الأحد 06 يوليو 2003 19:35
سألني صحفي من "الأهرام العربي" خلال حديث معي في 2002 عن سر تقليدي للمطلب الأمريكي بإصلاح التعليم الديني.. قلت له لو كنت مطلعاً بما فيه الكفاية عن هذا الموضوع لتساءلت عن سر تقليد الأمريكيين والاتحاد الأوربي لي: في 1956 طالبت بغلق جامعة الزيتونة التي كانت تغسل عقول طلبتها بالفقه القديم فأغلقت. وفي السبعينات تحدثت عن المدرسة العربية التي تجعل العبقري موهوباً والموهوب تافهاً حسب عبارة بياجيه PIAGET وفي 1/11/1997، عندما كانت المخابرات الأمريكية تتعاون مع المخابرات السعودية والباكستانية علي تنصيب طالبان في أفغانستان، نشرت مقالاً في "الحياة" بعنوان: "تجفيف الينابيع الأصولية شرط تحديث التعليم" لفت‘ به انتباه النخب العربية إلي ضرورة إصلاح التعليم الديني علي غرار التجربة التونسية الرائدة في هذا المجال التي بدأت إصلاح التعليم والتعليم الديني منذ 1990 كرد تربوي علي تحدي الإرهاب الإسلاموي وعلي الإصلاح الديني المضاد الذي حققه الإسلامويون في التعليم والإعلام منذ 1972. في مقال آخر في "الحياة" (العدد 6273 يناير 1998) أشرت فيه إلي الفلسفة التربوية التي قام عليها إصلاح التعليم والتعليم الديني في تونس. هذه الفلسفة تضمنها كتاب من 1200 صفحة وهي تنطلق من ضرورة استئناف حركة الإصلاح الديني وفلسفة الأنوار الفرنسية إي تعليم الأجيال الصاعدة قراءة النص الديني قراءة تاريخية وإثراء مخيالها بالقيم الإنسانية التي جاءت بها فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر وهما ترياقان ناجعان للإنتهاء من تطبيق أحكام الفقه القديم التي باتت كالدواء الذي انتهت مدة صلاحيته لا يفيد متعاطيه بل يضره ولإدخال النسبية في الحقل الديني الذي مازال عندنا قائماً علي المطلقات واليقين الأعمي وتطبيق الشريعة والحال أنه تم ترشيده في الديانات التوحيدية الأخرى منذ قرون.
مباشرة بعد 11/9/2001 طالبت الغرب بالتدخل لمساعدتنا علي إصلاح التعليم الديني لأنه أصبح صاحب مصلحة في ذلك بعد أن امتد إليه خطر الإرهاب الديني الذي كان يضرب الجزائر ومصر. وللتاريخ فهذه الأخيرة طالما حذرت الغرب من هذا الخطر. لكن السؤال الجدير بالطرح هو محاولة فهم الرهاب الهستيري الذي يستولي علي قطاع عريض من إعلامينا ومثقفينا إذا رأوا تطابقاً مع مواقف غير المسلمين والحال أنه لا يوجد معيار موضوعي للحقيقة يردعنا عن التطابق معهم إذا كان المنطق يقتضي ذلك ؟ السبب الأساسي يعود إلي فقه القرون الوسطي الذي صاغ شعورنا ولا شعورنا بتحريم وتجريم تقليد غير المسلمين: ابن تيمية اعتبر " مخالفة الكفار مقصداً من مقاصد الشريعة " كما يقول راشد الغنوشي. لماذا مرة أخرى ؟ لأن نرجسيتنا الدينية اعتبرت جميع الأديان الأخرى منسوخة بالإسلام وكأي إثنية مركزية أو نرجسية جمعية تعتبر نفسها النموذج الذي يقلده الآخرون وهكذا تحرم علي نفسها تقليد " الكفار " وتحرم بذلك نفسها من مزايا هذا التقليد خاصة اليوم حيث يمتلكون المؤسسات والعلم والقيم أي كل ما نحتاج إلي تقليدهم فيه. سبب آخر لا شعوري يعود إلي الكسل الذهني الشائع عند قطاع من الإعلاميين والمثقفين: عجزهم عن التحليل الموضوعي للاطروحات الغربية لتحديد مراميها وأيضاً للبحث عن تقاطع المصالح فيها بيننا وبينهم في عالم تدامجت فيه جميع الاقتصاديات القومية في اقتصاد عالمي واحد وغدت فيه التحديات الجماعية كالإرهاب والمخاطر المحدقة بالبيئة والأوبئة والانفجار السكاني والفقر والأمية نقاطاً تلتقي فيها مصالح جميع شعوب العالم التي غدت تقدم المصالح المادية علي الشعارات الأديولوجية أو الدينية.
