|
سلطة رام الله واستكمال الحصار
جلبير الأشقر
(Gilbert Achcar)
الحوار المتمدن-العدد: 8216 - 2025 / 1 / 8 - 10:27
المحور:
القضية الفلسطينية
كان من الطبيعي أن تترافق حرب الإبادة التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزة إثر عملية «طوفان الأقصى» التي قادتها «حماس» في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، أن تترافق تلك الحرب مع هجمة على الضفة الغربية، إذ رأت الدولة الصهيونية في العملية المذكورة فرصة ذهبية للانقضاض على الشعب الفلسطيني في الأراضي التي احتلتها عام 1967 بغية استكمال نكبة 1948 فيها. ذلك أن إسرائيل، لمّا احتلّت تلك الأراضي المتبقية من فلسطين الانتداب البريطاني الواقعة بين النهر والبحر، فوجئت بصمود معظم سكانها فيها ورفضهم الفرار إلى خارج ساحة الحرب بخلاف ما جرى في عام 1948، عندما فرّت أغلبية سكان الأراضي التي استولت عليها القوات الصهيونية، ولم يُسمح لهم بالعودة فتحوّلوا إلى لاجئين. وقد استوعب سكان الضفة درس تلك التجربة التاريخية المريرة، وكذلك سكان غزة (فضلاً عن أن الشروط الجغرافية ذاتها تجعل من الفرار إلى سيناء مغامرة مجهولة العواقب). لذا امتنعت إسرائيل عن ضمّ الأراضي المحتلة في عام 1967، باستثناء القدس الشرقية. وقد تداولت الحكومات الصهيونية المتتالية خططاً شتى لتهجير السكان من غزة والضفة سعياً وراء استكمال استيلائها على كامل فلسطين بين النهر والبحر، وذلك بضمّ أراضي 1967 بدون مواجهة معضلة مصير سكانها الأصليين الذين لم يكن وارداً أن يمنحهم الحكم الصهيوني المواطنة الإسرائيلية مثلما منحها للأقلية الفلسطينية التي بقيت في الأراضي المحتلة عام 1948 بما أتاح له ادّعاء الديمقراطية. بيد أن الحكومة الصهيونية التي أشرفت على حرب 1967 أعدّت أيضاً خطة احتياطية عُرفت باسم الوزير الذي تولّى صياغتها، وهو إيغال آلون، تقضي بالاستيلاء الدائم على مساحات استراتيجية من الأراضي المحتلة، منها غور الأردن، وذلك بنشر قواعد عسكرية ومستوطنات في تلك المساحات، وتسليم المساحات الأخرى ذات كثافة سكانية فلسطينية عالية لوصاية المملكة الهاشمية الأردنية. وقد قضت الانتفاضة المجيدة في عام 1988 على هذا المشروع، إذ تنصلّت المملكة الهاشمية من مسؤولية إدارة الضفة، بل تخلّت عن المطالبة باسترجاعها بوصفها أرضاً جرى ضمّها إلى المملكة في عام 1949. وهو قرار كان ظاهرياً تنازلاً عند رغبة الفلسطينيين بأن يكون لهم حكمٌ ذاتي، كما كرّسها المجلس الوطني الفلسطيني المنعقد في الجزائر في ذلك العام، وكان في الحقيقة تعبيراً عن اقتناع المملكة بأن السيطرة على الشعب الفلسطيني في أراضي 1967 باتت مستعصية وخطرة. فإن تسلسل الأحداث ذاك هو ما أقنع حزب العمّال الصهيوني، الذي تصرّف بموجب خطة آلون عندما كان حاكماً، بأن يستبدل المملكة الهاشمية بالقيادة العرفاتية لمنظمة التحرير الفلسطينية بعدما عاد إلى الحكم بقيادة إسحاق رابين في صيف 1992.
