|
ما هي -الدولة المدنية الديمقراطية-؟
رسلان جادالله عامر
الحوار المتمدن-العدد: 8211 - 2025 / 1 / 3 - 20:11
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
مصطلح الدولة العلمانية، ليس مصلحا حديثا، ولكن الكلام عنه وفيه كثر مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، وهو اليوم يكثر أكثر، لاسيما داخل سوريا، بعد سقوط الديكتاتورية السابقة، وانفتاح الساحة السورية على ممكنات سياسية مختلفة. وفي سوريا اليوم، كما في سواها من دول الربيع العربي، تظهر حالة واسعة من الاختلافات السياسية، وتصل هذه الاختلافات إلى حد التناقض الحاد، المنذر بالتحول إلى نزاع خطير بين أنصار الدولة العلمانية وأنصار الدولة الدينية، الذين يرفض كل طرف منهما مشروع الطرف الآخر، رفضا لا رجعة فيه. ومن هنا يصبح من الضروري جدا البحث عن حل يخرج جميع الأطراف من هذا المأزق، وهنا تأتي أطروحة "الدولة المدنية الديمقراطية" لتقدم نفسها كحل وسطي معتدل.. تلتقي عنده مختلف الأطراف. فما هي هذه الدولة؟!
مصطلح "الدولة المدنية"، كسواه من المصطلحات قابل لأن يفهم ويطرح بأشكال مختلفة، وبشكل عام يمكن إدراج هذه المفاهيم في أربعة مقاربات:
الأولى، وهي مقاربة العلمانية الإيديولوجية: ترى هذه المقاربة ألا فرق بين مفهومي "الدولة المدنية" و"الدولة العلمانية"، وأن مصطلح "دولة مدنية" هو مجرد تورية لمصطلح "دولة علمانية"، يلجأ إليها بعض العلمانيين تجنبا لاستخدام التسمية الصريحة لهذه الدولة، نظرا للتشويه الذي لحق بهذا المصطلح جهلا أو عمدا، وجعل مفهوم العلمانية يقترن إلى حد كبير بأذهان العامة بمعادة الدين والانحلال الأخلاقي. وبالطبع قد يكون لهذه التورية بعض الفائدة، من حيث أنها يمكن أن تستبعد التصورات السيئة المسبقة عن العلمانية، ولكن هذه التورية تصبح بلا فائدة عندما ينتقل الأمر من المسميات إلى الأفعال، فعند الفعل سيصطدم من يريد "صنع" دولة علمانية بالواقع الذي يحتوي على أطراف سياسية وغير سياسية قوية وظروف واقعية عويصة تعترض عملية إقامة دولة علمانية، فمن يرفض فصل الدين عن الدولة، سيرفض حتما كل المفاعيل المترتبة على هذا الفصل، سواء تمت تحت مسمى "علمانية" أو أية تسمية أخرى.
الثانية، وهي المقاربة الإسلامية السياسية: وهي ترى أن "الدولة المدنية" هي "دولة إسلامية" تقوم على الشريعة الإسلامية، ولكنها لا تدار من قبل رجال الدين، بل من قبل رجال الدولة، أو السياسيين، كما هو الحال في الدول الغربية الحديثة، ولذلك في هذه المقاربة لا يتم تسمية هذه الدولة بـ"الدولة الدينية"، ولكنها تسمى بـ "دولة مدنية شرعية" أو "دولة شرعية مدنية". لكن واقعيا، أيا كانت تسميات الدولة التي تقوم على تشريعات دينية، فهذا لن يغير من طبيعتها، وهي ستبقى "دولة دينية"، وستكون مرفوضة من قبل كل من لا يريد دولة كهذه، وفي حالتنا من لا يريد "دولة إسلامية"، لا يريدها أيا كان شكلها، وسواء كانت تدار من قبل رجال الدين أو رجال السياسة، أو حتى تكنوقراط يعمل في إطار شرعي إسلامي.