بأي منطق نعارض مطلب إصلاح التعليم الديني في السعودية مثلاً الذي يغسل أدمغة تلامذتها وطلبتها بعداء غير المسلمين إذ تبرعت جمعية " خيرية " سعودية، تمول الإرهاب، علي جميع تلامذة المملكة بدفتر واجبات كتبت في الصفحة 38 منه: " عن السلف الصالح: إذا حياك نصراني فرد عليه بقدميك " وبتكفير الشيعة، الذين يمثلون 10 % من سكان السعودية، عبر تدريس فتاوى ابن تيمية التي تقول إحداها " من شك في كفرهم [ = الشيعة ] فقد كفر" والجدير بالذكر أن " الفتاوى " إياها حسب اليومية " الأحداث المغربية " قد وزعتها هذه السنة، السفارة السعودية علي كل ثناويات المغرب تعميماً للفائدة منها !
يبقي السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تعلم كثير من النخب العربية مواطني الغد تعليماً دينياً يتعارض مع مصالحها الموضوعية ؟ ذلك عائد في نظري إلي ثلاثة أسباب أساسية: قطاع من هذه النخب من خريجي هذا التعليم واستبطن الإصلاح الديني المضاد الذي قاده الإخوان المسلمون ضد بدايات الإصلاح الديني غير المكتمل في مصر، وقاطع آخر ردعه افتقاده للشرعية سواء كانت شرعية ديمقراطية أم شرعية إنجازات اقتصادية واجتماعية كما ردعه جبنه السياسي والديني عن الرد المناسب علي الإصلاح الديني المضاد في التعليم بإصلاح ديني حقيقي انطلاقاً من التعليم لمواجهة الإسلام التقليدي والإسلام الجهادى المتحالفين موضوعياً ضد الإصلاح الديني فأخذ يطبق الإسلاموية بدون إسلامويين ! والقطاع الثالث أعاقه غياب الرؤيا الإستراتيجية في صنع القرار التربوي عن مباشرة هذا الإصلاح المتأكد. في الواقع الإصلاح التربوي الديني هو جزء من كل: الرؤيا التنموية الشاملة التي تغطي التعليم والإعلام والأدب والفن والعلم والاقتصاد والسياسة. النسق التنموي، ككل نسق، كل لا يتجزأ. وهكذا لم يندرج التعليم الديني في مشروع مجتمعي مستقبلي أقام سلفاً الحداد علي كل ما هو ميت ومميت في تراث الأسلاف، الذين مازالوا يحكمون من وراء قبورهم حياة الأحياء !
مثل هذا المشروع يقوم علي تحليل بني المجتمع المعني ومشاكله وإنسداداته لوضع الأجوبة المناسبة عليها موضع التطبيق. هذا ما عجز عن إنجازه كثير من صناع وأصحاب القرار في العالم العربي وما عجزت عن استشرافه كثير من النخب الفكرية التي من أولوياتها التفكير في ما لم ‘يفَكر فيه بعد. بدلاً من ذلك نراها تقول، بجبن فكري نادر، لجمهورها المغترب دينياً ما يود سماعه منها.