كان ذلك هو المدخل إلى مفاوضات أوسلو السرّية، التي خاض فيها ياسر عرفات ومحمود عبّاس وراء ظهر سائر أعضاء القيادة الفلسطينية والتي أفضت إلى الاتفاقيات الشهيرة التي جرى توقيعها في البيت الأبيض، في واشنطن، في أيلول/ سبتمبر 1993. أما الغاية من تلك الاتفاقيات، فقد كانت جليّة لكلّ من لم يتوّهم بحدوث معجزات مؤدّية إلى «الدولة الفلسطينية المستقلّة» التي بشّر بها عرفات، حيث عمل الحكم الصهيوني على الفور على تصعيد النشاط الاستعماري الاستيطاني في أراضي 1967 وأناط بما سمّي «السلطة الوطنية الفلسطينية» مهمة قمع أي محاولة تمرّد أو مقاومة في صفوف الشعب الفلسطيني. وهي المهمة التي قبلت إسرائيل من أجل تنفيذها بدخول «جيش التحرير الفلسطيني» (المؤلف من لاجئين فلسطينيين) إلى أراضي 1967 وتحوّله إلى جهاز شرطة مزوّد بأسلحة خفيفة، مسؤول عن السيطرة على السكان المحلّيين. وإذ بدأ تنفيذ اتفاقيات أوسلو بتسليم غزة وأريحا للسلطة الفلسطينية الجديدة في صيف 1994، رأت هذه الأخيرة أن تثبت للمحتلّ قدرتها على لجم شعبها بقمعها الدموي لتظاهرة قادتها «حماس» في غزة في خريف العام ذاته، في حادثة عُرفت باسم «مجزرة مسجد فلسطين»، كانت أبرز فاتحة لسلسلة من الأعمال القمعية نفّذتها قوات الأمن التابعة للسلطة، ضد الحركات الإسلامية بوجه خاص. والحقيقة أنه لا يمكن أن تقوم بجوار الدولة الصهيونية وبرضاها «سلطة وطنية فلسطينية»، بل فقط سلطة تابعة للمحتلّ على غرار حكومة فيشي التي تولّت إدارة ذلك القسم من الأراضي الفرنسية الذي لم تحتلّه ألمانيا النازية مباشرة في عام 1940. وهو التشبيه الذي أجراه إدوارد سعيد في نقده الشهير لاتفاقيات أوسلو، وقد أثار غيظ القيادة العرفاتية إلى حدّ تحريم كتابات أشهر المفكرين الفلسطينيين في الأراضي التي أشرفت عليها. وقد تأكدت حقيقة التشبيه الذي أقامه سعيد، غير أن ياسر عرفات أبى أن يستمر في لعب دور الماريشال فيليب بيتان، القائد العسكري الذي ترأس حكومة فيشي، بعد أن فطن أن حلمه بالدولة المستقلة كان وهماً ليس إلّا، وأدرك حقيقة المرامي الصهيونية ولو بتأخر كبير. وقد قاد انتفاضة الأقصى بدءاً من خريف عام 2000، الأمر الذي أدّى إلى هلاكه بعد أربع سنوات. وبينما كانت لدى غالبية الشعب الفلسطيني أوهامٌ عند الإعلان عن اتفاقيات أوسلو والبدء بتنفيذها، لا سيما بسبب المجد التاريخي الشخصي الذي تمتّع به ياسر عرفات، تبدّدت هذه الأوهام كلياً بعد خلافة محمود عبّاس لعرفات. وقد غدا الفساد والقمع ملازمين لسلطة رام الله إلى حد خسارة «فتح» لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني في عام 2006. والباقي معروف: فوز «حماس» بالانتخابات، ثم المحاولة التي قادها محمد دحلان في القطاع لإقصاء الحركة في عام 2007، وقد منيت بالفشل، لكنّها أدّت إلى انقسام أراضي 1967 بين سلطتين فلسطينيتين متخاصمتين، سلطة محمود عبّاس في الضفة وسلطة «حماس» في القطاع. وها أن مشهداً مخزياً يدور تحت أنظارنا في الضفة منذ استكمال السنة الأولى من حرب الإبادة الصهيونية الجارية على غزة، أي منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي. فقد شنت قوات الاحتلال الصهيوني أعنف هجوم في الضفة منذ قمع انتفاضة الأقصى قبل أكثر من عشرين عاماً. فمثلما جرى في خريف 1994، شنّت «السلطة الفلسطينية» هجوماً دموياً على الفصائل الشبابية المسلّحة، بدأ في مدينة طوباس، ثم بلغ ذروته في الهجوم على مخيّم جنين حاضن «كتيبة جنين» المقاوِمة للاحتلال الإسرائيلي. وفي رغبتها إقناع الولايات المتحدة وإسرائيل بقدرتها السيطرة على زمام الأمور، ذهبت سلطة رام الله إلى حدّ أنها، وهي تخوض حرباً على مخيم جنين، قرّرت منع قناة «الجزيرة» في أراضيها. ونحتار إزاء ذلك المشهد الصادم بين الامتعاض من السلطة، وبين السخرية من توهّمها في إقناع دونالد ترامب وبنيامين نتنياهو بقدرتها على أن تقوم بلعب دور حرس السجن الكبير الذي يودّون أن يحصروا فيه من تبقّى من سكان الضفة والقطاع.