الثالثة، وهي المقاربة الواقعية النفعية: وهي ترى أن الدولة المدنية هي عبارة عن تسوية بين أنصار الدولة الدينية ورَفَضة هذه الدولة من علمانيين مريدين حصريا لدولة علمانية، أو آخرين لا يريدون الدولة الدينية ولكنهم لا يصرون على أن يكون البديل دولة علمانية حصرا! بهذا المفهوم تصبح الدولة المدنية دولة هجينة، يتم فيها تقديم تنازلات مختلفة من قبل كل من العلمانيين والإسلاميين للوصول إلى حالة وسطية بين الطرفين، بحيث لا تنفصل الدولة كليا عن الشرع، ولا تقوم كليا وحرفيا عليه. ويمكن القول أن هذه الدولة يمكن أن تكون دولة حديثة ديمقراطية من حيث البنية والتنظيم وآلية العمل، ولكنها تعمل في إطار شرعي إسلامي مرن يطلب منها فقط أن تكون قوانينها وتشريعاتها متوافقة مع مقاصد الشريعة الإسلامية وضوابطها. وعلى سبيل المثال، هذه الدولة عندما تعاقب السارق، فهي لا تطبق حد السرقة الشرعي المتمثل بقطع يد هذا السارق، ولكنها تعاقبه بالسجن كما تفعل أية دولة حديثة، وبذلك فهي تحقق مقصد الشريعة المتمثل بردع السرقة، ولكنها تفعل ذلك بأسلوب حديث.
الرابعة، وهي مقاربة العلمانية المنهجية: وهي على أرض الواقع مقاربة من الناحية العملية شديدة الشبه بالمقاربة السابقة (مقاربة الواقعية العملية)، ولكنها تختلف عنها في المنهجية، حيث يمكننا القول أن تلك المقاربة تنظر إلى "الدولة المدنية" كـ "دولة مهجّنة" تتم فيها التسوية بين الأطراف المتباعدة سياسيا واجتماعيا، بما يضمن الوصول إلى حالة وُسطى تقبل بها جميع هذه الأطراف، وما يمكن القول عنه في حال كهذه هو أن هذه الدولة هي دولة براغماتية، أو عملانية، وهي تأتي كحل براغماتي .. تتمثل فائدته الواقعية في كونه يجد مخرجا يتم فيه الخروج من حالة الاستقطاب والاستعصاء السياسيين بين الطرفين العلماني والإسلامي المحافظين، التي يمكن أن تصنع حالة من عدم الاستقرار، بل وحتى النزاع في المجتمع، ويتيح –أي هذا الحل العملاني- الفرصة للعمل المشترك لبناء دولة حديثة، تعود بالفائدة على الجميع. لكن المقاربة العلمانية المنهجية، لا تنظر إلى الدولة المدنية بهذا الشكل، وهذه المقاربة هي فعليا تقوم على "منهجية علمانية"، ولكن فيها يتم التعامل مع "العلمانية كمنهج"، وليس كـ "إيديولوجيا"، أو كـ "وصفة سياسية"؛ فعندما يتم التعامل مع العلمانية كإيديولوجيا أو كوصفة، فهي ستـُفهم بأنها "عملية فصل بين الدولة والدين"، وبهذا الشكل ستبدو العلمانية وكأنها وصفة جاهزة يتم استيرادها وإسقاطها وفرضها على المجتمع، بصرف النظر عن مدى ودرجة جهوزية هذا المجتمع لتقبّل هذه الوصفة أو الاستجابة لها، وبذلك تتحول العلمانية إلى قالب قسري يجب قولبة المجتمع فيه؛ وهنا سنكون أمام احتمالين، الأول: هو استحالة تطبيق العلمانية من أساسها على مثل هذا المجتمع إن لم يكن هذا المجتمع جاهزا لتطبيقها بهذا المفهوم، وهذا يعني تحولها إلى مجرد نظرية نخبوية بعيدة عن الواقع، والثاني: هو تطبيق هذه الوصفة العلمانية بالقوة، وهذا ما يصنع في المحصلة حالة "استبداد علماني"، وهذا بدوره يتناقض مع العلمانية نفسها، لأن أحد غايات العلمانية الكبرى هي "الحرية الإنسانية"، وعدا عن ذلك، فكأي استبداد، علمانية استبدادية كهذه، ستصنع حالة من التناقض مع المجتمع الذي تـُفرض فيه، وستكون العلاقة بينها وبين هذا المجتمع علاقة عنفية، ويمكنها في المحصلة أن تنتج الكثير من ردة الفعل الدافعة باتجاه التطرف الديني المضاد. أما عندما يتم التعامل مع العلمانية كمنهجية، فعندها لن تكون العلمانية عبارة عن صيغة سياسية محددة حصريا بالفصل بين الدولة والدين، وإنما ستكون عبارة عن منهجية عقلانية واقعية يتم فيها التعامل مع الواقع