قد تفسر نكتة معروفة شطارة عراقيين يحتالون على الاحتلال الأميركي• تحكي النكتة عن زوج مخدوع عثر على عشيق زوجته تحت السرير، وبدلاً من أن يقتله أخرجه من تحت السرير واحتضنه بقوة وقبّله وهو يردد ملهوفاً: كنت فين يا راجل؟!••• ولا يهمّك• بس تدفع أجور الكهرباء والميّه والتلفون وكمان مصروف الأولاد• إنها من نوع النكات التي يقول عنها الكاتب الأميركي الهزلي مارك توين لا تصدر عن قلب خالٍ بل عن قلب مفجوع• كذلك هي شطارة بعض العراقيين الذين يعتقدون أنهم يحتالون على الاحتلال• ومن يتوقع أن يدفع الأميركيون وحلفاؤهم نفقات تدمير أكثر من 90 في المائة من محطات توليد القوة الكهربائية والمصافي والمجمعات البتروكيمياوية، وهدم معظم الاتصالات الهاتفية وتجهيزات المياه والمجاري وشبكات الطرق البرية والمطارات والجسور ومحطات الإذاعة والتلفزيون ومصانع الإسمنت والألمنيوم والمنسوجات والكابلات الكهربائية والتجهيزات الطبية ومصانع المعدات الآلية والهياكل الارتكازية للجامعات ومراكز ومختبرات البحوث العلمية والمتاحف والمكتبات العامة؟ معظم هذه المنشآت دُمرّ مرتين: في حرب 1991 وفي حرب •2003 الحرب الأولى سببت خسائر مادية للعراقيين بلغت 190 مليار دولار، حسب تقدير صندوق النقد العربي• كم كلفة خسائر الحرب الأخيرة، التي دمرّت بالكامل تقريباً ما أعاد العراقيون بناءه بعرقهم وتضحياتهم وعذابهم تحت أبشع حصار في التاريخ وأقذر مؤامرات حيكت على بلد مُستضعف؟
وأتعس الشطّار المتحمسين للاحتلال الأميركي من لا مال عنده ياخذه السلطان ولا عقل ياخذه الشيطان، حسب المثل البغدادي• يعتبرهم جيف سيمونز، مؤلف كتاب التنكيل بالعراق The Scourging of Iraq ضحايا عملية تحويل نفسي تلقي مسؤولية الجرائم أتوماتيكياً على النظام العراقي السابق• نوع من هوس موسوس تغذيه حملة إعلامية دولية عالية التنظيم يُنفق عليها مليارات الدولارات• هدف الحملة التغطية على أكبر عملية نهب في التاريخ تجري تحت اسم إعادة البناء وتقديم المساعدات الإنسانية• هنري واكسمان، عضو الكونغرس الديمقراطي عن ولاية كاليفورنيا كشف عن فضيحة تلزيم مقاولة قدرها 7 مليارات دولار لإعادة بناء تجهيزات النفط العراقية قبل أن تطأ القوات الأميركية أرض العراق• رست المقاولة على شركة هاليبرتون الأميركية، التي كان يرأسها ديك تشيني قبل توليه منصب نائب الرئيس الأميركي• وهاليبرتون، التي دفعت لتشيني 36 مليون دولار مكافأة نهاية الخدمة متورطة في أعمال نصب حسابية وتلاعبات بالأسهم دفعت عنها الشهر الماضي غرامة بلغت 6 ملايين دولار• ويستغرب واكسمان من انفراد شركة واحدة بالحصول على هذه الأموال الطائلة من الحرب عن طريق مناقصة مغلقة• لم يشارك في المناقصة أيُ من عمالقة صناعات النفط والغاز العالمية، وحُرمت منها الشركات العربية العاملة في ميدان النفط على الصعيد الدولي• وأشنع ما في الأمر عدم مشاركة هيئة عراقية في تلقي العروض ومراجعة تفاصيلها التقنية وذيولها التطبيقية• يصف العملية خبير في شركة تعمل لحساب هاليبرتون كما لو يقوم طباخون مهرة بتقديم خدماتهم للزبائن عبر أنابيب التغذية في المستشفيات• ويستغرب الخبير من اختيار مسؤول في شركة شيل Shell للإشراف على النفط العراقي• فالمعروف في أوساط الصناعة العالمية أن شيل لا تميل للعمل مع شركتي بي بي BP وإكسون ,Exxon ويهدد هذا في رأيه بتعطيل العملية وإخفاقها السريع•
وتشبه جميع صفقات الأعمال التي يبرمها الاحتلال صلاة صهاينة اليهود، التي يقول عنها مثل عراقي شعبي صلاة اليهود نصفها غلط ونصفها كفر• ومن سيدفع ثمن الغلط والكفر غير العراقيين؟ تجارب العمل مع الشركات الأميركية تستدعي وجود هيئات قانونية وتقنية قادرة على خوض صراعات معقدة كتلك التي ما يزال يخوضها الهنود ضد شركة يونيون كاربايد المسؤولة عن كارثة تسرب كيمياوي أدت إلى موت وعمى الآلاف• من يمثل العراقيين في مقاضاة الشركات عن الكوارث أو الإخفاقات أو عمليات الاحتيال؟ أحمد الجلبي المطلوب للعدالة في الأردن؟ أم محافظا بغداد والنجف، اللذان اعتُقلا بعد ايام من تعيينهما في المنصب؟ أم من لا يُعرف عددهم من عراقيين شطّار يتقاضون مرتبات بملايين الدولارات المُستقطرة من دم العراقيين؟
