|
لبنان نموذج حضاري متقدم للأمة العربية.. فهل يهدمونه؟!!
سالم جبران
الحوار المتمدن-العدد: 1788 - 2007 / 1 / 7 - 10:58
المحور:
اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي
من الضروري أن نذكِّر بأن بدايات الإرهاصات للنهضة العربية الحديثة بدأت في مصر التي كانت مستقلة إلى حد ما عن الدولة العثمانية، وفي لبنان. في لبنان بدأت المدارس التبشيرية الغربية، في وقت مبكر جداً، وفي سنة 1750 أقيمت في لبنان أول مطبعة، هي الأولى في الشرق العربي. وهناك دلالة عميقة جداً لحقيقة أن أول كتاب طبعته هذه المطبعة هو...شرح ديوان المتنبي! لقد بدأت النهضة التعليمية، وفيما بعد الثقافية في لبنان، وكان للعلماء العرب من الرهبان دور بالغ الأهمية، في وضع كتب التدريس العربية الحديثة، بما فيها تاريخ الأدب العربي. إن لبنان، الذي فيه موزايكا غنية من الطوائف، لم يكن ممكناً إلاّ أن يبني لنفسه نمط حياة واقعياً. براغماطياً، تعايشياً ولم يكن ممكناً إلاّ أن يكون لبنان وطناً للتنوع والتعددية وعدم الخوف من التجريب والإبداع. هل يمكن لأحد أن ينكر الدور الخارق لهجرة المثقفين من لبنان إلى مصر أيضاً، ودورهم المدهش في تأسيس ونهضة الصحافة العربية في مصر؟ هل يمكن لأحد أن ينكر أن نخبة من المثقفين والفنانين والممثلين اللبنانيين كانوا بين طلائع النهضة الفنية في مصر. لقد كانت خصوصية لبنان منذ بداية النهضة، في تنوعه وانفتاحه على الغرب. ولعل الهجرات اللبنانية إلى الخارج قد زادت وعمقت من انفتاح لبنان على الثقافة العالمية واستيعابه لها. وإذا قفزنا إلى القرن العشرين، فإننا نشير إلى ما هو معروف من دور خارق للجامعة الأمريكية في بيروت في تنشئة أجيال من المثقفين من مختلف الأقطار العربية، سورية، العراق، الأردن، اليمن، السعودية، ممن كانوا مفكرين وممن كانوا قادة ومؤسسين لأحزاب، ممن فجروا الوعي القومي العربي وبدايات التنظيم القومي العربي. هل احتضنت عاصمة عربية النضال الوطني الفلسطيني كما فعلت بيروت البطلة؟ كما كانت بيروت حاضنة للمجلات الرائدة وللتيارات الأدبية والثقافية والفكرية. هل صدفة أن أدونيس ونزار قباني ومحمد الماغوط، وثلاثتهم سوريون، قد أبدعوا أكثر إنتاجهم في بيروت؟ هل صدفة أن مجلة "الآداب" و"الأديب" كانتا خلال أكثر من نصف قرن الحاضنتين للنهضة الأدبية العربية وكل ما رافقها من تخبطات وتفتيشات وتجريب وخلق إبداعي؟ لقد كان تطاول كثير، مباشر ومبطَّن على لبنان، وإدعاء سخيف بأنه "يتفرنس" مع أن اللبنانيين الأدباء واللبنانيين السياسيين كانوا دائماً طليعة صلبة وحكيمة في نشر وبلورة الوعي القومي. إننا نلاحظ ،في هذه الأيام أيضاً، أن هناك من المتعصبين قومياً والمتعصبين إسلامياً من ينصبون أنفسهم أوصياء وحماة مزعومين لعروبة لبنان. ولكن هذا لا يثير إلاّ الغضب من الافتراء على التاريخ ومحاولة تزييف مسار التاريخ. لبنان يطرح بقوة أمام الأمة العربية كلها أسئلة صعبة: هل التحجر هو قومية؟ هل الانغلاق هو تمسك بالتراث؟ هل الانفتاح بلا خوف على حضارات العصر هو كوزموبوليتية؟ هل معرفة الفرنسية والإنجليزية يضعف اللغة العربية؟ هل الاطلاع على المدارس الفنية والموسيقية والأدبية العالمية المعاصرة يغنينا أم يذوِّب ويمسخ شخصيتنا؟! لقد قدّم لبنان للأمة العربية إبداعات رائعة تجديدية ويكفيه شرفاً أن كل الأدب المهجري العربي أبدعه لبنانيون بالأساس، ولم يكونوا من طائفة واحدة، فالانفتاح على العصر وعلى الحضارة وعلى التجديد ليس حكراً على طائفة واحدة. إن حصة لبنان في الإبداع الأدبي والفكري والفني العربي العام هو أكبر بكثير من حجم لبنان الجغرافي. ربما لهذا السبب، كان لبنان مؤثراً على المحيط العربي العام أكثر من أي قطر عربي آخر. ولكن يجب قول حقيقة أخرى