الاجتماعي على أسس العقلانية والواقعية، وتسعى بناءً على هذه الأسس إلى بناء أفضل شكل إنساني ممكن للدولة في حدود هذا الواقع، وعندما يكون هذا الواقع متطورا وجاهزا بما يكفي للقيام بالفصل بين الدين والدولة، فعندها يتم القيام بهذا الفصل تتويجا وترسيخا وبشكل معقلن ومنظم لهذا المستوى من التطور، وهذا الفصل بين الدولة والدين في "العلمانية المنهجية" هو ليس شرطا مسبقا لقيام الدولة على أسس علمانية كما هو الحال في "العلمانية الإيديولوجية"، وإنما هو مبدأ سياسي جوهري مشتق من المنهجية العلمانية، ويتم تحقيقه فعليا عندما تكون الظروف السياسية الاجتماعية جاهزة. وبهذا المفهوم تكون الدولة المتوافقة مع المعايير العلمانية المنهجية هي ليست الدولة التي يتم فيه الفصل بين الدولة والدين انطلاقا من منطلق إيديولوجي مسبق، ولكنها الدولة التي تـُبنى دوما بشكل عقلاني واقعي في حدود ممكنات الواقع، وبحيث تتطور إلى المستوى الذي يتم فيه الفصل بينها وبين الدين. وبهذا المفهوم، تكون الدولة المدنية هي الدولة المبنية على أسس عقلانية في حدود الممكنات الواقعية لغايات إنسانية، بدون شروط حدية مسبقة، وهذا يعني عمليا عدم السعي لفرض الفصل بين الدين والدولة فرضا عندما تكون الظروف والمعطيات السياسية الاجتماعية غير مناسبة لهذا الفصل بعد، كما ويعني عدم التشبث بهذا "الفصل" كشرط مسبق ثابت عندما يكون غير قابل للتطبيق. وبناء علي ذلك يصبح ممكنا القول أن "الدولة المدنية الديمقراطية" هي الدولة المبنية بشكل يتوافق مع المنهجية العلمانية العقلانية الواقعية، التي لا تقفز فوق الواقع، ولا ترضخ لهذا الواقع، ولكنها تسعى إلى الوصول إلى أكبر قدر ممكن من تحقيق مبادئها العقلانية الإنسانية العليا ضمن ممكنات هذا الواقع.
03/01/2025
#رسلان_جادالله_عامر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الكتابة عن الحب والجنس في موضع جدل
-
إشكالية الاختلاف، دور النظام الاجتماعي وإمكانية الحل
-
ما هي -ما بعد العلمانية-؟
-
بناء الثقة والأمن: البريكس والنظام العالمي
-
إثنان من كارل ماركس
-
العملية الحربية الخاصة وتغيير النظام العالمي
-
عبد عدوه لا ينصر أخاه...
-
كيف تتعامل العلمانية مع المسألة الجنسية؟
-
تحليل الحمض النووي يثبت أن القديس لوقا هو من يقولون أنه هو
-
الطائفية بين عصبية الطائفة وتردي المجتمع
-
قصة حب ميهاي إمينيسكو وفيرونيكا ميكلي
-
الديكتاتورية.. تقزيم الشعب وتأليه الزعيم
-
مشكلة الزي بين المرأة العصرية والمؤسسة الدينية التقليدية
-
مزامير على إيقاع فلسطيني
-
هل للدين أهمية في العالم الحديث؟
-
يا روح لا تتوقفي.. هيا انزفي
-
الصداقة بين الرجل والمرأة .. هل هي حقيقية؟
-
على أطلال مورتستان
-
الحب والتعالي
-
قطر السنى
المزيد.....
-
شولتس يرفض تكهنات نائب من الحزب المسيحي حول سفره إلى موسكو
-
حزب -النور السلفي- المصري: محاولات تصدير التجربة السورية إلى
...
-
تفاصيل عام صعب على المسجد الأقصى
-
سلي طفلك تحديث تردد قناة طيور الجنة للأطفال الان
-
قوات الاحتلال تقتحم حي البستان ببلدة سلوان جنوب المسجد الاقص
...
-
ما هي بواعث التوجس المصري من وصول -إسلاميين- إلى سدة الحكم ف
...
-
الزعيم الروحي للموحدين الدروز في سوريا: حل الفصائل المسلحة و
...
-
بابا الفاتيكان: التنمر في المدارس يُعدُّ الطلاب للحرب بدلا م
...
-
احدث تردد قناة طيور الجنة 2025 عبر نايل وعرب سات جودة HD
-
تسليم لوحة تتضمن كلمات قائد الثورة عن المسيح (ع) لبابا الفات
...
المزيد.....
-
نشأة الديانات الابراهيمية -قراءة عقلانية
/ د. لبيب سلطان
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
المزيد.....
|