ماذا أعني بتعليم ديني تنويري يكون بديلاً لما هو سائد ؟ أعني أن التعليم الديني الحالي في معظمه وفي معظم البلدان ظلامي. أستخدم كلمة ظلامي بالمعني الذي استخدمته فلسفة الأنوار في القرن الثامن عشر: مواجهة أنوار العقل بالتعصب وإيمان العجائز وتقاليد الأسلاف والأحكام المسبقة والخرافات الرائجة... وباختصار الرد علي التجديد بالتقليد وعلي التفكير بالتكفير.
ما هي مقومات التعليم الديني الظلامي؟
1_ الترويض: التطويع النفسي للتلميذ والطالب ليتصرفا وفق ما ينتظره مروضهما منهما بتحويلهما إلي ببغاء يقول ما قيل له. وهذا متعارض مع دور التعليم كما تصوره فيلسوف الأنوار كوندورسيه CONDORCET: تكوين شعب صعب الانقياد " أي تربي علي التفكير بنفسه والنقاش المتعارض ومقارعة البرهان بالبرهان و الفكر النقدي الذي يسائل الأطروحات والمقترحات عن شرعيتها العقلانية.
2_ التلقين: الاغتصاب النفسي وتحفيظ النصوص الدينية الذي يعيق العقل عن التفكير الشخصي فيها. الحفظ يستبعد الفحص النقدي لحساب التسليم الإيماني واليقين الأعمى. تأثيره أقرب ما يكون إلي تأثير الإعلام الموجه (بفتح وتشديد الجيم) يتشربه اللاشعور كعادة ذهنية تلقائية، كمسلمة مستغنية عن البرهان. لذلك شن الإخوان المسلمون حملة صليبية علي شيخ الأزهر عندما قرر إلغاء حفظ القرآن من التعليم الأزهري!
علي صعيد المحتوى:
(1) يرعي التعليم الظلامي السائد التعصب بما هو خوف هستيري من إدخال النسبية علي الحقائق الدينية وتشبث عصابي باليقين المطلق والمغلق عن كل نقاش وتجريم وتكفير للرأي المخالف. لا يوجد في نظر المتعصب إلا رأيان مانويان أحدهما صحيح مطلقاً والأخر خاطئ مطلقاً ! وهكذا فالتعصب هو الطريق الملكي إلي الإرهاب الديني. انتشار فتاوى التكفير وإهدار الدماء منذ حوالي ربع قرن له علاقة مباشرة بهذا التعليم الذي تخصص في تخريج فقهاء الإرهاب.
(2) يربي الأجيال الصاعدة علي تكفير الفلسفة التي لا تدرس في كثير من دول الجامعة العربية أصلاً ولا تكاد تدرس فعلاً كفلسفة تحترم العقل وقوانينه لا كعلم كلام إلا في بلدين أو ثلاثة علي الأكثر، كما يربيها علي تكفير العلوم الإنسانية ونظرية التطور التي قال عنها سيد قطب في " معالمه " إنها " معادية للدين عامة وللإسلام خاصة ".
(3) يحارب العقل بالنقل ويستغل كل الغرائز البدائية والعدوانية من غريزة الموت إلي الخوف من الجديد لتكفير الحداثة وقيمها وغرائز الحياة التي حررتها.
(4) يكفر القيم الإنسانية متمثلة في حقوق الإنسان والمواطن: المساواة بين الجنسين تعني بالنسبة له إلغاء قوامة الرجل علي المرأة وحرية الاعتقاد تعني إلغاء عقوبة الردة والحق في السلامة الجسدية يعني إلغاء العقوبات البدنية الشرعية.. إلخ.
(5) تحريم الفن (موسيقي، غناء، رسم، نحت) من آخر فتاوى القرضاوي تحريم النحت.
(6) ترسيخ عداء المرأة " ناقصة العقل والدين "، " النساء شاورهن وخالفوهن " ! كتعبير عن سادية متفجرة، تعذيب نفسي وجسدي: فرض الحجاب والنقاب والختان والقصور الأبدي عليهن...