مركزية جدا، وهي أن لبنان، منذً استقل، كان بلداً ديمقراطياً. مع أن العائلات ظلت عائلات والمشيخات ظلت مشيخات. إلاّ أن مساحة واسعة للحرية والديمقراطية وحرية التفكير وحرية التعبير ميَّزت لبنان تمييزاً واضحاً عن كافة الأقطار العربية، بدون استثناء. ولذلك رأينا أدباء وشعراء وموسيقيين وممثلين مسرحيين من العراق ومن اليمن ومن سورية ومن الأردن ومن فلسطين يعيشون فترة طويلة في لبنان، ويعتبرون لبنان وطنهم الثاني، بل وطنهم الروحي. ليس سراً أن لبنان، الصغير حجماً، أغرى العديد من الدول العربية بالطمع فيه، كما أقامت عدة أنظمة عربية صحفاً سياسية فيه, وهناك "الشقيقة الكبرى" سورية التي لم تعترف يوماً اعترافاً كاملاً غير منقوص بلبنان. وظلت تعتبره جزءاً من "سورية الكبرى". وحتى اليوم ترفض سورية إقامة علاقات دبلوماسية مع لبنان، مع أنها تقيم علاقات دبلوماسية مع الأردن، مثلاً ومع كل الدول العربية، بلا استثناء. لو قامت وحدة عربية شاملة لكل العالم العربي، من الطبيعي أن يكون لبنان شريكاً فيها، ولكن ما دامت كل دولة عربية متمسكة باستقلالها ووحدتها الجغرافية، فلماذا علامات السؤال الاستفزازية حول كيان لبنان؟ إذا كان لبنان دولة "اصطناعية"، فإن كل الدول العربية بلا استثناء هي دول "اصطناعية". فكل تقسيم العالم العربي وتخطيط حدوده لم يقم به العرب، بل الدول الغربية المحتلة للعالم العربي. إن لبنان حالياً، يشكِّل تجربة بالغة الإثارة، فقد سقطت الصِّيغ الطائفية القديمة وهناك تيار جبار يضم السنة والأكثرية الساحقة من المسيحيين والأكثرية الساحقة من الدروز والأرمن، وقطاعات واسعة من الشيعة حول صيغة تقول إن لبنان وطن الجميع، وطن الشراكة والاتفاق. أو كما قال الشهيد رفيق الحريري: "لبنان وطن الجميع وكلنا متساوون في العطاء والأخذ، في المسؤولية وفي تقاسم ثمار الوطن. فإما أن نكون معاً شركاء متساوين وإخوة في الوطن أو لا يكون لبنان"!! إن لبنان هو الدولة العربية الأولى التي تتحسس الطريق لصيغة دولة كل مواطنيها، دولة المشاركة بدون هيمنة أي حزب "قائد"، بكلمات أوضح: إن لبنان مؤهل أن يكون دولة ديمقراطية عصرية، بدون أصولية سوداء، وبدون أي شكل من أشكال التعصب الذي يشل العقول ويعمي العيون ويحطم إرادة الاقتحام الحضاري. كل نقاط الضعف في الديمقراطية اللبنانية نعرفها، ولكن الديمقراطية "الضعيفة" أحسن مليون مرة من "الدكتاتورية القوية" ومن نظام الصنم الواحد، في عصر تهدم فيه كل الشعوب الأصنام على رؤوس أصحابها! سمعت من والدي أنه قبل 600 سنة جاءت عائلتنا من لبنان إلى فلسطين. وأنا الآن فلسطيني ابن فلسطيني ابن فلسطيني إلى يوم الدين. ولكنني أقول إن حماية لبنان حراً مستقلاً ديمقراطياً ليس فقط حق لبنان على العرب جميعاً، بل هو مصلحة للعرب جميعا ًكما هو مصلحة للبنان. إن تجذر النظام الوطني الديمقراطي، الذي يدفن التعصب الطائفي، في لبنان، هو مطلع الفجر بالنسبة للعالم العربي كله، وهو البداية للعملية الديمقراطية في العالم العربي كله. إن انتصار الديمقراطية والتعددية والانفتاح والعصرنة في لبنان هو انتصار أولي تلحقه انتصارات ديمقراطية في العالم العربي. نريد أن نرى الديمقراطية والتعددية والعصرنة في كل دولة عربية، من المغرب إلى العراق ومن سورية إلى اليمن، نريد للديمقراطية الفعالة أن تصير مناخ الحياة لأمتنا العربية . كل الأحزاب في لبنان أحزاب أرضية دنيوية، قد تصيب وقد تخطيء. وشعب لبنان حر أن ينتخب من يشاء. ولا مكان في دولة ديمقراطية لحزب يدعي الألوهية ولزعماء يدعون الربانية. إن لبنان في وعينا صورة مكبرة لفيروز. وفيروز اختزال ساحر للبنان. والمحافظة على لبنان الحضارة والثقافة والفن والانفتاح هي محافظة على الإنسانية العربية وعلى المستقبل العربي.
