|
في إشكالية التجميد والتجديد في المناهج المعرفية العربية تبقى الحركة النقدية الحكم الفيصل
حسن خليل غريب
الحوار المتمدن-العدد: 8212 - 2025 / 1 / 4 - 16:22
المحور:
القومية , المسالة القومية , حقوق الاقليات و حق تقرير المصير
تمهيد في الانتقال المعرفي الفكري من منهج معرفي جامد إلى منهج معرفي قومي متطور: على الرغم من أن الإمبراطورية العثمانية دخلت في مراحلها الأخيرة حقل تطوير النظام السياسي، وعلى الرغم من أن الحركة الثقافية العربية دخلت مرحلة النهضة على أيدي مفكرين كبار، انتقلت البيئة المعرفية العربية من مرحلة النظام السياسي الإسلامي العثماني إلى مرحلة النظام السياسي العالمي بخطوة سريعة. وكان الانتقال في جانب منه نتيجة عمل عسكري اعقب انتهاء الحرب العالمية الاولى وليس نتيجة تطور معرفي طبيعي. ثم تلاه بلورة فكر نتج من رحم معاناة الامة العربية مع الاستعمار والنفوذ الغربي . ولم تترافق النقلات الناتجة عن التغييرات السياسية بنقلة ثقافية فكرية بنفس المستوى. فكان الانتقال من عصر إلى عصر آخر سياسياً أكثر منه فكرياً وثقافياً. فالانتقال المعرفي من التجميد إلى التجديد له أسسه وشروطه. ومن أهمها البدء في نقد الثقافة السابقة: استخلاص الإيجابي منها ورفض السلبي وتأسيس للبديل، بحيث تنعكس التغييرات على بنية الثقافة الشعبية. وبغير ذلك ينقطع حبل العلاقة بين الإنتاج الفكري الجديد وميدانه الشعبي. كانت الثقافة الشعبية والنخبوية قبل مرحلة التحرر القومي والوطني ذات طابع وجذور دينية وغالباً ما كانت ثقافة المذاهب هي السائدة، لا يميزها التجميد والتقليد فحسب، بل ومنع التجديد أيضاً. وكان إنتاج الثقافة خاضعاً لسلطتين: سياسية تقود واخرى دينية تُخضع إنتاجها الثقافي لمصلحة السلطة السياسية. وقد تزامن مع ذلك وخاصة في الربع الأول من القرن العشرين، ان مهَّدت القوى الغربية لدخولها بتعزيز الإرساليات الأجنبية الى بعض الاقطار العربية ، وكان دورها الثقافي وعاءً ينقل في الكثير منه ثقافة أُعدَّت لمجتمع آخر غير المجتمع العربي. وتواجهت الثقافة القادمة مع الثقافة المقيمة، فلا الثقافة المقيمة نقدت قديمها ولا الثقافة القادمة أخذت الواقع العربي الاجتماعي الثقافي بعين الاهتمام. وهكذا كان مشهد البيئة الثقافية في تلك الاقطار العربية، في مثل تلك المرحلة، منفعلاً إما بتقليد التراث من دون إغناء وتجديد، أو بنقل الفكر الغربي من دون نقد و تمحيص. ذلك السبب أدَّى إلى خوض صراعات مريرة بين التيارين. وقلائل هم الذين انخرطوا في التأسيس لورشة بناء معرفي جديد، ينقد التراث ويجدد فيه، ويستفيد من الفكر الغربي بما يتناسب مع خصوصيات وحاجات المجتمع العربي وقيمه. فكانت تلك القلة، ولا تزال، غريبة عن بيئتها لا تجد من يقف إلى جانبها إما خوفاً من التقليديين التجميديين تحت شعار الخوف من خيانة التراث، وإما اتهام من التغريبيين الذين يقيسون التقدمية بمكيال الثقافة المستوردة حصرياً. ظهور الفكر القومي العربي: سبقت الحركة القومية العربية ، حركة إصلاح نتجت عن صدمة الوعي بحجم التخلف العلمي والحضاري الذي يعاني منه الوطن العربي بالمقارنة مع الغرب، والذي كان احد اسبابها حملة نابليون على مصر، واتجهت تلك الحركة إلى إنقاذ الإسلام السياسي من التخلف مثل حركة المفكرين العرب الإصلاحيين وكذلك جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده و عبدالرحمن الكواكبي ، حيث رأوا وجوب إحياء