#جلبير_الأشقر (هاشتاغ)
Gilbert_Achcar#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طوفان الأقصى والغرب والمحرقة
-
خواطر متشائمة على عتبة عام جديد
-
كيف يُعاد بناء الدولة السورية؟
-
سوريا إلى أين؟
-
ماذا يجري في سوريا؟
-
وقف النار في لبنان لن يكون «نصراً إلهيّاً»
-
«فريق الأحلام» الصهيوني في إدارة الولايات المتحدة
-
ترامب والشرق الأوسط: ماذا ينتظرنا؟
-
الهجمة الإسرائيلية اللاحقة على إيران
-
معضلة «حزب الله»
-
مصير المنطقة بين الصهيوني الأمريكي وزميله الإسرائيلي
-
لماذا ترفض طهران وقف النار في لبنان؟
-
«حزب الله» وخطأ الحساب
-
تصعيد التهويل الإسرائيلي في لبنان: تأملات استراتيجية
-
لبنان واستراتيجية التهويل الإسرائيلية
-
شعب الجزائر يكرّر رفضه لحكم العسكر
-
نفاق ونفاق: صراع الصقور والنسور الصهاينة
-
حرصُ حسن نصر الله على المدنيين
-
أساذجٌ بلينكن أم متواطئٌ مع نتنياهو؟
-
مناهضة الفاشية وسقوط الليبرالية الأطلسية
المزيد.....
-
شراقي: زلازل إثيوبيا نتيجة وزن بحيرة سد النهضة لم تبدأ بعد ل
...
-
13 قتيلا في ضربة روسية استهدفت حيا سكنيا في زابوريجيا وزيليس
...
-
الحوثيون: عدوان أميركي بريطاني يستهدف محافظات يمنية
-
الإدارة السورية الجديدة ترحب -بالإعفاءات الأميركية-
-
بايدن يبقي تصنيف -تحرير الشام- إرهابية.. ويترك القرار لترامب
...
-
إيلون ماسك ينشر فيديو -الجحيم-.. ومغردون: نهاية العالم
-
سيدة لبنان الأولى المتوقعة.. ماذا نعرف عن نعمت عون؟
-
المعارضة اللبنانية تتوافق على انتخاب جوزاف عون رئيسا للبلاد
...
-
تشاد.. محاولة لاقتحام قصر الرئاسة بسيارة مفخخة
-
تعليقا على الخريطة.. الكويت تستنكر -ادعاءات إسرائيل الكاذبة-
...
المزيد.....
-
دراسة تاريخية لكافة التطورات الفكرية والسياسية للجبهة منذ تأ
...
/ غازي الصوراني
-
الحوار الوطني الفلسطيني 2020-2024
/ فهد سليمانفهد سليمان
-
تلخيص مكثف لمخطط -“إسرائيل” في عام 2020-
/ غازي الصوراني
-
(إعادة) تسمية المشهد المكاني: تشكيل الخارطة العبرية لإسرائيل
...
/ محمود الصباغ
-
عن الحرب في الشرق الأوسط
/ الحزب الشيوعي اليوناني
-
حول استراتيجية وتكتيكات النضال التحريري الفلسطيني
/ أحزاب اليسار و الشيوعية في اوروبا
-
الشرق الأوسط الإسرائيلي: وجهة نظر صهيونية
/ محمود الصباغ
-
إستراتيجيات التحرير: جدالاتٌ قديمة وحديثة في اليسار الفلسطين
...
/ رمسيس كيلاني
-
اعمار قطاع غزة خطة وطنية وليست شرعنة للاحتلال
/ غازي الصوراني
-
القضية الفلسطينية بين المسألة اليهودية والحركة الصهيونية ال
...
/ موقع 30 عشت
المزيد.....
|