|
تطوُّرُ علمِ المثلَّثاتِ (Trigonometry) في الرِّياضياتِ عبرَ العُصورِ: من حضارةِ بابلَ إلى العصرِ الحاضرِ
محمود كلّم
(Mahmoud Kallam)
الحوار المتمدن-العدد: 8208 - 2024 / 12 / 31 - 00:14
المحور:
التربية والتعليم والبحث العلمي
يُعَدُّ علمُ المثلَّثاتِ في الرِّياضياتِ من أقدمِ وأهمِّ الفُروعِ الرِّياضيَّةِ التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بمجالاتٍ عديدةٍ، مثلَ الهندسةِ والفلكِ. لقد ساهمتْ العديدُ من الحضاراتِ القديمةِ في تطويرِ هذا العلمِ، بدءاً من المصريينَ القدماءِ، ووصولاً إلى العلماءِ المسلمينَ في العصرِ الذهبيِّ. ومن بينِ هذه الحضاراتِ، أدت حضارةُ بابلَ دوراً محورياً في وضعِ الأُسُسِ الأولى لعلمِ المثلَّثاتِ، حيثُ كانتِ المثلَّثاتُ جُزءاً أساسياً في فَهمِهِم الفلكيِّ والحساباتِ الرِّياضيَّةِ. على مرِّ العُصورِ، تطوَّرَ هذا العلمُ بفضلِ إسهاماتِهِم وإسهاماتِ الحضاراتِ الأخرى، ليُصبحَ اليومَ جُزءاً لا يتجزَّأُ من العلومِ الحديثةِ.
المثلثاتُ في العُصورِ القديمةِ: حضارةُ بابلَ
تُعتبَرُ حضارةُ بابلَ من أقدمِ الحضاراتِ التي اهتمَّت بدراسةِ الأجرامِ السماويَّةِ، ما دفعَهُم إلى تطويرِ تقنياتٍ رياضيَّةٍ مرتبطةٍ بالمثلَّثاتِ، على الرغمِ من أنَّهم لم يُعرَفوا بعلمِ المثلَّثاتِ بالشَّكلِ الذي نعرِفُهُ اليومَ. كانَ البابليُّونَ يستخدمونَ المثلَّثاتِ في حساباتِهِم الفلكيَّةِ والرِّياضيَّةِ، ولا سيَّما في قياسِ الزَّوايا والمسافاتِ بينَ النُّجومِ والكواكبِ. تعودُ أُولى المكتشفاتِ الرِّياضيَّةِ المُثلَّثيَّةِ إلى حوالي 1900 قبلَ الميلادِ في بابلَ، حيثُ استخدمَ البابليُّونَ نظاماً عددياً قائماً على السِّتِّينَ (نظامِ السِّتِّينيَّةِ)، والذي ما زِلْنا نَستخدمُهُ اليومَ في قياسِ الزَّوايا (أي تقسيمِ الدَّائرةِ إلى 360 درجةً، وكلِّ درجةٍ إلى 60 دقيقةً، وكلِّ دقيقةٍ إلى 60 ثانيةً).
كانَ البابليُّونَ يعتمدونَ على هذه المبادئِ في حساباتِهِم الفلكيَّةِ، حيثُ استخدموا جداولَ مبكرةً لحسابِ الزَّوايا والتقديراتِ الدقيقةِ لحركاتِ الكواكبِ. تُشيرُ الدِّراساتُ الحديثةُ إلى أنَّ البابليينَ كانوا يمتلكونَ معرفةً شبهَ مُتقدِّمةٍ حولَ علاقةِ الجيبِ (Sin) بالزَّوايا، وهو ما يُعتبَرُ حجرَ الزاويةِ لعلمِ المثلَّثاتِ في العصرِ الحديثِ. ورغمَ أنَّ البابليينَ لم يستخدموا مفهومَ "الجيبِ Sin" كما نعرِفُهُ اليومَ، إلَّا أنَّهم طوَّروا تقنياتٍ لتقديرِ المسافاتِ والأبعادِ التي كانت مبنيَّةً على حساباتٍ مُثلَّثيَّةٍ.