التراث العربي كمقدمة لمشروع النهضة ، كما اشروا الى ان غياب الدولة المستندة إلى الحرية وغياب إحكام العقل كان سببا في هذا التخلف، وكان الاهتمام باللغة العربية في مقدمة الجهود لاستنهاض مفهوم وقيم العروبة. وقد أسهمت الأحداث الطائفية في لبنان وسوريا (1860-1861) بتعزيز الوعي عند المفكرين العرب الأوائل الى الحاجة الى المواطنة على أساس القومية العربية بعيداً عن الانتماءات الطائفية. وقد تعزز ذلك بعد ظهور الحركة القومية التركية المتعصبة مثل تركيا الفتاة والنزعة الطورانية فتطور موقف غالبية المثقفين العرب باتجاه بلورة المشروع القومي العربي الذي تميز بكونه غير عنصري، حيث لم يشترط صلة الدم وانما ركز على اللغة والثقافة والماضي والمستقبل المشترك . وكان من ابرز مفكريه وروّاده هو القائد المؤسس احمد ميشيل عفلق. وفي القرن العشرين تم تكريس الهوية الثقافية والسياسية القومية، ورغم انتشار الفكر القومي والنظم العربية التي تبنته ، الا انه يسجل على الانظمة العربية ثلاثة قضايا رئيسية : -فشلها في بناء الدولة القومية -اخفاق التجارب الوحدوية التي حدثت في النصف الثاني من القرن العشرين. ورغم حقيقة محاربة الغرب الاستعماري الشرسة لاي مشروع وحدوي عربي و دور الكيان الصهيوني المتقدم في هذا المجال ، الا ان الأسباب الداخلية لم تكن قليلة بل كانت احيانا هي الطاغية. -الاخفاق الخطير في ترسيخ وممارسة الحريات العامة وقيم الديموقراطية وقبول الآخر وعدم بلورة دساتير دائمة وراسخة في هذا المجال.
ان هذا يحتم المواجهة التحليلية الجريئة مع الذات للاجابة على السؤال المهم : لماذا نجح الآخرون وفشل العرب؟ لقد تميزت تلك المرحلة في النصف الثاني من القرن العشرين بغلبة ( السياسي والأمني) في الفكر القومي وقواه ودوله، وبالتالي انعكس ذلك في طبيعة العلاقة بين الانظمة العربية فكان من ابرز اسباب الخلل. فبقي ما تحت السطح الامني - السياسي تتجاذبه تركيبة معينة من المصالح الصغيرة للقوى السياسية والطائفية والتركيبة العشائرية، وليس بنى راسخة للدولة القومية او الوطنية العصرية. على الرغم من انه على الصعيد الشعبي والجماهيري كان العمل الوحدوي هو أمل الجماهير ورغبتها الملحة. ان كل ذلك أفضى الى القناعة بان تجديد المشروع العربي عموماً والفكر القومي بالذات يحتاج إلى ثلاث ركائز هي : -تطوير مفهوم وصيغة الدولة وتغليبه على مفهوم السلطة والنظام. -توسيع نطاق المشاركة السياسية وممارسة الديمقراطية الحقيقية والحريات العامة والفردية. -التركيز مجدداً على خطط التنمية واستنهاضها عبر اقتصاد حديث ومعاصر. ونتيجة لغياب ذلك فقد غرقت الأكثرية الساحقة من النخب العربية في خطابية الشعار السياسي، لأنها تعتبر أن المهمة الأكثر إلحاحاً هي مهمة النضال من أجل إنجاز مرحلة التحرر الوطني. وفي غمرة هذا الانغماس في إنجازها، تجاهلت التيارات والأحزاب السياسية أهمية العمل الفكري ودوره، فغرقت في السياسة على حساب إنتاج الفكر العربي الجديد وتعميقه. وإذا كنا نعطي أولوية لمعركة التحرر الوطني، فنرى أيضاً أن القيام بالمهمة الفكرية لن يعيق معركة التحرر السياسي على الإطلاق وإنما يزودها بسلاح لا يقل أهمية وتأثيراً. ضرورة اعتماد الحركة القومية بعد مرحلة الانطلاق على معايير التحليل والنقد العلمي عندما هيمنت الثقافة السياسية على الحركة التحررية، ولا تزال، افتقدت بوصلتها الفكرية وقلَّلت من شأنها، وتحت وطئة الشعارات التي