|
اللهُمَّ أعزَّ الحرية بأحد الدالَيْن: الدين أو الدولة!
ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن-العدد: 1788 - 2007 / 1 / 7 - 10:57
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في المجال العربي نظم حكم ضعيفة الشرعية لا تستطيع اتخاذ قرارات صعبة لا مناص منها، في النطاقين السيادي الاستراتيجي والثقافي الديني بصورة خاصة. مفهومٌ أنه كلما كانت القرارات أشد صعوبة توجب أن تكون السلطات أرسخ شرعية حتى تتجاسر على وضعها موضع التنفيذ. لماذا؟ لأن من شأن قرارات صعبة إليه أن تمس بشعبية الحكم أو تثير ضده اعتراضات قوية لا يستطيع تحملها إلا إن كان وطيد الشرعية. وتعني الشرعية في هذا المقام قواعد شكلية عامة تنتظم الحياة السياسية من جهة، ومبادئ أو أهداف تعبر عن مضمون الحياة السياسية ورهاناتها وغاياتها، وتُمتَح من الثقافة الوطنية من جهة أخرى. فللشرعية بعدان: قانوني وشعبي، مؤسسي وقومي (بالمعني العربي للكلمة، المعنى الذي يطل على الثقافة والهوية العربية). و"شعبية" الحاكمين تستند إلى تغليب البعد المضموني أو الوطني في الشرعية على بعدها الشكلي والقانوني. لذلك يزدري الحاكم الشعبوي الإجراءات والقواعد، ويحاول الاتصال بالجمهور من وراء ظهر مؤسسات الحكم وعلى حسابها. فالشعبوية هي "وصال" القائد والجماهير في غفلة عن الدولة وضدها (الوصال اتصال بلا مؤسسات، عشق صوفي...). لكن ثمن الشعبية هذه هو إعلاء شأن الرمزية الثقافية القومية وعدم المساس بها مع حرية مطلقة في المساس بالأفراد الملموسين والمؤسسات العمومية. وفي ظل ضعف شرعيتها المؤسسية والقانونية، تفضل السلطات أن لا تبادر إلى انتهاج سياسات أو صنع قرارات قد تكون إشكالية، بل وتجنح إلى تقوية هذا الركن القوموي الشعبوي لشرعيتها. وفي سياق تطور النظم الشعبوية العربية انفصلت القومية عن الحداثة، وارتدت رمزية جامدة متصلة بالهوية. ووجدت النظم القوموية الشعبوية نفسها مسوقة إلى بناء شرعيتها على تغذية مواقف العداء للأجنبي (الغرب بخاصة، وكحداثة أكثر حتى ما كامبريالية) والالتصاق بالغريزة الدينية. ولعلنا لا نجد نظما عربية تغلب الركن الشكلي للشرعية على ركنها المضموني (هل تفعل سلطة أبو مازن الفلسطينية ذلك؟). لكننا بالتأكيد لا نجد نظما تقف ثابتة على القدمين، القومية والقانونية. الجوهري في شرعية السلطة أنها تغنيها عن الاستناد إلى الرصيد الرمزي الذي تنبني عليه الهوية الوطنية، القومية والدين في البلاد العربية، وتسهل للسياسة كمجال نوعي لعمل السلطة أن تستقل عن الهوية. وبالعكس. يدفع ضعف الشرعية إلى تسييس ذخر الهوية الرمزي (ما يفقد الهوية فاعليتها التوحيدية)، وفي الوقت نفسه إلى الالتزام بالتأويل الأشد محافظة وجمودا للهوية. وهو ما ينبغي أن نستخلص منه منذ الآن أن تحرير الدين والقومية من الاستخدام السياسي النفعي، وضمان استقلال السياسة، يقتضيان أنظمة حكم شرعية. وبالاستناد إلى التمييز بين وجهي الشرعية، الشكل القانوني المؤسس والمضمون القومي الشعبي، لن نتفاجأ حين نتبين أن المشتغلين بالسياسة، أهل الحكم بخاصة، ينكرون أكثر من غيرهم اختصاص