التطوُّرُ في الحضارةِ الإسلاميَّةِ
في العصرِ الذهبيِّ للإسلامِ، الذي استمرَّ من القرنِ الثامنِ إلى القرنِ الرابعَ عشرَ، شهدَ علمُ المثلَّثاتِ تطوُّراً هائلاً بفضلِ العديدِ من العلماءِ المسلمينَ الذينَ بَنَوا على الأُسُسِ التي وضعتها الحضاراتُ القديمةُ. قامَ الخوارزميُّ بتطويرِ الجداولِ الرِّياضيَّةِ بشكلٍ دقيقٍ، وأدخلَ تحسيناتٍ على جداولِ الجيبِ التي كانت في الأساسِ مُستخدمةً في الفلكِ. وقد ساعدت هذه الجداولُ في حسابِ المسافاتِ بينَ النُّجومِ والكواكبِ وحسابِ المواقعِ في الفضاءِ. من ناحيةٍ أُخرى، ساهمَ ابنُ الهيثمِ في تطويرِ الفهمِ الهندسيِّ للمثلَّثاتِ من خلالِ أعمالِهِ في البصرياتِ، حيثُ قامَ بدراسةِ الانكسارِ والانْعكاسِ باستخدامِ المبادئِ الهندسيَّةِ المُثلَّثيَّةِ. هذه الدراساتُ كانَ لها تأثيرٌ كبيرٌ على تطوُّرِ علمِ المثلَّثاتِ، خاصَّةً فيما يتعلَّقُ بحسابِ الزَّوايا والمسافاتِ في الظَّواهرِ البصريَّةِ.
النَّهضةُ الأوروبيَّةُ والعصرُ الحديثُ
معَ بدايةِ القرنِ السَّابعَ عشرَ، شهدَ علمُ المثلَّثاتِ تطوُّراً كبيراً في أوروبا، حيثُ قامَ علماءُ مثلُ رينيه ديكارت وإبراهيم بنِ سينا (الذي أثَّرَ في تطوُّرِ الفلكِ في أوروبا) بتطويرِ الأُسُسِ الرِّياضيَّةِ التي سمحت بالانتقالِ من الهندسةِ الإقليديَّةِ إلى الهندسةِ التحليليَّةِ. كانَ هذا التَّحوُّلُ أساساً في توسيعِ تطبيقاتِ المثلَّثاتِ إلى مجالاتٍ جديدةٍ، مثلَ الفضاءِ والكيمياءِ والفيزياءِ. في القرنِ التَّاسعَ عشرَ، أصبحَ علمُ المثلَّثاتِ جُزءاً أساسياً من علومِ الفضاءِ والفيزياءِ، معَ تطويرِ تقنياتٍ مثلَ تحديدِ المواقعِ باستخدامِ نظامِ تحديدِ المواقعِ العالميِّ (GPS). اليومَ، يتمُّ تطبيقُ المثلَّثاتِ في العديدِ من المجالاتِ مثلَ الفضاءِ والهندسةِ والفلكِ وتقنياتِ الاتِّصالِ والطِّبِّ.
لقدْ مرَّ علمُ المثلَّثاتِ بتطوُّرٍ هائلٍ عبرَ العُصورِ، بدءاً من الحضاراتِ القديمةِ مثلَ بابلَ، ووصولاً إلى العصرِ الحديثِ. كانَ البابليُّونَ من أوائلِ مَنِ استخدموا المبادئَ المُثلَّثيَّةَ في حساباتِهِم الفلكيَّةِ، وهو ما مَهَّدَ الطَّريقَ للعديدِ من الاكتشافاتِ الرِّياضيَّةِ والفلكيَّةِ التي تلَت ذلك. اليومَ، يُعتبَرُ علمُ المثلَّثاتِ جُزءاً أساسياً من الرِّياضيَّاتِ الحديثةِ، ولهُ تطبيقاتٌ واسعةٌ في العديدِ من العلومِ والتِّقنياتِ. إنَّ الفهمَ العميقَ لهذا العلمِ اليومَ يعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على الأُسُسِ التي وضعتها الحضاراتُ القديمةُ، خاصَّةً حضارةَ بابلَ، في مراحِلِها المُبكِّرةِ. لقد شكَّلَ علمُ المثلَّثاتِ رحلةً ممتدَّةً، بدأت من الأُسُسِ التي وضعتها الحضاراتُ القديمةُ، مثلَ حضارةِ بابلَ، مروراً بإسهاماتِ العلماءِ المسلمينَ في العصرِ الذهبيِّ، ووصولاً إلى التطوُّراتِ المذهلةِ في العصرِ الحديثِ. يُبرِزُ هذا العلمُ أهميةَ التراكمِ المعرفيِّ عبرَ التاريخِ، ودورَهُ المحوريَّ في تطوُّرِ العلومِ والتقنياتِ، ليظلَّ ركيزةً أساسيَّةً في فَهمِ العالَمِ المحيطِ بنا. .....................