غلبتها السمة العاطفية ، أهملت العناية بمنهجية التحليل والبحث الأكاديمي او العلمي عموماً. وليس ذلك فحسب، بل نال التحليل والبحث الأكاديمي أيضاً بعض اللوم بسبب صراحته وعقلانيته وايضا تحت حجة أنه خال من "القلب"ومن حرارة النضال! إن المصالح الحقيقية للامم ومنها الامة العربية واعتماد البحث والتحليل الواقعي العلمي سواء من خلال العمل الأكاديمي او غيره يجب ان يستند الى العقل والى الواقع فعلاً بعيداً عن العاطفة، لان الاخيرة تمنعه من البحث عن الحقيقة المجردة، فالحقيقة إذا خضعت لمقاييس العاطفة ستظهر بثقل غير حقيقي وبمظاهر متعددة الألوان والأحجام، أما الحقيقة المجردة عن العواطف فهي الحقيقة الأساسية، وهي التي تعبِّر عن الكليات الإنسانية وليس عن الخصوصيات الفئوية. وإذا أغرقت حركة التحرر الوطني بخصوصياتها وأهملت العموميات الإنسانية فلن تجد ما يمنعها من الانحدار نحو التقوقع. لذا نرى أنه يمكننا الاعتماد على البحث العلمي والأكاديمي والوثوق به، وبغيره تكون الحقائق غير مكتملة وغير واضحة، فهي إذا بقيت خاضعة للمصالح المحدودة تبقى عاجزة عن اكتساب أهدافها ووظائفها الإنسانية. لتلك الأسباب لا ينبغي أن يُفهم من دعوتنا إلى البحث عن الحقيقة الواقعية بطريقة مجردة، خاصة تلك التي لها علاقة بمشروع التطويرالقومي، بأنها دعوة إلى إلغاء قيمة العواطف او الحماس التي يجب أن تتوفَّر للمناضلين. فإن قضايا الأمة، كي تبقى ذات علاقة وثيقة مع عمقها الإنساني، لا بُدَّ من أن يخضع البحث عنها لمقاييس جادة بالتجريد والتجرد عن الأهواء، ومن بعدها يأتي دور حرارة الإيمان بها. لم تعط النقلة المفاجئة، التي واجهتها الأمة من حال إلى حال، الفرصة للقيام بما يُسمّى بمرحلة الانتقال الطبيعي في التفتيش عن الحقائق بتجرد، أي للانتقال بالأمة من مرحلة معرفية إلى أخرى، بل وجدت نفسها وجهاً لوجه مع خصم جديد، فراحت تعد نفسها لمواجهته. فكان السلاح المتيسِّر هو سلاح التعبئة الفكرية والسياسية حسب المناهج الإيمانية المكتسبة من عجينة الثقافات السابقة. وإن ما أضاف قوة لتلك المناهج هو فشل التيارات التي استندت إلى نظريات مستوردة جاهزة كانت سبباً لاتهامات نال منها التعقل والعمل العلمي و الأكاديمي نصيبه من الاتهام بالقصور عن فهم طبيعة المرحلة الاستثنائية في حياة الأمة ومتطلبات النضال الاستثنائية. ولما انتشر تأثير الحركات السياسية والحزبية ذات النظريات الجاهزة، ولما تكاثرت الدعوات المشبوهة لمهادنة الاستعمار الجديد تحت حجة غياب تكافؤ القوى، كانت الدعوات إلى تعبئة الأمة بمناهج الوجدان والضمير قد أخذت تسن أسلحتها المنهجية، فبدا وكأن الأمة قد انقسمت إلى دعاة طوباويين والى دعاة علميين، فكانت أسلحة تلك المعركة تبدو وكأنها قائمة على الاستفزاز من خلال اتهامات يوجهها البعض إلى قصور مناهج الآخر. فليس إذن، من منطلق التوفيق والمجاملة، أن نقول بأن مناهج المعرفة السياسية تتكامل وتتعاون وتصبح أهدافها أكثر قرباً للتحقق إذا تكافلت تلك المناهج وتعاونت، بدءًا من معرفة الحقائق الواقعية العلمية وصولاً إلى التعبئة والحشد في سبيل تحقيق النجاح لاهداف واقعية تستند الى تلك الحقائق التي ينبغي ان تخدم قضايا الأمة العربية ومصالحها الاستراتيجية. من بديهيات الأمور أن تستعين الحركات الثورية التقدمية بمختلف الوسائل الثورية شرط ان تنسجم مع ما تدعو اليه من مبادئ تقدمية لتحقيق أهدافها. على أن لا يشكل تحفيز الجماهير