أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - الثورة الإدراكية: قفزة الإنسان العاقل نحو السيادة على الأرض














المزيد.....


الثورة الإدراكية: قفزة الإنسان العاقل نحو السيادة على الأرض


بهجت العبيدي البيبة

الحوار المتمدن-العدد: 8207 - 2024 / 12 / 30 - 16:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


في كتابه الشهير والغاية في الأهمية عن تاريخ الجنس البشري، أبدع يوفال نوح هراري في تسليط الضوء على لحظة فارقة في مسيرة الإنسان العاقل، وهي الثورة الإدراكية، التي وقعت قبل نحو سبعين ألف عام. كانت تلك اللحظة بداية لتحول جذري في قدرات الإنسان ومكانته، حيث انطلق من كائن محدود الإمكانيات، يعيش وفق قوانين الطبيعة، ليصبح سيدها ومهندس حضارته. لقد شكلت الثورة الإدراكية نقطة انعطاف، قلبت الموازين، وجعلت من الإنسان العاقل محور التاريخ ومبتكر معانيه.

قبل هذه الثورة الكبرى، كان الإنسان العاقل يعيش حياة بسيطة لا تختلف كثيرًا عن حياة نظرائه من النياندرتال أو إنسان دينيسوفا. كانت مجموعاته البشرية صغيرة ومحدودة، تتنقل بين أماكن الصيد وجمع الثمار، دون أدوات متطورة تميزها أو نظام اجتماعي معقد يحكمها. لقد كانت لغته حينها لغة بدائية، تقتصر على إيصال رسائل مباشرة لتحذير من خطر أو توجيه نحو فريسة، ما جعل التعاون الواسع مستحيلًا، وأبقى تطور الأدوات والفنون والثقافة في حالة جمود. لم يكن الإنسان العاقل في تلك الحقبة إلا كائنًا يعيش ضمن الطبيعة، خاضعًا لقوانينها مثل بقية الكائنات.

لكن شيئًا ما تغير فجأة، كما يوضح هراري، فقد شهد دماغ الإنسان تحولات جينية أطلقت شرارة ثورة إدراكية غيرت مجرى التاريخ. فلقد ظهرت قدرة جديدة على التفكير الرمزي وتطورت اللغة لتعبر عن ما هو أبعد من الاحتياجات اليومية. هنا بدأ الإنسان العاقل في صياغة الأفكار والمفاهيم المشتركة، التي كانت بمثابة اللبنات الأولى للأساطير والأديان والقصص، مما أتاح له بناء مجتمعات مترابطة بأعداد أكبر من ذي قبل.

التطور اللغوي، كما يشير هراري، كان المفتاح الحقيقي لهذه الثورة. لقد تجاوز الإنسان العاقل حدود التواصل المباشر، واستطاع لأول مرة أن ينقل معتقدات وأفكارًا أعطت للحياة معنى أكبر، وشكلت أساسًا للتعاون واسع النطاق. لم يكن تفوقه على الكائنات الأخرى بسبب قوته الجسدية أو ذكائه الفردي، بل بفضل قدرته على بناء شبكات اجتماعية مرنة قائمة على مفاهيم خيالية مشتركة.

مع هذا التحول، تغيرت حياة الإنسان كليًا. أصبح قادرًا على تخيل عوالم غير موجودة، وابتكار قصص وأساطير توحد المجموعات البشرية حول رؤى وأهداف موحدة. هذه القدرة على التخيل كانت أكثر من مجرد تسلية؛ كانت وسيلة فعالة لتنظيم المجتمعات، وتطوير التعاون، وبناء الهياكل الاجتماعية التي قادت البشرية نحو الحضارة.

إن آثار هذه الثورة امتدت إلى جميع مناحي الحياة. فقد أصبحت الأدوات أكثر تطورًا، وظهرت الفنون والدين والتجارة. كما أن البشر بدأوا في تخزين معارفهم خارج أذهانهم، بداية في القصص والأساطير، ولاحقًا في النصوص المكتوبة، ما مهد الطريق لتراكم معرفي هائل عبر الأجيال. لقد انطلق الإنسان من قيود الطبيعة إلى إعادة تشكيلها، وانتشر في جميع أنحاء الأرض بفضل مرونته المعرفية وإبداعه.