(7) عداء غير المسلم لأنه بلا دين فالدين الوحيد المقبول عند الله هو الإسلام.. وإبقاؤه شعورياً أو لا شعورياً ذمياً أبدياً محروماً من حقوق المواطنة !
باختصار هذا التعليم يجعل الأجيال الصاعدة تتشرب أن العقل غير جدير بالثقة وأن الثبات لا التطور هو سنة الله في خلقه وأن الجهاد ماض إلي يوم قيام الساعة وعبادة الأسلاف أي تقليدهم في كل شيء هي طوق النجاة.
بديل هذا التعليم الظلامي الذي يرتكب جريمة مستمرة هي إحداث قطيعة بين خريجيه وبين الحداثة. هو تعليم تنويري. ماذا أعني بتنويري ؟ تعريف كانط لفلسفة الأنوار " خروج الإنسان من سن القصور " العقلي، من الأحكام المسبقة، من التعصب، من الخرافة، من إيمان العجائز للدخول في العقلانية، في التسامح، في الإيمان بالأخوة الإنسانية وبالقيم الإنسانية، وباختصار اكتساب الإنسان القدرة علي التفكير بنفسه لا بأسلافه والقدرة علي استخدام البرهان وعلي معاييره برهان الطرف الآخر بمعايير العقل أي بقوانينه. إذا كان التعليم الظلامي السائد قد علم من درسوا فيه ان الحقيقة واحدة ومطلقة هي حقيقتنا فالله كلمنا لآخر مرة وكشف لنا خاتمة الحقائق، فعلي التعليم التنويري أن يعلم متعلميه وجود حقائق دينية عدة كلها نسبية لأنها ليست حقائق إلا في نظر من يؤمنون بها، وأن الحقيقة الوحيدة المطلقة هي أن لا وجود لحقيقة مطلقة. والحقيقة نسبية لأنها دائماً جزء من حقيقة أشمل برسم الاكتشاف والعقل الذي ينتجها هو بدوره نسبي نظراً لنسبية الظواهر التي يعالجها ونسبية الأدوات التي يستخدمها ونسبيته هو نفسه بما هو منتوج للتطور المتواصل منذ ملايين السنين: كل هذه النسبيات تردعه، خاصة في سن رشده الحالي، عن إدعاء العصمة من الخطأ. لأن الخطأ هو بالضبط الطريق إلي الحقيقة العلمية التي هي، كما يعرفها فيلسوف العلوم باشلار، " خطأ تم تصحيحه ". لكن العقل هو الوحيد القادر علي إصلاح أخطائه.
إذا كان التعليم الظلامي ينطلق من مسلمة أن المرأة والعقل البشري قاصران أبديان، فإن التعليم التنويري ينطلق من فرضية أن الإنسان وعقله غير كاملين ولكنهما قابلان لكمال لا يكتمل أبداً.