بمناهج محددة صفة المناهج الجامدة الثابتة على اساس انها تصلح لكل زمان ومكان. وهنا من الضرورة بمكان التمييز بين التراث العربي الملهم من الحضارة العربية وانجازاتها الانسانية، الذي يشكل قواعد ودعامات ضرورية نستند عليها في خلق الثقة اللازمة بين ابناء الامة لتحقيق الانطلاق الجديد نحو بعثها ونهضتها المعاصرة ، وبين الثقافة الشعبية التي تستخدم للتعبئة او التحريض، فهما شيئان مختلفان. وفي ثقافة الحزب القومية فان تراث الحضارة العربية وانجازاتها العلمية والانسانية الرائعة التي اغنت بها الحضارة الانسانية،هي حقائق علمية تاريخية راسخة، وهي ليست للتعبئة ، وانما قواعد ثقة للانطلاق في بعث الامة. نلاحظ، من خلال مراقبة علمية، أن الطبقات المثقفة في الأمة، في المراحل الراهنة، تتحوَّل إلى مزيد من تجذير مستواها الثقافي والاتجاه به نحو المعرفة الأكثر عمقاً من السابق، السبب الذي يوجب على التيارات الثورية فيها أن تعيد صياغة وسائلها في التعبئة لمواصلة النضال. فلا ضير، هنا، من أن نعمل على تعميق المعرفة إلى جانب العمل من أجل تغذية النضال بأكثر ما يمكن من الاندفاع والحماس. فدعوة الحب أولاً ثم المعرفة، يجب ان تعزَّز بالحقائق الواقعية بموجب البيئة الثقافية الجديدة المتطورة . وإن أساليب التخويف من نقد المناهج الفكرية السياسية المستندة الى المناهج الدينية، لم يعد صالحاً، خاصة في هذه المرحلة التي انكشف فيها زيف أكثر التيارات الدينية الإسلامية الأصولية.
إنكشاف أهداف حركات الإسلام السياسي يساعد على نقد الثقافة التقليدية: لأن البيئة الثقافية الجديدة والمتطورة، وانكشاف الغطاء عن حركات الإسلام السياسي الرسمي وغير الرسمي، تشكل بدايات على الحركة القومية العربية أن تستفيد منها للبدء في تأسيس مرحلة لنقد الفكر المذهبي التفتيتي. على أن تبدأ المرحلة التأسيسية داخل الحركة القومية العربية نفسها على مستوى الإعداد لمشروع نقدي موضوعي يستهدف، في بدايته تعويد العقل الأيديولوجي القومي على أسلوب النقد ومكاشفة الذات والتحليل العلمي الواقعي. وبالمقابل فان شدة الاستهداف او خطورة المرحلة التي تمر بها الامة العربية منذ قرن من الزمان ومتطلبات النضال التحرري يجب ان لا تكون سبباً لإعاقة المراجعة النقدية لتجارب الفكر القومي نفسه وتطبيقاته على أرض الواقع. ولا أن تستخدم كحجة لمصادرة الحريات واشاعة الاستبداد ، او تكون مدعاة للمزايدة باسنخدام اولوية قضايا الامة الملحة كالقضية الفلسطينية، أوتضليل الجماهير بها على أساس أن النضال يقتضي تأجيل القضايا الجوهرية الاخرى . لان هذه المراجعة التحليلية النقدية تشكل خطوة حيوية لا غنى عنها من اجل ديمومة الفكر القومي ، كما أنها ضرورية لكي تكون الجماهير كما يكون الفكر القومي نفسه، أكثر وثوقاً بمبادئه الفكرية والسياسية والمجتمعية. مناهج المعرفة الغربية لا تؤخذ بكاملها أو تُرفض بكاملها: كان الانتقال المعرفي في بداية القرن العشرين انتقالاً سياسياً، ولهذا انقسمت المناهج المعرفية إلى جزئين متناقضين: إما منبهر بالمنهج الغربي الجديد، وإما متمسك بالمنهج القديم ، فسادت ثنائية «الغربة والتغريب». وتناسى الطرفان أن مناهج المعرفة الغربية ليست ثنائية «الغزو والإشعاع»، إما أن تُؤخذ بكاملها أو تُرفض بكاملها. بل يمكن اعتبارها تراثاً إنسانياً أصبح ملكاً للإنسانية يمكن الاستفادة من المفيد منه والملائم لواقع امتنا وقيمها ، وترك ما لا يصلح منه.