مراجع باللغة العربية:
1. كتاب "تاريخ الرياضيات: من العصور القديمة إلى العصر الحديث"
المؤلف: د. مصطفى محمود
المصدر: دار الشروق
التاريخ: 1990
الدولة: مصر
2. "تاريخ الفلك وعلاقته بالرياضيات"
المؤلف: د. أحمد زكريا الشويخ
المصدر: دار الفكر العربي
التاريخ: 2005
الدولة: مصر
مراجع باللغة الإنجليزية:
1. "A History of Mathematics"
المؤلف: Carl B. Boyer
المصدر: Wiley
التاريخ: 1968
الدولة: الولايات المتحدة الأمريكية
2. "Mathematics and its History"
المؤلف: John Stillwell
المصدر: Springer
التاريخ: 2002
الدولة: ألمانيا
3. "The Babylonian Mathematics"
المؤلف: Jens Høyrup
المصدر: Springer
التاريخ: 2002
الدولة: ألمانيا
مراجع باللغة الألمانية:
1. "Mathematik der Babylonier"
المؤلف: Otto Neugebauer
المصدر: Springer Verlag
التاريخ: 1957
الدولة: ألمانيا
2. "Die Geschichte der Mathematik"
المؤلف: Jöran Friberg
المصدر: Springer Verlag
التاريخ: 2011
الدولة: ألمانيا
#محمود_كلّم (هاشتاغ)
Mahmoud_Kallam#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
أساسياتُ الرياضيات: مفتاحُ التفوُّقِ الأكاديميِّ
-
أسبابُ ضعفِ تعلمِ الرياضياتِ لدى الطلابِ
-
محمود سعيد: غيابُ الصقرِ الذي أسكتت صوتهُ أوجاعُ الأرضِ!
-
اليمن ونزار بنات: رمزُ العزَّةِ والشَّجاعةِ!
-
دانيال مانن: يرحلُ النورُ ويظلُّ الأثرُ!
-
طائرُ السنونو: دموعُ الذكرياتِ على أرصفةِ المحطاتِ!
-
أنيس صايغ: الشُّعلةُ التي لا تنطفِئُ !
-
يا طائر السُّنُونُو، في غيابك يغيبُ الأُفُق!
-
طائرُ السنونو: حينَ يَخذُلُنا الأُفُقُ
-
نعمات قدورة: حينَ يَكتُبُ الحُزنُ تاريخاً!
-
غزة: ملحمةُ الصَّبرِ والأَلمِ
-
غزة.. صرخةٌ في وجهِ الخذلانِ!
-
حين يُغتالُ الوفاءُ.. وخذلانٌ لا يُغتَفَرُ
-
دورُ الرياضيات في التخطيطِ العسكريِّ لدى المقاومةِ الفلسطيني
...
-
تاريخُ علمِ الرياضياتِ القديمِ وتطوراتهِ عبرَ العصورِ
-
دورُ الرياضياتِ في تنميةِ المهاراتِ وصناعةِ المستقبلِ
-
عز الدين القسَّام: ملحمةُ الشَّجاعةِ في وجهِ الخُذلانِ!
-
غزّة بين جحيمِ ترامب وخذلانِ الأُمّة!
-
خيانة الأمانة: غدرُ الأتراكِ بفلسطين!
-
نزار بنات: شهيدُ الكلمةِ في لحظةِ غدرٍ!
المزيد.....
-
هل جنبت متانة هيكل شاحنة تسلا فندق ترامب كارثة وشيكة؟
-
جندي بالقوات الخاصة الأمريكية.. كشف هوية مستأجر سيارة تسلا ا
...
-
تفنيد تصريح وزير تعليم الشرع مقابل قراره بشأن تعديلات المناه
...
-
سلمان الخالدي في قبضة الكويت بمساعدة العراق
-
-زنوبيا شخصية خيالية- و-حذف الوحدة المتعلقة بأصل الحياة-، ف
...
-
تفاصيل انفجار سيارة تسلا أمام فندق ترامب الدولي.. هل له علاق
...
-
بريطانيا تستقبل العام الجديد بفيضانات
-
مصر.. هيئة الدواء توجه بسحب أحد الأنواع فورا من الأسواق
-
الحوثي: مؤسف تورط السلطة الفلسطينية في سفك الدم الفلسطيني
-
سلوفاكيا.. الحكومة تعتزم مناقشة خيارات الرد على وقف ترانزيت
...
المزيد.....
-
اللغة والطبقة والانتماء الاجتماعي: رؤية نقديَّة في طروحات با
...
/ علي أسعد وطفة
-
خطوات البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
إصلاح وتطوير وزارة التربية خطوة للارتقاء بمستوى التعليم في ا
...
/ سوسن شاكر مجيد
-
بصدد مسألة مراحل النمو الذهني للطفل
/ مالك ابوعليا
-
التوثيق فى البحث العلمى
/ د/ سامح سعيد عبد العزيز
-
الصعوبات النمطية التعليمية في استيعاب المواد التاريخية والمو
...
/ مالك ابوعليا
-
وسائل دراسة وتشكيل العلاقات الشخصية بين الطلاب
/ مالك ابوعليا
-
مفهوم النشاط التعليمي لأطفال المدارس
/ مالك ابوعليا
-
خصائص المنهجية التقليدية في تشكيل مفهوم الطفل حول العدد
/ مالك ابوعليا
-
مدخل إلى الديدكتيك
/ محمد الفهري
المزيد.....
|