إذا كان التعليم الظلامي ينطلق من رؤيا نكوصية للتاريخ تزعم أن مستقبل المسلمين في ماضيهم وخير الأجيال هو جيل الصحابة وخير العصور هو عصرهم وخير الدول هي دولة الخلافة الراشدة..، فإن التعليم التنويري سينطلق من رؤيا إستراتيجية مستقبلية لمشروع مجتمع الحداثة رائده والعقلانية منطلقه. يوجد نموذج متحقق لهذا التعليم الديني العقلاني هو التعليم التونسي الذي أعطي عنواناً ثابتاً لجميع كتب الدورة الدراسية: " أنا أفكر ". الفلسفة تدرس فيه في الثانوي لمدة سنتين وفي كامل سنوات التعليم العالي حيث تدرس علوم الحداثة التي تساعد علي الفهم العقلاني للظاهرة الدينية: تاريخ الأديان المقارن الذي يساعد الطلبة علي فهم خط تطور الديانات وتلاقحها بعضها مع بعض مثلاً شريعة القصاص ترجمها العبرانيون خلال السبي البابلي في القرن السادس قبل الميلاد من مدونة حامورابي المكتوبة في القرن الثامن عشر قبل الميلاد.. حتى ليمكن القول أن اليهودية ما هي إلا محصلة للديانتين المصرية والبابلية، السوسيولوجيا الدينية تعلم الطالب طرائق استخدام أو تطويع الوظائف الاجتماعية للدين لخدمة إستراتيجيات الجماعات المتنافسة، وعلم النفس يعلمه الوظائف النفسية للدين: تقديم العزاء والسلوى في مواجهة مصائب الحياة من أب حام رؤوف بأبنائه وأخيراً يرضي طموحه النرجسي إلي الخلود في حياة أخري بعد الموت. والألسنية تعلمه أن النص المقدس يخضع لنفس التحليل اللغوي الذي يخضع له أي نص علماني لتأويله واستبطان مدلولاته. وهكذا يغدو الدين في متناول العقل وبدون ألغاز. ويغدو الطالب قادراً علي التفكير فيه بنفسه باستقلال عن رأي الفقهاء والمفسرين الذين درسوه برؤيا إيمانية وبأدوات معرفية بدائية تجاوزها التطور العلمي المعاصر. بالمناسبة عمم صانع القرار التعليمي التونسي الفلسفة علي جميع الفروع العلمية بما فيها التعليم المهني والعلمي والطب لتعليم طلبة هذه الاختصاصات، التي تقدم الأعضاء والأنصار لجماعات الإسلام الجهادي، الفكر النقدي الذي يسائل ويشك ويحلل ويستخدم قوة الحجة بدلاً من حجة القوة. وهكذا لأول مرة امتلك بلد في الجامعة العربية تعليماً دينياً يساعد علي مكافحة التعصب والاستخدام السياسوي للدين.
ماذا عسي تكون أولويات تعليم ديني تنويري ؟ ستكون متطابقة مع أولويات كل نخبة وحاجات كل مجتمع. ومع ذلك بإمكاني اقتراح أولويات مطروحة علي جميع المجتمعات العربية التي مازالت تكابد ويلات التعليم الظلامي.
1_ الدخول إلي الحداثة لمن لم يدخلوا فيها بعد والمضي قدماً فيها لمن دخلوها. فتحديث الحداثة مهمة لا تكتمل قط. التعليم التنويري يساعد بقوة علي تحقيق هذه الأولوية لأنه يفتح المخيال الإسلامي التقليدي للحداثة لاستبطان مؤسساستها، علومها، قيمها ونمط حياتها الذي يعيد اليوم صياغة مخيال البشرية الجمعي بقيم ومفاهيم ومصالح وممارسات غير مسبوقة .
2_ تشجيع الروح العلمية التي يكافحها التعليم الظلامي بقوة بالتخلي عن سياسة النعامة وتبني اقتراح بنت الشاطئ سنة 1965 باعتبار القرآن كتاباً روحياً حصراً وليس كتاب تاريخ ولا جغرافيا ولا بايلوجيا ولا طب ولا فزياء فلكية. هذا الفصل بين الدين والعلم يكسب به الدين الذي لا يعود معنياً إلا بالحقائق الروحية ويكسب به العلم الذي يتحرر من وصاية النصوص الدينية التي تطالبه بتصديق أن الشمس، التي هي أكبر من الأرض بستة آلاف مرة، تغرب في عين حمئة في الأرض وبأن العالم عمره ستة آلاف عام ونيف وبأن الله خلق الفأر فأراً والحمار حماراً والإنسان إنساناً.. نفياً لواقعة التطور التي غدت مسلمة علمية.