لقد طال انتظار البدء بمرحلة نقد المناهج الفكرية والممارسات التطبيقية لها للمرحلة السابقة، وإن ظهرت، حتى في لحظتنا الراهنة، فإنها لا تخرج عن كونها خجولة خوفاً من سيف التقليديين، ورهبة من الاصطدام بعقول العامة السهلة الاستثارة والتحريض. وأصبحت المهمة التحليلية النقدية أكثر صعوبة بعد أن أطلت اصوليتان متوازيتان هما الأصولية الإسلامية حاملة سيف التكفير، واصولية الجمود الفكري المتغطي بشعارات خطورة المرحلة او المتحجج باولوية قضايا الامة المصيرية للحيلولة دون المواجهة والتطوير . وقد تطول المسافة ويمتد الزمن أكثر إذا لم نعمل على ولادة الحركة النقدية اليوم قبل الغد، وتضيع من الأمة فرص الإسراع في التغيير. إن خوفنا -من ضياع الفرص والوقت- ناتج عن أن التغيير الحقيقي، خاصة على الصعيد المعرفي، لا يمكن أن يتم بين ليلة وضحاها، لأن من شروط نجاحه أن يتعمَّق في عقل مجموعات واسعة من الذين نذروا أنفسهم للتغيير، ولا يمكننا أن نتوهَّم بأن التغيير يمكن أن يتم من خلال بحث من هنا أو مقال من هناك أو محاضرة من هنالك، فالتغيير هو عملية تربوية مستمرة تستهلك، أحياناً كثيرة، حياة أجيال تتبعها أجيال. فإلى دعاة تأخير المرحلة النقدية تحت ذريعة أن المرحلة غير مناسبة، لارتباطها بمرحلة التحرر الوطني والقومي خوفاً من انعكاس سلبياتها على علاقات القوى المتحالفة في معركة التحرر، نقول إن فكر او حركة بيزنطية تسقط كل يوم ونحن لا ندري، وسقوطها غير مرتبط بالتفرغ لتحديد مسارات جديدة للفكر القومي. وهي غير مرتبطة أيضاً بمسألة الصراع الفكري، والصراع الفكري لا ينتظر وهو بالفعل غير منتظر، لأن الرجعيات التقليدية والأصوليات التقليدية مما اشرنا اليه اعلاه، لا تعطينا أية هدنة بل هي تصارعنا في كل لحظة، فالفكر الأصولي بكل اشكاله ودوافعه يتابع معركته سواءٌ أعملنا على تجنبها أم لم نعمل. أما من ناحية أخرى، فيمكننا ونحن نؤدي مهمتنا التحليلية النقدية، أن يكون خطابنا مرناً وموضوعياً ووحدوياً. فانفتاح الخطاب السياسي ومرونته هو من المسائل المطلوبة ولكن ليس على حساب المبادئ. فالمبادئ، بالنسبة لتيارات التغيير هي أكثر من ضرورية، ووضوح المبادئ هو حصانة لها من الانحراف، لأنه على هديها يمكن تصحيح المسار إذا ما حصلت انحرافات، أما في ظلال غيابها فإنه لا يمكن تصويب المسارات هذا إذا لم نضيعها بالكامل.
الفكر القومي منهج صادق لا يقبل التجميل والتزويق: من اجل ان يستعيد الفكر القومي مكانته وريادته ومصداقيته بين الجماهير ، لا بُدَّ له من أن يكون واضحا وحاسماً في خياراته الفكرية وإلاَّ فسوف يدع شتى تياراته السياسية تسير على غير هدى. وسينعكس التردد في حسم الخيارات على مسار الجماهير العربية ومواقفها. ولن تكون البنى الفكرية لتيارات التطوير بمنأى عن البلبلة. ولان الجماهير تكون ، في الواقع، أقرب إلى سلوك الطريق الفكري الذي يتطلَّب عناءً أقل، لذا يكون طريق الفكر الغيبي أكثر قرباً من عقول الجماهير لأنه لا يتطلَّب منهم سوى التصديق والتسليم. وفي هذا المجال يستطيع دعاة النهج الأصولي ايا كان أن يصل إلى قلوبهم بشكل أسرع وأيسر من السالك لطريق الفكر القومي المتطور. وهنا يفقد المشروع القومي التوازن في المقدرة على إيصال المعرفة الإيمانية العقلانية مع الأصولي الذي يتقن فن تفسير الفكر الغيبي أكثر بكثير من الذي يقوم منهجه الفكري على المنهج العلماني العلمي والعقلاني.
