|
ما هي العلمانية؟
رسلان جادالله عامر
الحوار المتمدن-العدد: 8223 - 2025 / 1 / 15 - 20:52
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
قد يبدو السؤال عن ماهية العلمانية مستغربا بالنسبة للكثيرين، الذين يعتقدون أن "العلمانية ببساطة هي فصل الدولة الدين"! لكن الأمر قطعا ليس بهذه البساطة أو التبسيط، فالقول أن "العلمانية هي الفصل بين الدولة والدين"، يطرح العديد من الأسئلة، وأهمهما: 1- من أين جاء مصطلح "عَلمانية" بالضبط، وكيف تم اشتقاقه؟ 2- ما هو السبب الذي تفصل فيه العلمانية بين الدولة والدين؟ 3- وما هو بديل الدين الذي تعتمد عليه العلمانية في بناء دولتها الحديثة؟
في هذا المقال سنجيب عن هذه الأسئلة بوضوح وإيجاز، ولكن ليس بالترتيب، وسنبدأ من السؤال الثاني بينها. إن "تعريف العلمانية" بأنها الفصل بين الدولة والدين، هو تعريف خال من التبرير المنطقي لهذا الفصل، فهنا لا يُفهم لماذا يتم هذا الفصل، وما هو الأساس الذي يقوم عليه، ولا ما هو البديل الذي يُستبدل به الدين، ويحل محل الدين في عملية بناء الدولة الحديثة، وقد يبدو القول بـ "وجوب الفصل بين الدولة والدين" في المنظور العلماني بهذا الشكل غير المبرر منطقيا، عند السؤال عن التبرير المنطقي لهذا الفصل، كلاما لا يختلف في قيمته المنطقية عن القول بـ "وجوب الربط، أو الدمج بين الدولة والدين" في المنظور الديني، وهنا في أحسن الأحوال، قد يتساوى القولان، بحيث يعتبر كلا منها عبارة عن رأي إيديولوجي لصاحبه لا أكثر. لكن مع ذلك حتى هذه اللحظة يمكننا أن نجد أن الرأي الديني مايزال هنا أكثر تبريرا من الرأي العلماني، وذلك لأن الرأي الديني يبرر ويعزز موقفه بالزعم بأن الدين هو رسالة منزلة من عند الله، وبالتالي فبناء الدولة على أساس الدين يعني بناءها بما يرضي الله، ووفقا لما أمر به الله، وعلى شريعة سماوية منزلة من عند الله، وهذا ما يجعل الدولة الدينية أفضل بامتياز من أية دولية وضعية، ويجعل من رفضها أو مخالفتها معصية للمشيئة الإلهية. هذا التحدي الذي يضعه الدين في مواجهة العلمانية في ما يتعلق بمسألة بناء الدولة، على العلمانية أن تر د عليه ردا مقنعا، وإلا فهي موجبة بأن تعترف بخسارتها وتنسحب بهدوء! فما هو الرد الذي يمكن للعلمانية أن ترد به على تحدي الدين، الذي يربط نموذجه السياسي الديني المتمثل بالدولة الدينية بمرجعية ومشروعية إلهية؟! هنا سترد العلمانية بأن أي دين يزعم إلهية الأصل والنسب، سيكون ملزما تماما ببيان حجية هذا الزعم وإثباتها، والسؤال هنا هو أمام من سيكون الدين ملزما بالبيان والإثبات؟ والجواب القطعي والحصري هو "أمام العقل"! فلا قيمة لأية أزعومة دينية بسماوية مصدرها، إن هي لم تقدم الإثبات الكافي للعقل حول صحة أو صدقية زعمها، وهنا يحق للعقل، وبأدواته كعقل، أن يقبل أو يرفض هذه الحجة، وأيا كان موقف العقل من الزعم الديني، فهذا يعني أن "العقل هو الحكم"! وهذه الخلاصة الدامغة حول "حكمية أو حاكمية العقل" هي القاعدة الأساسية الكبرى التي تقيم عليها العلمانية مبناها! وعند الاحتكام إلى العقل، وبدون الخوض في تفاصيل كثيرة، سنجد أن العقل المنطقي الحر، عند النظر في أمر الدين، وبناءً على معطيات التاريخ والواقع والعلم، سيصل إلى نتيجة مفادها أن الدين كظاهرة هو عبارة عن منتج إيماني تصوري بشري، يتم إنتاجه في جملة من الظروف الواقعية المناسبة المختلفة، ولذا فهو يختلف بين مجتمع وآخر وعصر وآخر، وفي المحصلة، كل الأديان، بنظر هذا العقل، مع كل ما بينها من خلافات وتناقضات عديدة وجسيمة، تشترك في شيء جوهري فيصلي، وهي أنها كلها تصورات، وليست حقائق، وهي لا تختلف قطعا عن الأساطير، بصرف النظر عن كم وشكل الأساطير الموجودة فيها، هي نفسها. وأمام هذه الخلاصة القائمة على العقل المنطقي الحر، التي تفيد بأن كل الأديان هي منتجات تصورية بشرية، لا تقوم على أسس منطقية وعلمية، يصل هذا العقل المنطقي الحر إلى ضرورة ووجوب إبعاد الدين بشكل كلي عن عملية بناء الدولة وإدارة المجتمع، وهذا ينطبق على كل الأديان بدون استثناء، كما ويصل أيضا مقابل ذلك إلى ضرورة بناء الدولة الحديثة وإدارة المجتمع الحديث بأدوات هذا العقل الحر المنطقي نفسه! أي أن العقل الحر المنطقي، أو العقل العقلاني، هو نفسه من يحل محل الدين في عملية بناء الدولة وإدارة المجتمع في النظام العلماني! وبالتالي، يمكن القول أن العلمانية هي منهجية العقل في التعامل مع شؤون العالم الإنساني، وعندما يتعلق الأمر بتأسيس الدولة وإدارة المجتمع، فالعلمانية لا تقبل إلا بالعقل قائدا وحاكما لهذه العملية!
وهكذا نكون قد أجبنا عن السؤالين الثاني والثالث، ويمكننا الآن أن نعود إلى السؤال الأول، الذي يتعلق بمصطلح "العلمانية". فعليا، عندما يفكر العقل العقلاني بكيفية إنشاء الدولة وحكم المجتمع، ويعطي لنفسه الحق المُمَنطق والمبرر عقلانيا للقيام بهذه العملية، فسيجد هذا العقل أن "الحقيقة الوحيدة المطلقة أمامه هي الواقع الكوني"، "بما فيه العالم الإنساني"، أي العالم، أما العوالم الدينية الماورائية فهي لن تكون بالنسبة إلى هذا العقل أكثر من تصورات، يجب إبعادها عن الدولة والحكم، والأمر نفسه ينطبق على أية فلسفات ميتافيزيقية أخرى! وهذا يعني أن العقل العقلاني عندما يحل مسألة الدولة والحكم، سيكون عليه أن يتعامل كعقل عقلاني في هذه المهمة مع الحقيقة الوحيدة الثابتة أمامه ويبني عليها، وهذه الحقيقة هي العالم! أو عالم الإنسان! أي باختصار بالنسبة للعقل العقلاني "العالم أو العالم الإنساني هو الحقيقة الوحيدة الثابتة التي يجب التعامل معها والبناء عليها عند إنشاء المجتمع والدولة الإنسانيين الحديثين". ومن هنا يأتي اشتقاق مصطلح "عـَلمانية" (بفتح العين)، فـ "عَلمانية" تعني "عالمانية"، نسبةً إلى "عالَم"، وكلمة "عَلمانية" نفسها مشتقة عربيا من كلمة "عَلم" التي تعني "عالم". وهكذا يمكن القول أن "العَلمانية هي هندسة أو منهجية عقلانية لبناء دولة ومجتمع الإنسان الحديثين على أسس عقلانية واقعية"، وعلى هذا الأساس يتعين في العلمانية الفصل بين الدولة والدين.