3_ تبني المواطنة الحديثة بالنسبة للصنفين اللذين أقصاهما منها التعليم الظلامي: المرأة وغير المسلم. المرأة بالاعتراف لها بجميع الحقوق التي تعترف بها لها وثائق حقوق الإنسان والمواطن. وغير المسلم بمعاملته علي قدم المساواة مع المسلم في الحقوق والواجبات المدنية كافة. ورد الاعتبار لغير المسلمين في العالم العربي بتدريس تاريخ مشاركتهم في صنع الحضارة العربية الإسلامية بالترجمة، التي كانت الحدث المؤسس لهذه الحضارة، وبالعلوم والطب والمشاركة في السلطة السياسية طوال قرون، تدريس كتاب د. عبادة كحيلة " عهد عمر " الذي نسف به، بالبراهين التاريخية المقنعة، الأساس الذي قام عليه فقه الذمة العنصري موضحاً أن عمر لا علاقة له بهذا العهد المزور عليه. وهكذا يصبح فقه أهل الذمة بلا شرعية دينية ؛ اعتبار الآية 62 من سورة البقرة التي تكررت أيضاً في سورتي المائدة والحج غير منسوخة: " إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصاري والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون " واعتبار الآيات التي اعتبر الفقهاء أنها ناسخة لها هي المنسوخة لأنها لم تعد متكيفة مع قيم عصرنا ومعاصرينا التي ترفض التمييز الديني والنرجسية الدينية والمركزية الاثنية ؛ تعويض تسمية " الكفار "، التمييزية، بغير المسلمين ورد الاعتبار لهم يحرر الشعور واللاشعور الجمعيين الإسلاميين من جنون " وجوب مخالفة الكفار " الكارثية في مأكلهم وملبسهم وعلومهم وقيمهم ومؤسساساتهم التي جعلت المجتمعات العربية دائماً في حاجة إلي فتوى تحلل القليل الذي تقتبسه من حداثة " الكافر " حتى صنبور المياه الذي كفره فقهاء الشافعية أضطر محمد علي لالتماس فتوى تبيحه من فقهاء الحنفية ولذلك تسمي ب " الحنفية " حتي يستسيغه الوعي الإسلامي المسكون بهوس مخالفة الكفار ومازالت مأساة التماس السلطة السياسية للفتاوى من السلطة الدينية مستمرة حتى اليوم ! التسمر العصابي في هذا الهوس اليوم انتحار في عالم معولم واقتصاد متدامج وثورة اتصالات، اختزلت بعدي الزمان والمكان، ومناطق تبادل حر وشراكات إقليمية ودولية تبشر بمواطنة عالمية تبدو ضرورية أكثر فأكثر.
4 _ مكافحة الانفجار السكاني الكارثي الذي يحكم بالإعدام علي كل جهد تنموي والذي يشجعه التعليم الظلامي.
5 _ مكافحة عداء المرأة العميق في النفسية البشرية والأكثر عمقاً في النفسية الإسلامية في جميع مظاهره من جريمة الختان والرجم وفرض النقاب والحجاب بالسجن والجلد كما في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أو بالاغتصاب النفسي كما تفعل حركات الإسلام الجهادي.
6 _ إصلاح الإسلام، عبر إصلاح مناهج التعليم الديني، خاصة بالعودة إلي القراءة التاريخية للنص لإبراز تاريخيته وبالتالي نسبية أحكامه زماناً ومكاناً. وهذه القراءة التي دشنها القرآن نفسه بالناسخ والمنسوخ واصلها الصحابة بعد موت النبي فعلقوا حد السرقة عام الرمادة ونسخوا حكم آية المؤلفة قلوبهم وآية الفيئ وبعدهم بقرون واصل الفقهاء هذه القراءة فنسخوا حكم آية وجوب كتابة العقود لإثبات الدين كما نسخوا حديث تحريم الزكاة علي أهل البيت حفاظاً لكرامتهم عندما أصبحت الزكاة أحفظ لكرامتهم من التسول في الطرقات كما يقول الفقيه الونشريسي. تدريس كتاب محمد أركون " قراءات في القرآن "، ترجمة هاشم صالح، وكتاب فراس السواح " مغامرة العقل الأولي: دراسة في الأسطورة " يقدمان أدوات معرفية جديدة تساعد علي توسيع وتعميق هذه القراءة التاريخية الضرورية اليوم لتحديث الإسلام بعد أن فشلت طوال قرنين محاولات أسلمة الحداثة.
