أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - حمدي سيد محمد محمود - التطرف العلماني في العالم الإسلامي: جدلية التنوير والهيمنة الثقافية















المزيد.....


التطرف العلماني في العالم الإسلامي: جدلية التنوير والهيمنة الثقافية


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8224 - 2025 / 1 / 16 - 10:01
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
    


د.حمدي سيد محمد محمود

في خضم التحولات الجذرية التي تشهدها المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة، برزت إشكاليات فكرية وسياسية وثقافية تعكس صراعاً عميقاً بين الأصالة والمعاصرة، وبين الهوية الدينية والقيم الحداثية. وسط هذا الصراع، ظهرت ظاهرة "التطرف العلماني"، التي تمثل أحد أبرز التحديات الفكرية التي تواجه العالم العربي والإسلامي في القرن الحادي والعشرين. فبينما وُلدت العلمانية في سياقات تاريخية غربية كإطار نظري يهدف إلى فصل الدين عن الدولة حفاظاً على الحريات، انحرفت في بعض التجارب العربية والإسلامية إلى مسار أكثر تشدداً، يتسم برفض الدين كلياً في المجالين العام والخاص، بل وأحياناً بالسعي إلى تقويض مكانته وتأثيره.

هذا التطرف، الذي يرتدي عباءة الحداثة والتنوير، لا يسعى فقط إلى إعادة تشكيل المجال السياسي أو الفكري، بل يتعدى ذلك إلى استهداف الهوية الثقافية والوجدانية للأمة. إنه يمثل تحدياً مزدوجاً: فهو من جهة يسعى إلى فرض رؤى أحادية تتجاهل التعددية الدينية والثقافية التي تميز المجتمعات العربية، ومن جهة أخرى يولد استقطاباً مجتمعياً يهدد وحدة الأمة واستقرارها.

إن التطرف العلماني ليس مجرد ظاهرة عابرة، بل هو امتداد لصراع طويل بدأ مع محاولات القوى الاستعمارية في القرن التاسع عشر فرض منظومات فكرية وقيمية تتنافى مع الخصوصية الثقافية للشعوب العربية والإسلامية. ومع استقلال الدول العربية، استمر هذا النزوع في ظل أنظمة سياسية تبنت "التحديث القسري"، ما أدى إلى تهميش الدين وإقصاء دوره في تشكيل الهوية الوطنية.

اليوم، يظهر التطرف العلماني بأشكال أكثر تعقيداً وخطورة، حيث يختبئ وراء شعارات الحرية والتقدم والحداثة، لكنه في جوهره يسعى إلى فرض قيم وقوانين تخالف روح المجتمع وتقاليده. وتتمثل خطورته الكبرى في كونه لا يكتفي بإقصاء الدين من السياسة، بل يحاول تغييب الدين عن الحياة برمتها، سواء في التعليم، الإعلام، القوانين، أو حتى المجال الثقافي والاجتماعي.

في هذه الورقة، نسعى إلى استجلاء أبعاد هذه الظاهرة بعمق، عبر تحليل جذورها التاريخية والفكرية، استعراض أدواتها ومظاهرها، وتبيان تأثيراتها السلبية على المجتمعات العربية والإسلامية. كما نطمح إلى تسليط الضوء على السبل المثلى لمواجهتها، بما يضمن تحقيق التوازن بين قيم الحداثة ومتطلبات الهوية، وبين حرية الفرد واحترام الموروث الثقافي. ذلك أن مستقبل الأمة مرهون بقدرتها على مواجهة هذا التطرف بكل حكمة ووعي، لتبقى وفية لذاتها وفي الوقت ذاته منفتحة على العالم.

التطرف العلماني

التطرف، بغض النظر عن مظاهره وأشكاله، يُمثل تهديداً للاستقرار الاجتماعي والثقافي والسياسي. وفي السياق العربي والإسلامي، يبرز "التطرف العلماني" كإحدى الظواهر التي تشكّل جدلاً واسعاً. يرتبط هذا المفهوم بتوجهات علمانية متشددة تسعى لفرض رؤى وأيديولوجيات محددة على المجتمعات، متجاهلة التعددية الثقافية والدينية التي تميز هذه المنطقة. سنستعرض في هذا التحليل أبعاد التطرف العلماني، جذوره، أدواته، وأثره على المجتمعات العربية والإسلامية.

أولاً: تعريف التطرف العلماني

التطرف العلماني يُعرف بأنه تلك الممارسات الفكرية والسياسية التي تسعى إلى إقصاء الدين تماماً من الحياة العامة والخاصة، مع تشويه دوره في الهوية والثقافة والمجتمع. وهو يتجاوز الحد الطبيعي للعلمانية التي تعني فصل الدين عن السياسة مع احترام المعتقدات، ليصل إلى مرحلة المواجهة العدائية مع كل ما هو ديني أو ثقافي مرتبط بالإرث الإسلامي.

ثانيًا: الجذور التاريخية للتطرف العلماني

- الاستعمار الأوروبي: زرع العلمانية بشكل متطرف في العديد من البلدان العربية والإسلامية، حيث كانت جزءاً من مشروع استعماري لإضعاف الروابط الدينية والثقافية.

