توك مهلة 90 يوما لتجنب الحظر الأمريك ...
- مسؤولون في الشحن البحري: طريق البحر الأحمر يظل محفوفاً بالمخ ...
- الحوثيون: استهدفنا حاملة طائرات أمريكية وقطعا حربية تابعة له ...
- روسيا.. احتفالات بعيد الغطاس
- إعلام عبري: الكتيبة 932 التابعة للواء ناحال تنسحب من قطاع غز ...
- وزير الخارجية المصري يتحدث عن شرط للتوصل إلى اتفاق قانوني ب ...
- بعد شهر من هجوم ماغديبورغ.. شولتس يشدد الإجراءات الأمنية في ...
- -أكسيوس-: إدارة ترامب لن تمانع في أن يصبح مادورو جار الأسد ف ...
- وزير الخارجية المصري يتحدث عن أكثر ما يقلق العرب تجاه الأوضا ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - ياسين الحاج صالح - في وداع السجن الأسدي والدولة السرية