7 _ تدريس مادة حقوق الإنسان كما في تونس لتحرير الوعي الإسلامي من قيمتي الحلال والحرام وتعميره بالقيم الإنسانية الكونية حتى تكون ذهنية مسلم الغد وقيمه متطابقة مع ذهنية وقيم معاصريه.
8 _ مكافحة الموضوعين المركزيين في التعليم الديني الظلامي الذي جعل من الولاء الحصري للأمة الإسلامية والعودة إلي الخلافة الإسلامية وتكفير الوطن والدولة _ الأمة واجباً دينياً. لذا يحسن التركيز علي الوطن الحديث والدولة الأمة كما فعل الطهطاوي عندما استخدم مصطلح " الأمة المصرية ". حسبنا إلقاء نظرة علي سجل من خططوا للعمليات الانتحارية أو شاركوا فيها ليتضح أنهم جاهدوا في أفغانستان ثم في البوسنة ثم في الشيشان ثم في نيويورك وواشنطن وأخيراً في.. الرياض والدار البيضاء. في الواقع كانوا منطقيين مع المخيال الجهادي العتيق الذي رعاه فيهم التعليم الظلامي ومع التضامن الديني التلقائي، وريث التضامن القبلي: انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً، الذي لقنهم إياه بدلاً من التضامن المفكر فيه دفاعاً عن قيم إنسانية مهددة بالانتهاك. تدريس كتاب علي عبد الرازق " الإسلام وأصول الحكم " ضروري للشفاء من الحنين إلي الخلافة ومخيالها الجهادى. وبدلاً من الوحدة الإسلامية يقع التركيز علي إقامة مناطق تبادل حر ومشاريع بنية تحتية مشتركة تمهيداً لسوق عربية مشتركة والاندماج في الشراكة المتوسطية. لا شيء أنجع في مكافحة المهام الوهمية من استحضار المهام الحقيقية التي غيبتها.
تجربة التعليم التنويري التي دشنتها تونس في 1990 ظلت معزولة. وها هو المغرب يتأهب اليوم للالتحاق بها:
" البرنامج الوطني، يقول الوزير المغربي لحقوق الإنسان، محمد أوجار، للتربية بحقوق الإنسان أصبح يكتسي طابعاً إستراتيجياً بعد وقوع الاعتداءات الإرهابية في الدار البيضاء لأنه مع مساءلتنا لهذه الاعتداءات وبحثنا عن الأجوبة المناسبة للرد عليها ينبغي أن ننتبه إلي أن هناك أفكاراً ظلامية اخترقت جسمنا التعليمي والمناهج الدراسية في المؤسسة التعليمية " (الأحداث المغربية: 10 /6 / 2003).
إذا استطاعت النخبة السعودية التحرر من إرتهانها للتعصب الوهابي، الذي بات بعد جريمة الرياض وما تلاها ممقوتاً شعبياً، فستستخلص بدورها نفس الدرس الذي إستخلصته النخبة المغربية بعد جريمة الدار البيضاء وعندئذ ستقرع أجراس التعليم الظلامي الجهادي في العالم العربي كله وسيكون ذلك مؤشراً قوياً علي أن غريزة الحياة انتصرت علي غريزة الموت لدي قطاع حاسم من نخب وسكان هذا العالم .
مداخلة في مؤتمر "الثقافة العربية بين تحديات الحاضر وآفاق المستقبل: نحو خطاب ثقافي جديد" التي عقدها المجلس الأعلى للثقافة من 1، 2، 3 يوليو 2003 بالقاهرة. تنشر تزامنا مع "الراية" القطرية.