إن التغيير الذي أحدثته الثورة الإدراكية كان عميقًا لدرجة أن الإنسان قبلها يبدو كائنًا مختلفًا تمامًا. لقد قيدته البيئة قبل ذلك، وحكمته قوانينها، ولكنه بعدها استطاع السيطرة عليها. إن الأدوات التي كانت بدائية وغير متطورة أصبحت، بعد هذه الثورة، معقدة ومبتكرة، والروابط العائلية الصغيرة تطورت إلى مجتمعات كبيرة ومتشابكة.

ويؤكد هراري أن هذا التحول ليس مجرد لحظة في التاريخ، بل هو الأساس الذي قامت عليه كل الإنجازات البشرية اللاحقة. من الدين إلى الفلسفة، ومن العلم إلى بناء الدول، لقد كانت الثورة الإدراكية هي المحرك الذي جعل كل هذا ممكنًا. حيث مكنت الإنسان من تخيل المستقبل، وابتكار قصص موحدة، وبناء مؤسسات اجتماعية وتنظيمية معقدة.

واليوم، عندما ننظر إلى الحاضر المليء بالثورات التكنولوجية، يمكننا أن نتأمل إرث تلك الثورة الأولى التي بدأت بحلم بسيط وامتدت لتصوغ مصير البشرية. من أولى الأساطير التي رويت حول النار والآلهة إلى غزو الفضاء، تظل القدرة على التعاون والتخيل هي جوهر الإنسان. الثورة الإدراكية ليست مجرد ذكرى من الماضي، بل هي مرآة تعكس إمكانياتنا، ودليل على أن أعظم إنجازاتنا تبدأ دائمًا بفكرة.



#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- حوار حول مستقبل سوريا: بين التفاؤل والتشاؤم
- محمد صلاح: رمز سلام يتحدى التعصب
- الحروف الفينيقيّة: الثورة الصامتة التي غيّرت مجرى التاريخ
- الرشدية اللاتينية: بذور النهضة الأوروبية وخسارة العالم الإسل ...
- التنوير العربي: رحلة متواصلة نحو العقلانية والعلم
- العقل السحري بين الشرق والغرب: تأملات في عقول الجماهير والمد ...
- ألمانيا في محنة: بين جراح الإرهاب وصوت الضمير
- إعمال العقل في النصوص الدينية: بين نور الفكر وظلام الجمود
- مصر والجائزة الكبرى في مخطط الشرق الأوسط الجديد
- اللغة العربية: بين عظمة الإرث وتحديات العصر
- قراءة في خريطة الصراعات العالمية والإقليمية: مستقبل العرب وم ...
- العقل النقدي بين “حرية العقل” وتحقيق “دويتشه فيله”: معركة ال ...
- الذكاء الاصطناعي: شريك الإنسانية في غزو المستقبل واستكشاف عو ...
- الفوضى الخلاقة: معارك عربية بين الانهيار والصمود
- في الوفاء نكتب: قيمة إنسانية لا تموت
- التاريخ بين الحقيقة والتحريف: دعوة لدراسته بمنهج علمي موضوعي
- الحب.. بوابة العروج إلى السماء
- حرية العقل وبوصلة الفكر: التعليم في مواجهة الفوضى الكبرى
- قراءة في قرارات القيادة العامة السورية: رؤية شاملة لمستقبل ج ...
- سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات ومطامع


المزيد.....




- السيد الحكيم: الأمة الإسلامية تمر بمنعطف حساس
- شرطة الاحتلال تقتحم حي سويح ببلدة سلوان جنوب المسجد الاقصى ا ...
- “ضحك طفلك وابسطه الان” تردد قناة طيور الجنة الجديد على الأقم ...
- الإدارة السورية المؤقتة تلغي مواد تعليمية لا تناسب -الشريعة- ...
- الاحتلال يداهم مدنا بالضفة ويؤمن اقتحام المستوطنين شمال سلفي ...
- السعودية تدين -الاعتداءات الغاشمة- على حرمة المسجد الأقصى
- أنا البندورة الحمراء ????.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 ...
- بعد التحديث الجديد للقناة.. تردد طيور الجنة على النايل سات و ...
- صــار عنـا بيبـي صغيــر.. حـدث تردد قناة طيور الجنة Toyor Al ...
- حملة لمنع الاحتفال بالأعياد غير الدينية في ليبيا


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - بهجت العبيدي البيبة - الثورة الإدراكية: قفزة الإنسان العاقل نحو السيادة على الأرض