#سالم_جبران (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
نهاية الطاغية..تحذير لبقية الطغاة!
-
هروب الأدمغة من العالم العربي
-
حول الفساد في العالم العربي: السمكة تفسد من الرأس!
-
أنظمة البطش والتخلف واللصوصية-مسؤولة عن فقر الشعوب العربية!
-
الأسد -معتدل- و-حضاري- مع أولمرت فلماذا هو بلطجي بالتعامل مع
...
-
حزب العمل الإسرائيلي أزمة قيادة..وأزمة طريق!
-
ابتهجوا يا عرب : اللغة العربية ألا تواجه خطر الانقراض!
-
مؤتمر إنكار المحرقة اليهودية-في إيران هل يخدم، حقاً، قضية فل
...
-
!كارثة التخلف الاقتصادي الأساس للتطرف الديني!
-
المتعصبون المتطرفون فقط-يخافون من الحوار والتفاعل
-
البيان الختامي للإتحاد العام للأدباء مثل بيان ختامي لوزراء ا
...
-
الدفاع عن سيادة لبنان الديمقراطي دفاع عن كل المستقبل العربي
-
لمواجهة قوى التطرف الديني والاستبداد
-
لا قيمة للإنسان وحياة الإنسان
-
ربيع الثورة يعم أمريكا اللاتينية
-
-أدولف ليبرمان يدعو إلى ..تنظيف- إسرائيل من العرب
-
تقول إنك قومي ماذا تقصد؟
-
لماذا يقرر كل متطرف متخلف أنه إمام فينا
-
المهاجرن العرب إلى الغرب.. غيتوات مغلقة..أم شركاء في المجتمع
...
-
البطل غير قابل للتدجين
المزيد.....
-
أمريكا تكشف معلومات جديدة عن الضربة الصاروخية الروسية على دن
...
-
-سقوط مباشر-..-حزب الله- يعرض مشاهد استهدافه مقرا لقيادة لوا
...
-
-الغارديان-: استخدام صواريخ -ستورم شادو- لضرب العمق الروسي ل
...
-
صاروخ أوريشنيك.. رد روسي على التصعيد
-
هكذا تبدو غزة.. إما دمارٌ ودماء.. وإما طوابير من أجل ربطة خ
...
-
بيب غوارديولا يُجدّد عقده مع مانشستر سيتي لعامين حتى 2027
-
مصدر طبي: الغارات الإسرائيلية على غزة أودت بحياة 90 شخصا منذ
...
-
الولايات المتحدة.. السيناتور غايتز ينسحب من الترشح لمنصب الم
...
-
البنتاغون: لا نسعى إلى صراع واسع مع روسيا
-
قديروف: بعد استخدام -أوريشنيك- سيبدأ الغرب في التلميح إلى ال
...
المزيد.....
-
المسألة الإسرائيلية كمسألة عربية
/ ياسين الحاج صالح
-
قيم الحرية والتعددية في الشرق العربي
/ رائد قاسم
-
اللّاحرّية: العرب كبروليتاريا سياسية مثلّثة التبعية
/ ياسين الحاج صالح
-
جدل ألوطنية والشيوعية في العراق
/ لبيب سلطان
-
حل الدولتين..بحث في القوى والمصالح المانعة والممانعة
/ لبيب سلطان
-
موقع الماركسية والماركسيين العرب اليوم حوار نقدي
/ لبيب سلطان
-
الاغتراب في الثقافة العربية المعاصرة : قراءة في المظاهر الثق
...
/ علي أسعد وطفة
-
في نقد العقلية العربية
/ علي أسعد وطفة
-
نظام الانفعالات وتاريخية الأفكار
/ ياسين الحاج صالح
-
في العنف: نظرات في أوجه العنف وأشكاله في سورية خلال عقد
/ ياسين الحاج صالح
المزيد.....
|