مجالهم بمعايير وضوابط ذاتية. فهم يفضلون "الشعبية" و"الوصال" على سياسة مستقلة بنفسها وغير مضمونة النتائج. *** ولا يسع السياسة أن تستقل عن الدين والقومية (بالمعنى العربي...) إن لم تتأسس كقيمة أو يتأسس لها "عالم روحي" خاص بها. إن سياسة أداتية ترتد إلى القوة المحض تنزع بالضرورة إلى الارتباط بعقيدة مقدسة، دينية، مرفوعة فوق المدارك والإرادات البشرية. فوصل الدين بالدولة هو مثل مزج الماء بالزيت، يبقي الدولة أداتية، ويرد الدين إلى محض إيديولوجية مشرعة لحكم القوة. وهذا المركب الأداتي العقيدي هو الثمرة الطبيعية لافتقار السياسة إلى قيمة ذاتية أو "دين ذاتي". وبالمثل، لا يمكن للسياسة المرتبطة بعقيدة خارجة عنها إلا أن تكون أداتية، بلا روح ذاتية، انعكاسا محضا للقوة وعلاقات القوة. هذا بديهي: بلا روح خاصة بها، روح سياسية، كيف للسياسة أن تقوم وتستقل وتقول ها أنذا؟ ستفضل بداهة أن تتحدث عن أصلها وفصلها، عن أبوها الدين وأمها "الأمة" ورسالتها الخالدة. إن الدولة العربية الراهنة تركيب ميكانيكي من جهاز ردعي مهول ومن دين خارجي يضفي عليه شرعية قومية أو "هوياتية". وافتقار الدولة إلى روح ذاتية مدنية وعقلانية لا يجد تعويضه إلا في انتحالها روحا دينية. لكن المضمون الواقعي لذلك هو، في كل الحالات دون استثناء واحد، تحويل الدين منظمة سلطة إضافية. والحال إن السياسة العربية الفاقدة للروح، والتي تفضل أن تبقى "حرة" بلا روح تضمن ذاتيتها، تمنع ولادة أرواح جديدة، وتلوذ بالروح الوحيدة التي لا تستطيع خنقها: الدين. هذه الصنف من حرية السلطة المطلقة قامع لكل حرية. وإذا يُصفِّح نفسه بالدين فإنه يزداد "حرية" وإطلاقا، ولا يقل. وهو ما يرتد على الروح الدينية ذاتها جفافا ويباسا و..فقها. وخلافا لما قد يعتقد الإسلاميون فإن هناك طرفا واحدا يستفيد دوما من الوصل بين الدين والدولة: القائمون على الدولة. على أن الفصل بين الدين والدولة لا يضمن من تلقائه ذاتية السياسية، وإن كان شرطا لها. بل إن السياسة الأداتية التي يتمخض عنها الفصل قد تتلهف إلى جعل العلمانية ذاتها روحا خارجية لها، روحا منفصلة عن حرية التفكير والاعتقاد والمساواة السياسية والقانونية بين أفراد من أصول دينية متعددة، علمانية أداتية فحسب. ومثل الوصل بين الدين والدولة، لا يضمن الفصل بينهما بحد ذاته تقييد السياسة الأداتية. فالدولة القهرية (برهان غليون) لا تجد بأسا في اعتناق العلمانية عقيدة، إن ضمنت السلامة. فهي لا تعتنق الدين بقلب سليم، بل فقط تحصينا لسلطتها، أي تعاملا أداتيا. وهي كذلك تنصر الدين كرمز وشعار كي تتمكن من سحق أي اعتراض عليها من الجمهور، مؤمنا كان أم غير مؤمن. يبقى أن استقلال الدولة عن الدين ضروري كي تنضبط الدولة بمبادئ بشرية. ويتعين إنجاز هذه العملية، العلمنة، في الذهن أولا كي يكون ممكنا إنجازها في الواقع. أعني أنه ينبغي أن تكون أساسا منطقيا للتفكير من أجل أن تكون نظاما فعليا للحياة السياسية. إذ لا علمانية بلا علمانيين حقيقيين. *** هل في ما سبق ما يجيب على سؤال: من أين تأتي الشرعية؟ نرى أن نعم. لكن يفيد أن نقول أولا أن الشرعية لا تأتي من المجال العسكري. ذلك أن تحقيق نصر حاسم على الأعداء، وهم من هم، أمر غير متصور في الأفق المنظور (نستطيع أن ننغص أمن العدو في فلسطين بثمن تدمير مجتمعنا، وأن نحرق الأرض تحته في العراق بثمن أن يكون المجتمع العراقي هو الحطب). ولو كان النصر العسكري متاحا لانتفت الحاجة أصلا إلى اتخاذ قرارات صعبة، بعضها على الأقل. لا تأتي الشرعية كذلك من "صبغة دينية"، كما قد نستخلص من قراءة ابن خلدون. هذا أيضا ليس متاحا، بل إن إعادة تنظيم الحياة الدينية هو أحد القرارات الكبرى الصعبة التي يحتاج العرب المعاصرون إليها. إلى ذلك لا يمنح نصر عسكري أو هداية دينية إلا روحا خارجية لسياسة تبقى مادية وأداتية في جوهرها. من أين إذن؟ من حرية التفكير، من حصانة الفرد البشري أمام سلطتي الدين والدولة. من بناء فكرة الشرعية ومبدئها في الروح أولا. هذه بمجملها قضايا تخرج عن النطاق السياسي إلى النطاق التأسيسي. ومن الواضح أن مشكلة الشرعية لا تؤرق نظم الحكم القائمة، كما أن حلها ليس رهن بها. ولا هو حتى مشكلة سياسية تحل بآليات السياسة وحدها.
#ياسين_الحاج_صالح (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عمقان لإسرائيل وضحالات متعددة لنا
-
المعارضة الديمقراطية السورية في أزمة!
-
معضلة حزب الله ومحنة لبنان
-
حنين إلى الوطنية القبلية في حمى الدكتاتور
-
في أصل السخط العربي وفصله
-
تعاقب أطوار ثلاث للسياسة والثقافة العربية...
-
كل التلفزيون للسلطة، ولا سلطة للتلفزيون!
-
أزمة الهيمنة وعسر التغيير السياسي العربي
-
في -نقد السياسة-: من الإصلاح والتغيير إلى العمل الاجتماعي
-
ديمقراطية أكثرية، علمانية فوقية، ديمقراطية توافقية؟
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الخرائط العقلية والسياسية أم الخرائط الجغرافية هي التي ينبغي
...
-
الإنترنت وحال العالم الافتراضي في سوريا
-
في أصل -الممانعة- ونظامها وإيديولوجيتها ..وازدواج وجهها
-
في أن الخيانة نتاج وظيفة تخوينية لنظام ثقافي سياسي مغلق
-
في مديح الخيانة
-
نحو حل غير نظامي للمشكلة الإسرائيلية!
-
-غرابة مقلقة- للإرهاب في سورية!
-
في انتظام الطوائف وتبعثر الأمة
-
في أصول -ثقافة الهزيمة-
المزيد.....
-
قائد الثورة الاسلامية يستقبل حشدا من التعبويين اليوم الاثنين
...
-
144 مستعمرا يقتحمون المسجد الأقصى
-
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية: مذكرة اعتقال نتنياهو بارقة
...
-
ثبتها الآن.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 علي كافة الأقم
...
-
عبد الإله بنكيران: الحركة الإسلامية تطلب مُلْكَ أبيها!
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الأراضي
...
-
المقاومة الإسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
المقاومة الاسلامية العراقية تهاجم هدفا حيويا في جنوب الاراضي
...
-
ماذا نعرف عن الحاخام اليهودي الذي عُثر على جثته في الإمارات
...
-
الاتحاد المسيحي الديمقراطي: لن نؤيد القرار حول تقديم صواريخ
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|