لكن العلمانية بما هي منهجية عقلانية واقعية اجتماعية سياسية، فهي تتعامل مع الواقع كواقع، ولذا فهي لا تشترط حكمية الفصل بين الدولة والدين بشكل مطلق وفي ظرف كان، وعندما يكون المجتمع في وضع مايزال فيه على درجة واسعة وعميقة ومعقدة من التدين، فهي ترجئ هذا الفصل إلى الحين الذي يصبح فيه الواقع الاجتماعي متطورا أو مهيأ بما يكفي للقيام بهذا الفصل.
وفي ما يتعلق بالدين، فالمنهجية العلمانية التي تبعده عن الدولة والحكم، تبعده أيضا عن الشأن العام، وتحيله إلى الشأن الخاص وتعطيه مجالا واسعا للبقاء والنشاط في هذا الميدان الخاص، بشرط ألا ينجم عن ذلك أي ضرر لا للذات ولا للغير ولا لعالم الإنسان ككل. وفي موقفها هذا من الدين، العلمانية لا تنبذ الدين ولا ترفضه بشكل كلي، وهي لا تسعى إلى طرده خارج العالم الإنساني، ولا تراه غريبا عن هذا العالم أو دخيلا عليه، ولكنها تراه مكوّنا واقعيا تاريخيا ثقافيا من مكونات هذا العالم، ومنتجا من منتجاته، ولذا تعطيه الحق بالبقاء، ولكن بعد أن تضعه في مكانه الصحيح، في "الشأن الخاص" الذي يجب يكون المكان الحصري الوحيد الذي يمكن للدين أن يتواجد وينشط فيه.
* سوريا - السويداء - شهبا 15/01/2025
#رسلان_جادالله_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
التناقض الجوهري بين الدولة المدنية الديمقراطية ونظام المحاصص
...
-
ما هي -الدولة المدنية الديمقراطية-؟
-
الكتابة عن الحب والجنس في موضع جدل
-
إشكالية الاختلاف، دور النظام الاجتماعي وإمكانية الحل
-
ما هي -ما بعد العلمانية-؟
-
بناء الثقة والأمن: البريكس والنظام العالمي
-
إثنان من كارل ماركس
-
العملية الحربية الخاصة وتغيير النظام العالمي
-
عبد عدوه لا ينصر أخاه...
-
كيف تتعامل العلمانية مع المسألة الجنسية؟
-
تحليل الحمض النووي يثبت أن القديس لوقا هو من يقولون أنه هو
-
الطائفية بين عصبية الطائفة وتردي المجتمع
-
قصة حب ميهاي إمينيسكو وفيرونيكا ميكلي
-
الديكتاتورية.. تقزيم الشعب وتأليه الزعيم
-
مشكلة الزي بين المرأة العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية
-
مزامير على إيقاع فلسطيني
-
هل للدين أهمية في العالم الحديث؟
-
يا روح لا تتوقفي.. هيا انزفي
-
الصداقة بين الرجل والمرأة .. هل هي حقيقية؟
-
على أطلال مورتستان
المزيد.....
-
الجهاد الاسلامي: المقاومة ستبقى في حالة يقظة لضمان تنفيذ الت
...
-
الجهاد الاسلامي: نتوجه بالتحية إلى كل قوى المقاومة التي ساند
...
-
الإفتاء تُذّكر بموعد ليلة الإسراء والمعراج 2025 والأعمال الم
...
-
حماس: نشكر المواقف التي ساهمت بفضح الاحتلال عربيا واسلاميا
...
-
خليل الحية: جبهات الاسناد أبلت بلاء حسنا يجسد أخوة الاسلام و
...
-
خليل الحية: نحيي الأخوة في حزب الله وأنصار الله والجمهورية ا
...
-
خليل الحية: نشكر الجمهورية الاسلامية على عمليتيها الوعد الصا
...
-
ما موقف الإسلام من حوار الأديان؟
-
بعد مشاهدته عرضًا بهلوانيا.. البابا فرنسيس يتحدث عن عمالة ال
...
-
“ماما جابت بيبي”.. تحديث تردد قناة طيور الجنة 2025 الجديد عل
...
المزيد.....
-
السلطة والاستغلال السياسى للدين
/ سعيد العليمى
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
المزيد.....
|