|
يبقى العالم المنشود هو العالم الذي تجمعه القيم والفضائل الإنسانية السامية
خالد محمود خدر
الحوار المتمدن-العدد: 8219 - 2025 / 1 / 11 - 10:47
المحور:
المجتمع المدني
إن أكثر النفوس نقاء وطهرا وطيبة هي من تحملت واجتازت مطبات الحياة ودروسها القاسية ، كما أن احوج النفوس للاحتواء وأكثرها قناعة هي أكثرها صدمة من أهوال الدنيا واشرارها ، مثلما أن أكثر الألسن حديثاً عن القوة و التفاؤل هي أكثر من كانت يوما بحاجة للعطف والاسناد والدعم.
الحياة في تجاربها القاسية تبين أن النفس التي عانت من غدر أو حرمان غالباً ما تصبح أكثر النفوس حناناً و وفاءً، لأن التجارب القاسية تصقل الروح وتجعلها أكثر إدراكاً لألام ومعانات الآخرين. مثلما هذه النفس تمنح ما تفتقده كنوع من التعويض للآخرين عن حرمانها، وكأنها تحاول أن تكون المصدر الذي تمنت أن تجده في حياتها. ولعل من هنا يمكن فهم معنى الكرم الحقيقي ، ذلك أن النقص في شيء ما لا يعني العجز عن العطاء ، بل قد يكون دافعاً قوياً للإبداع في منحه وان راهن على يستوجب ضمان ذلك.
ان حياة الناس ليست بمظاهرها بل بخفاياها ، وليس جوهر الناس بوجوههم بل بقلوبهم وإيمانهم بحق الآخرين في الحياة وان لهم حق عليهم في مد يد العون لهم وقت الشدائد او غيرها. عليه فالناس ليس بما يظهروه على السطح، بل بما يكمنوه في نفوسهم من قيم وفضائل. المظاهر قد تخدع، لكن القلوب الصادقة هي التي تكشف عمق الإنسان وصدقه في التعامل مع الآخرين.
لعل أثمن تتعلمه في الحياة يكمن في درسا مفاده إن ما تقدمه للناس دون مقابل وما تزرعه في حياتهم وان بكلمة طيبة ستزرعه الدنيا في قلبك ، فالدنيا عادلة تقدم لك ما تقدمه لغيرك وان تعرضتَ لأيام او سنوات عجاف، ولكن يبقى قلبك عامرا بمحبتك وعطائك وفضائلك وهي في هذا تعكس نظرة الآخرين لك في كل ما اشرت ، وهو بمثابة رد الجميل منهم. ما تزرعه اليوم سيزهر غداً في قلوب الآخرين وفي مواقفهم تجاهك ، اي إن ما تقدمه للآخرين، مهما بدا صغيراً أو بسيطاً، يعود إليك بشكل أو بآخر ، ولكن يبقى يُشكِّل صورتك الحقيقية في أعينهم، ويصنع الإرث الذي يبقى خالداً في قلوبهم، وهو أعظم ما يمكن للإنسان أن يتركه في هذه الحياة.
أن الدنيا، رغم قسوتها أحياناً، تحتفظ بتوازن خفي يكافئ النفوس المعطاءة ويجعلها منبعاً للخير والمحبة ، ذلك ان الخير الذي تقدمه للناس سرعان ما يجد طريقه للعودة اليك ، حتى او كان ذلك في صورة سلام داخلي او رضا عن النفس تعيشه أو بمحبة الناس واحترامهم لك، ويبقى ذلك الخير الذي بكون بلا انتظار مقابل هو قمة النبل. لذلك يكون من الغريب القول إن فاقد الشيء لا يعطيه. وعندما اقول فاقد الشيء فلا أعني من جبلوا على الرذيلة وإنما من جبلوا على الفضيلة وقادتهم يوما متاهات الحياة لدروبها المتعبه.
يقول جبران خليل جبران ليس الكرم أن تعطي ما انت لست بحاجه له بل الكرم ان تعطي ما انت باشد الحاجه اليه. أن فاقد الشيء قد يكون أكثر من يمنحه، لأنه يشعر بقيمته الحقيقية ويدرك الحاجة إليه. وهذا الموقف يجسد قمة العطاء الإنساني، لأنه ينبع من الإحساس بالآخرين، وليس مجرد امتلاك الشيء. وهذا قمة الخلق والكرم. ففي هذه الدنيا ( كما تقول ناشطه اجتماعيه شابه) تجد ان أكثر الصدور حناناً هي أشدّها حاجة للحنان وأكثر القلوب نبضاً بالحب هي أكثرها افتقاداً له واكثر النفوس وفاء هي أكثر من عانت من غدر الغادرين ومكر الماكرين.
انه لعالم مثالي او افتراضي ذلك الذي تحلق في سمائه طيور الخير والسلام والمحبة والتعاون. عالم أهله لا يعرفون صناعة الكره و الوجع لانهم يعرفون صغر هذه الدنيا وسرعة دورانها ، ويكررون ذلك على مسامع اولادهم واحفادهم وهم لا يملكون غير ذلك ليورثونه لهم. عالم تبقى فيه الروابط بين الناس تتجاوز المصالح الشخصية وتقوم على المحبة والنية الطيبة.
عالم يدرك كل شخص فيه ان حياته مثل الرواية او القصة ، كل يوم فيها صفحة جديدة ، فإن كانت الصفحة حزينة فالتالية ستكون سعيدة ، لذلك فان كل فرد لا يعرف معنى للقلق ، لأن كل ما عليه ان يقلب الصفحة ويتوكل ليستمتع بالحياة وبكل يوم فيها.