#حسن_خليل_غريب (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
اليوم التالي لولاية الرئيس دونالد ترامب الثانية
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثالثة) (3/ 3)
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الثانية) (2/ 3)
-
دونالد ترامب ليس مجنوناً (الحلقة الأولى 1/3)
-
أفكار في رسم خريطة طريق لحل استراتيجي لإشكالية الطائفية في ل
...
-
رؤية نقدية في راهنية المقاومة الإسلامية من مقاومة شعبية إلى
...
-
بعد نفاذ الطبعات القديمة لمشروع الشرق الأوسط
-
(هيفاء غزة) تفتش عن جثة أمها
-
الولايات المتحدة الأميركية على مفترق طرق بين الوطنية والتورا
...
-
الأقليات في العالم العربي جذور الأزمة وآفاق الحل *.
-
ما بعد طوفان الأقصى المتغيرات الدولية وإلغاء وظائف المشاريع
...
-
هل يلتقط العرب فرصة اللحظة التاريخية الراهنة؟ لماذا؟ ومتى؟ و
...
-
لملاقاة الاستحقاقات القادمة لبنان من دويلات الطوائف إلى الدو
...
-
التطبيع مع نظام ولاية الفقيه وجه من وجوه المخاطر الوجودية عل
...
-
في مواجهة سيول المشاريع الدولية والإقليمية على العرب أن يحذر
...
-
في وسائل المواجهة مع العدو الصهيوني تبقى المقاومة الشعبية ال
...
-
مع الظاهرة وضدها في آنِ واحد (رؤية في مستقبل المنطقة العربية
...
-
إستعادة الوحدة الوطنية مدخل إلزامي للوحدة العربية
-
عرض كتاب (القومية العربية من التكوين إلى الثورة) الحلقة الأخ
...
-
عرض كتاب (القومية العربية من التكوين إلى الثورة) الحلقة الثا
...
المزيد.....
-
بتقنية الفاصل الزمني.. شاهد كيف غطت ثلوج كثيفة أحد الأحياء ل
...
-
إقتحام الكابيتول: حلقة مظلمة في التاريخ الأمريكي
-
سمكة تونة تُباع بـ 1.25 مليون يورو في مزاد باليابان
-
زلزال الحوز.. مقاولون نصابون يسرقون أموال ضحايا الزلزال في ا
...
-
جامعة الإسراء: إصابة 6 أشخاص في إطلاق نار داخل الحرم الجامعي
...
-
حماس توافق على قائمة تضم 34 أسيرا
-
استنفار إسرائيلي عقب عملية قلقيلية
-
الدفاع الروسية: قواتنا حررت مدينة كوراخوفو الاستراتيجية
-
تطويق شمال الضفة عقب عملية قلقيلية
-
أنقرة.. اجتماع تركي أردني لبحث ملف سوريا
المزيد.....
-
الرغبة القومية ومطلب الأوليكارشية
/ نجم الدين فارس
-
ايزيدية شنكال-سنجار
/ ممتاز حسين سليمان خلو
-
في المسألة القومية: قراءة جديدة ورؤى نقدية
/ عبد الحسين شعبان
-
موقف حزب العمال الشيوعى المصرى من قضية القومية العربية
/ سعيد العليمى
-
كراس كوارث ومآسي أتباع الديانات والمذاهب الأخرى في العراق
/ كاظم حبيب
-
التطبيع يسري في دمك
/ د. عادل سمارة
-
كتاب كيف نفذ النظام الإسلاموي فصل جنوب السودان؟
/ تاج السر عثمان
-
كتاب الجذور التاريخية للتهميش في السودان
/ تاج السر عثمان
-
تأثيل في تنمية الماركسية-اللينينية لمسائل القومية والوطنية و
...
/ المنصور جعفر
-
محن وكوارث المكونات الدينية والمذهبية في ظل النظم الاستبدادي
...
/ كاظم حبيب
المزيد.....
|