هذه هي شطارة الاستسلام للاحتلال وإضفاء الشرعية عليه• فالقوات التي انتهكت القوانين الدولية باحتلال العراق هي عصابات لوردات النفط، التي تعتبرها المجلة الأميركية اللبرالية ذي نيشن The Nation أسوأ من حثالات عصابات المخدرات في أميركا اللاتينية وأكثر إجراماً منها• تحول هذه العصابات العراق إلى مخزن تجاري عملاق لمختلف أنواع السلع الجاهزة حسب التسعيرة الغربية، وتضع مقدّرات البلد في قبضة اقتصاد السحرة Voodoo Economy القائم في بلدان المنطقة على الخدمات وغسل الأموال• يحدث هذا في وقت تقترب شعوب آسيوية عدة من مرتبة القوى الدولية التكنولوجية والاقتصادية على غرار اليابان وكوريا• ويجري هذا للعراق، الذي كان قادراً قبل شهرين على إنتاج صواريخ تنطلق بحمولتها مسافة عشرات الأميال، وكان قادراً قبل حرب الخليج السابقة على صنع صواريخ ترتفع إلى مدار خارج الكرة الأرضية• واليوم يستبشر المهندسون ورجال الأعمال العراقيون بالعمل كأجراء ويفخرون بوضع خبراتهم ومعداتهم في خدمة شركات أجنبية تنتهك قوانين بلدهم، وهذه ليست مُزحة، حسب تعبير المجلة الأميركية• السؤال المطروح الآن على صعيد عالمي هو: هل يستطيع العراق المغلوب المحافظة على بقائه في وجه هجوم وول ستريت؟ تطرح السؤال صحيفة أوبزرفر الأسبوعية البريطانية في تقرير رئيسي تحت عنوان الآن جاء دور المدافع الكبيرة• مدافع المال والأعمال الأميركية التي تمطر العراق بقنابل الامتيازات النفطية والتسهيلات التجارية ومشاريع الخصخصة• ورغم تدهور الوضع الأمني تزحف وفود شركات التأمين والإنشاءات ومؤسسات خصخصة كل شيء، من الخدمات الصحية وإدارة الأعمال وحتى التعليم والإعلام والبحوث والدراسات• يصف مراسل صحيفة نيويورك تايمز من بغداد في تقرير معنون الصناعة في العراق تحت قصف السلع المستوردة الرخيصة حال الصناعيين العراقيين والقوة العاملة العراقية• يذكر التقرير أن القطاع الصناعي الخاص، الذي يشغل نحو عُشر القوة العاملة المحلية يتهاوى أمام المنتجات الأجنبية من كل نوع• أسواق في الهواء الطلق تفيض بأجهزة تلفزيون مستوردة من كوريا الجنوبية وبرّادات من إيران والصين وشوايّات من ألمانيا وأغذية معلبة من جميع أنحاء العالم تقريباً• والضحية الأكبر هي مصانع القطاع العام التي كانت تنتج كل شيء تقريباً ويعمل فيها أكثر من 100 ألف عامل•
وهذه ليست مسائل اقتصادية بحتة يمكن أن يحلها الشطّار، بل هي في صميم موضوع الأمن الذي يهدد الجميع• فالصناعيون العراقيون الذين أمنوا للعراق وسائل البقاء خلال فترة الحصار يملكون تاريخاً عريقاً في بناء مجتمع بلدهم ونسيجه الاقتصادي والاجتماعي وحتى السياسي والفكري• وفي مبادرة أهلية لتجميع عدد منهم عقدت غرفة التجارة العراقية الأميركية في الأسبوع الماضي أول اجتماع لها في بغداد حضره نحو 150 من رجال الأعمال والصناعة العراقيين• الشخص الوحيد الذي تخلف عن الاجتماع هو ممثل إدارة الاحتلال الأميركي• وقد تصرفت غرفة التجارة العراقية الأميركية على غرار المثل القائل إذا لم يأت محمدٌ إلى الجبل فليذهب الجبل إلى محمد• في اليوم التالي للاجتماع تحرك وفد غرفة التجارة العراقية الأميركية إلى فندق الرشيد حيث مقر إدارة الاحتلال• وكانت تلك من المناسبات التي يقول عنها العراقيون ما تتمناها لعدوك• فالمسؤول الأميركي الذي قابلوه يشرف على إدارة بنك الرشيد الرسمي في العراق رغم تجاوزه السن القانونية للإحالة على التقاعد منذ سنوات• تبلغ فروع البنك نحو 700 ويعمل فيه أكثر من 7 آلاف موظف، جميعهم تقريباً لم يسمع بالمسؤول الأميركي ويجهل اسمه ورسمه• ولا تتوفر لجميع العاملين، بما في ذلك مدراء فروع البنك وسيلة هاتفية بسيطة للاتصال برئيسهم أو للاتصال بين الفروع•
محمد عارف
مستشار في العلوم والتكنولوجيا