- رد الفعل ضد الإسلام السياسي: نشوء حركات إسلامية ذات طابع سياسي دفع بعض النخب العلمانية إلى تبني مواقف متشددة كنوع من المعارضة.
التأثر بالثورات الغربية: خاصة الثورة الفرنسية، التي ارتبطت بفكرة "الدين عدو الحرية".

- مشاريع التحديث القسري: كما حدث في بعض الأنظمة العربية التي تبنت التوجهات العلمانية بشكل صارم، مثل تركيا الكمالية وبعض الدول في حقب معينة.

ثالثًا: أبرز مظاهر التطرف العلماني

- الهجوم على الرموز الدينية: الانتقادات الممنهجة للحجاب، الأذان، والمؤسسات الدينية.
- فرض قيم غربية بالقوة: الترويج لسياسات تعارض القيم الدينية والأخلاقية السائدة في المجتمعات.
- تهميش التعليم الديني: تقليص دور التعليم الديني في المناهج وتحجيم المؤسسات الشرعية.
- قوانين تقيد الحريات الدينية: مثل حظر الحجاب أو النقاب في الأماكن العامة.
- تشويه الهوية الإسلامية: محاولة تصوير الدين كمعيق للتقدم والتنمية.

رابعًا: أدوات التطرف العلماني

- الإعلام: استخدام وسائل الإعلام لتشويه صورة الإسلام والترويج لبدائل ثقافية غربية.
- القوانين والتشريعات: فرض قوانين تعارض الدين أو تقيد دوره في المجال العام.
- التمويل الخارجي: دعم منظمات ونخب لترويج العلمانية المتطرفة.
- التعليم: تغيير المناهج التعليمية لتهميش القيم الدينية.
- الفنون والثقافة: الترويج لمضامين أدبية وفنية تتسم بالعدائية تجاه الدين.

خامسًا: أثر التطرف العلماني على المجتمعات العربية والإسلامية

- تفكيك الهوية الثقافية والدينية: محاولات فصل الشعوب عن تراثها الديني والثقافي.
- استقطاب اجتماعي حاد: تعزيز الانقسام بين النخب العلمانية والجماهير ذات التوجهات الدينية.
- ردود فعل متطرفة: مثل صعود تيارات دينية متشددة كرد فعل على التطرف العلماني.
- إضعاف الاستقرار السياسي: إذ يؤدي هذا الصراع إلى تفاقم التوترات الداخلية.
- إضعاف قيم التسامح: إذ يعزز التطرف العلماني رؤية أحادية تقصي المختلف.

سادسًا: أمثلة معاصرة للتطرف العلماني

- فرنسا والجدل حول الحجاب: تصعيد القوانين التي تحظر الرموز الدينية.
- بعض الأنظمة العربية: التي فرضت علمانية صارمة في مراحل معينة مثل حقبة بورقيبة في تونس.
- الإعلام الغربي والعربي المتأثر بالغرب: الذي يروّج لصورة الإسلام كمعيق للتطور.

سابعًا: مواجهة التطرف العلماني

- تعزيز الحوار المجتمعي: بين مختلف التيارات لضمان فهم أعمق للتعددية.
- إحياء الخطاب الوسطي: الذي يوازن بين احترام الدين وتعزيز الحداثة.
- إصلاح التعليم والإعلام: لضمان عدم تحيزهما ضد الدين.
- تشجيع الفكر النقدي: لمواجهة الأيديولوجيات المتطرفة أياً كان توجهها.
- تعزيز القيم الديمقراطية: لضمان احترام كل المكونات المجتمعية.

في المجمل، فإن التطرف العلماني ليس مجرد توجه فكري، بل هو ظاهرة تحمل تداعيات عميقة على الهوية والقيم والاستقرار الاجتماعي. يتطلب مواجهته عملاً فكرياً واجتماعياً متكاملاً يضمن تحقيق التوازن بين القيم الدينية والثقافية ومتطلبات الحداثة. إن فهم هذه الظاهرة وتحليلها بشكل معمق يُعد ضرورة أساسية لضمان سلامة النسيج الاجتماعي في المجتمعات العربية والإسلامية.

إن التطرف العلماني، بما يحمله من نزعات إقصائية وتوجهات عدائية تجاه الموروث الديني والثقافي، يمثل تحدياً خطيراً يهدد توازن المجتمعات العربية والإسلامية واستقرارها. فهو ليس مجرد صراع فكري بين تيارين متعارضين، بل هو معركة على الهوية والوجدان، وصراع بين محاولات التحديث وبين الحفاظ على أصالة القيم والتقاليد.

لقد أثبتت التجارب التاريخية أن أي محاولة لفرض رؤية أحادية على المجتمعات، سواء كانت دينية أو علمانية، لا تؤدي إلا إلى المزيد من الانقسام والاستقطاب. والتطرف العلماني، بقدر ما يروج لشعارات الحرية والتقدم، فإنه قد يساهم في تعزيز ردود فعل متطرفة من الطرف الآخر، مما يُدخل الأمة في دوامة من الصراع الذي لا ينتهي.