عالم مثالي كهذا يذكر الإنسان بحلمه الأزلي بعالم تسوده القيم النبيلة و القلوب الطاهرة. عالم يكون فيه إنساناً بكل معنى الكلمة، يملك قلباً ينبض بالمحبة، وروحاً ترتقي بالفضائل. عالم لا يعرف الحسد ولا الكراهية، حيث يعيش الناس بسلام داخلي يعكس نقاء أرواحهم. هو عالم يعترف بحق الجميع في الحياة الكريمة، ويقدس العمل الشريف والتعب الذي يُثمر حياة طاهرة.
عالم النفوس فيه لا تفسر كل ماتراه من حولها إلا بالخير وحسن النية ، ولا تظن بالأخرين إلا خيرا ، وإن وجدت منهم غير ذلك التمست لهم العذر وابتسمت بموده لتخفف وقع ذلك دون الفات النظر.
ولكن للأسف فإن آخر محطة ملموسة لذلك العالم كان في زمن الأجداد الذين قضوا وعاشوا حياتهم في تلك القرى الصغيرة ذي المجتمعات المتماسكة التي يعرف فيها الجميع بعضهم البعض، كان فيها الفرح مشتركًا كما الحزن. مجتمعات صغيرة كانت الجيرة فيها أكثر من مجرد تواجد مكاني والصداقة بين افرادها أعمق من مجرد علاقة عابرة.
يمكن أن نفهم أن العالم الحديث تحول إلى قرية صغيرة بفعل التقدم والتطور الكبير في العلم والتكنولوجيا ، ولكنه يبقى عالما يفتقد أهله إلى الكثير من مواصفات وصفات اهالي تلك القرى الصغيرة.
يبقى ذلك العالم هدفا منشودا و املا مرتجى ، يجد فيه الإنسان نفسه ، عالم يكون فيه للكلمة الطيبة أثر و للإعتذار قيمة ، مثلما يكون لفهم وإدراك وجهات نظر الآخرين وخصوصياتهم والتغاضي عن ما يبدر منهم من أخطاء او سهو غير مقصود. عالم كله خلق جم وأدب رفيع مصحوب بإدراك ووعي أن في مراعاة المشاعر وحفظ الكرامة نبل و ود.
نعم يبقى هدفا منشودا يطمح إليه الكل الخير المحب للإنسانية بأسمى معانيها ويسعى الى تحقيقها كل نبيل وان عانوا الأمرين في سبيل تحقيقه ، من هؤلاء الذين يجعلوا الكل في حالة صراع دائم ليشغلونهم عن تحقيق ذلك ، لغايات انانيه واطماع وصلت حد الشراهه ، عبر وضعهم في مواقف يكونوا فيها مضطرين للدفاع عن قيمهم الانسانيه التي جبلوا عليها و خصوصياتهم التي توارثوها ومواقفهم وأمنياتهم التي يتطلعون اليها ، بدأ من حقهم في حياة تليق بالانسان وحفظ كرامته.
كم نحتاج جميعاً أن نحمل هذا الحلم في قلوبنا ونسعى لتحقيقه، ولو بأفعال بسيطة تبدأ منا نحن، لتكون نواة لعالم أفضل يعمه السلام والمحبة. حلم بعالم قد يبدو بعيدًا ، في ظل تغيرات العصر ، لكنه ليس مستحيلا وان كان كبيرا، لكنه كأي عمل كبير يبدأ بخطوة صغيرة، و لفتة طيبة أو مشاركة بسيطة.
ب. د. خالد محمود خدر
#خالد_محمود_خدر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فقدان الارادة بين الانتظار واتخاذ القرار يفقد الإنسان الكثير
...
-
هكذا ينبغي ان تكون وتبنى النفوس ليرتقي الجميع بأنفسهم ومجتمع
...
-
كن منشدا للسلام لتببني جسوراً من الفهم المتبادل لردم الخلافا
...
-
محبتك للناس تبدأ بمحبتك لنفسك ليسهل انتدابها للأعمال الجليلة
-
عش كل يوم من ايام حياتك كيوم جديد وسيكون هكذا
-
قراءة لدروس الحياة في محطاتها
-
الأخلاق في الميزان بين المنصب و العلم والمال
-
وقفة تأمل مع الساعات الأخيرة التي تسبق حلول رأس السنة الميلا
...
المزيد.....
-
دمشق وبيروت تتفقان على استرداد كافة المعتقلين السوريين في ال
...
-
يديعوت أحرونوت عن مصادر مطلعة: سد 90% من الفجوات في صفقة الأ
...
-
السعودية .. الداخلية تعلن إعدام مواطن -قصاصا- وتكشف عن اسمه
...
-
وزارة سورية توجه طلبا يخص أطفالا مفقودين لمعتقلين في عهد الأ
...
-
نص مذكرة مقرري الأمم المتحدة إلى الحكومة المصرية بشأن مشروع
...
-
“عثمان يطلب الإغاثة” مسلسل المؤسس عثمان الحلقة 177 ومؤامرة ج
...
-
الأورومتوسطي: السجون الإسرائيلية مصممة كأدوات لتعذيب الفلسطي
...
-
اليابان.. اعتقال طالبة أجنبية بتهمة الاعتداء على زملائها
-
تفاقم أعداد النازحين السودانيين في ليبيا في ظل نقص حاد في ال
...
-
زيارة سوريا.. المعارضة ترفض دعوة بيربورك منح استثناء للاجئين
...
المزيد.....
-
أسئلة خيارات متعددة في الاستراتيجية
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
المزيد.....
|