إن مواجهة هذا التحدي تتطلب فهماً عميقاً لجذوره وأبعاده، ورؤية شاملة تتجاوز الثنائيات التقليدية بين الدين والحداثة، أو الأصالة والمعاصرة. لا يمكن تحقيق الاستقرار والتنمية في المجتمعات العربية والإسلامية إلا من خلال تبني نموذج وسطي يعترف بالتعددية الفكرية والدينية، ويحترم الهويات المتجذرة، دون أن ينغلق أمام التطور والانفتاح.

في النهاية، إن التوازن بين العلمانية المعتدلة التي تفصل بين الدين والسياسة دون أن تعادي الدين، وبين التدين الواعي الذي يقبل بالاختلاف ويعمل لتحقيق المصلحة العامة، هو السبيل الوحيد لبناء مجتمعات متماسكة وقادرة على مواجهة التحديات الداخلية والخارجية.

ويبقى الرهان الأكبر على النخب الفكرية والسياسية والثقافية في العالم العربي والإسلامي، التي تتحمل مسؤولية صياغة خطاب يجمع بين قيم التنوير واحترام الموروث، ويؤسس لمرحلة جديدة من الحوار والتفاهم بعيداً عن التطرف بكل أشكاله. إن مستقبل الأمة لا يصنعه من ينكر ماضيها أو يرفض حاضرها، بل من يستطيع أن يوائم بين الاثنين ليؤسس لمستقبل أكثر إشراقاً وتقدماً.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخط الفاصل بين العقلانية والسلطة: تحليل نقدي لعلاقة هابرماس ...
- الدين في مرآة الفلسفة: قراءة تحليلية لكتاب -لماذا لست مسيحيا ...
- صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي: هل نحن أمام عالم ...
- المجتمع السائل وتحديات الأخلاق: قراءة في أطروحات سيغمونت باو ...
- الأنظمة العربية والتيار الإسلامي: جدلية الصراع على السلطة وا ...
- إشكاليات العقل العربي: جدلية التراث والحداثة في فكر طرابيشي
- صناعة الانصياع: الامتثال الجماعي في النظم الديكتاتورية وأثره ...
- خاير بك بين صفحات العار والتاريخ: كيف سقطت دولة المماليك؟
- الاستشراق والسياسة الدولية: قراءة نقدية في جذور الهيمنة على ...
- الإنسانوية في مواجهة الذات: قراءة نقدية في مركزية الإنسان
- بين التراث والحداثة: مشروع حسن حنفي الفكري في نقد الواقع الع ...
- الميتافيزيقا الإسلامية: قراءة معاصرة في القضايا الغيبية والو ...
- السياسة النقدية والليبرالية الجديدة: قراءة شاملة في فكر ميلت ...
- تفكيك القيود: فلسفة جوديث بتلر في تحرير الهوية وإعادة تشكيل ...
- فلسفة فيورباخ: قراءة نقدية للمثالية والتدين في عصر الحداثة
- الوعي بالإله في الفلسفة الأوروبية: من الأسس الميتافيزيقية إل ...
- مصر تحت حكم عباس حلمي الأول: استراتيجية الاستقلال في مواجهة ...
- مدرسة طليطلة: إرث الحضارة العربية في تشكيل الفكر الغربي
- القلق الوجودي: جدلية الحرية والإيمان في فلسفة سورين كيركغارد
- الفينومينولوجيا الدينية: رؤية جديدة لفهم الدين في زمن ما بعد ...


المزيد.....




- مصر.. ترحيب باتفاق وقف إطلاق النار في غزة.. ومطالبات بإدخال ...
- مصدر: مجلس الوزراء الإسرائيلي يصوت على اتفاق وقف إطلاق النار ...
- بي بي سي تودع منير عبيد، أحد أبرز قاماتها الإعلامية
- مقتل 72 فلسطينيا في غزة جراء غارات إسرائيلية رغم إعلان الهد ...
- احتجاجات بتل أبيب تطالب بالمصادقة على اتفاق وقف النار وبن غف ...
- الحوثيون يهدّدون بمواصلة هجماتهم على إسرائيل إذا لم تلتزم با ...
- ترحيب عربي بالاتفاق بين حماس وإسرائيل
- الحوثيون: نحذر أمريكا وبريطانيا وإسرائيل من أي مواقف انتقامي ...
- البرهان يزور ود مدني لأول مرة عقب معارك الجيش السوداني مع قو ...
- وزير الدفاع الأمريكي: يجب تنفيذ اتفاق وقف إطلاق النار في غزة ...


المزيد.....

- المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية / ياسين الحاج صالح
- قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي / رائد قاسم
- اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية / ياسين الحاج صالح
- جدل ألوطنية والشيوعية في العراق / لبيب سلطان
- حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة / لبيب سلطان
- موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي / لبيب سلطان
- الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق ... / علي أسعد وطفة
- في نقد العقلية العربية / علي أسعد وطفة
- نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار / ياسين الحاج صالح
- في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد / ياسين الحاج صالح


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي - حمدي سيد محمد محمود - التطرف العلماني في العالم الإسلامي: جدلية التنوير والهيمنة الثقافية