|
تهافت اقتصادنا- 16
نعيم مرواني
الحوار المتمدن-العدد: 8206 - 2024 / 12 / 29 - 22:47
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
يقسم المؤلف النظام الاجتماعي للاسلام الى جانبين: "جانب رئيسي ثابت يتصل بمعالجة الحاجات الاساسية الثابتة في حياة الانسان كحاجته الى الضمان المعيشي والتوالد والأمن، ومااليها في الحاجات التي عولجت في أحكام توزيع الثروة، واحكام الزواج والطلاق، واحكام الحدود والقصاص، ونحوها من الاحكام المقررة في الكتاب والسنة." وجانب آخر "مفتوح للتغيير وفقا للمصالح والحاجات المستجدة، وهي الجوانب التي سمح فيها الاسلام لولي الأمر ان يجتهد فيها وفقا للمصلحة والحاجة، على ضوء الجانب الثابت من النظام. "كما زود الجانب الثابت من النظام بقواعد تشريعية ثابتة في صيغها القانونية غير انها تتكيف في تطبيقها بالظروف والملابسات وبذلك تحدد الاسلوب الصحيح لاشباع الحاجات الثابتة التي تتنوع اساليب اشباعها بالرغم من ثباتها وذلك كقاعدة نفي الضرر في الاسلام ونفي الحرج في الدين." ونقول فيما ذكر اعلاه، ليس ثمة اجماع بين فقهاء الاسلام على ماورد في الكتاب والسنة لذا لايمكن اعتماد الاحكام المقررة في الكتاب والسنة أساسا لنظام اقتصادي معاصر. بعض تلك الاحكام قال عنها الدكتور محمد شحرور انها سياسات مرحلية تبناها الرسول (ص) والخلفاء الراشدون ثم تخلوا عنها لاحقا عندما انتفت الحاجة اليها والامثلة كثيرة في هذا الصدد. ولان بعض ماورد في السنة النبوية من أحكام عدت سياسات مرحلية استندت الى نصوص دينية غير ملزمة، منع بعض الخلفاء الراشدين تطبيقات وممارسات أباحها الرسول (ص) في حياته. وحتى الرسول (ص) نفسه أجاز ممارسة بعض العادات ثم عاد ومنعها. اذن فهذه الزئبقية في رسم صورة تنظيرية للنظام الاقتصادي -المبشر به- تجعل تطبيقه شبه مستحيل. وهذه المائية بالطرح تُصًعّب على القارئ رسم صورة او تصور ذهني ولو تقريبي للنظام الاقتصادي الذي يدعي المؤلف انه يضع القواعد العامة له. فكلما فشل في ايجاد حل لمسالة أو جزئية في النشاط الاقتصادي يرميها في ساحة ولي الأمر (أي الولي الفقيه) ويتركها لاجتهاده وقد كنا اشرنا لتلك الحالة في مقال سابق. المؤلف يرسم الخطوط العامة بناء على تشريعات اسلامية اجتهادية مرحلية اما دقائق تفاصيل التطبيق فيتركها الى إجتهادات ولي الأمر. في صفحة 341 يؤكد المؤلف أن الاسلام ينكر الصلة بين النظام الاجتماعي واشكال الانتاج ( كما يجادل الماركسيون) والاسلام، يقول المؤلف "دلل على ان الانسانية تستطيع ان تكيف وجودها الاجتماعي تكييفا انقلابيا جديدا، بينما يظل اسلوبها في الانتاج كما هو دون تغيير." ويسترسل المؤلف قائلا: " فان الواقع الاسلامي الذي عاشته الانسانية لحظة قصيرة من عمر الزمن المديد واحدث فيها اروع تطوير شهدته الاسرة البشرية . . لم يكن هذا الواقع الانقلابي الذي خلق أمة وأقام حضارة وعدل من سير التاريخ وليد اسلوب جديد في الانتاج او تغيير في اشكاله وقواه، ولم يكن من الممكن في منطق التفسير الاشتراكي للتاريخ – الذي يربط النظام الاجتماعي بوسائل الانتاج- أن يوجد هذا الانقلاب الشامل الذي تدفق الى جوانب الحياة دون ان يسبقه اي تحول اساسي في ظروف الانتاج." الواقع الانقلابي الذي خلق أمة وأقام حضارة اذاما نظرنا الى الاسلام من زاوية اقتصادية فهو انما جاء للجزيرة العربية في وقت ازدادت فيه الفجوة بين تجار قريش من جهة وصعاليكها وعبيدها من جهة ثانية ولعل اقبال العبيد والفقراء والمسحوقين زرافات ووحدانا على الدين الاشتراكي الجديد يجسد حتمية ثورة الجياع حسب فكرة الصراع الطبقي عند ماركس التي لابد من حدوثها كلما اتسعت الفجوة بين العمال والطبقة الحاكمة، أي ان ولادة الاسلام كانت امتدادا للصراع التاريخي الدائم بين الغني والفقير. ثم ان الحضارة الاسلامية التي يتغنى بها المؤلف كان أساسها الظلم والاضطهاد والقتل الذي مارسه خلفاء بني العباس -الذين بلغت الحضارة الاسلامية اوجها في عهدهم- وهي بذلك لاتختلف عن حضارات وظفت القهر والاضطهاد والاستعباد لنشوئها واستدامتها كالحضارات الاشورية والبابلية والرومانية والفرعونية ...الخ. ولا اظن ان المؤلف يدعونا لتسليم رقابنا الى ولي أمر كهارون الرشيد او ابو العباس السفاح. الحضارة الاسلامية بنيت بحد السيف ورفع رايتها علماء من الامم المحتلة كالفرس والترك والقوقاز والاسبان والامازيغ وغيرهم وكان خلفاء بني العباس ينفقون اموالا طائلة من بيت مال المسلمين على العلماء والشعراء والمداحين والغانيات والجواري، فأي شيء من تلك الحضارة الدارسة يريد المؤلف ان يبني عليه نظاما اقتصاديا عادلا ومعاصرا؟ استطاع الرسول محمد (ص) اقناع فقراء وعبيد الجزيرة العربية على العمل له مقابل اجور آجلة واستطاع بفائض قيمة العمل نشر الاسلام وتوسيع رقعته. وعد المؤمنين بانهم سيتقاضون اجورهم في الآخرة قصورا في جنات تجري من تحتها الانهار وخمر وحليب وعسل ونسوان وصبيان. مَثَّل هذا الوعد القوة الدافعة (Driving force) ، التي هي ركيزة اي نظام اقتصادي او سياسي، فتنافس المسلمون الاوائل على الموت. وعندما ورث خلفاء الرسول أمة كل شعبها جنود مدججون بالايمان والعزيمة قاموا بشن الغزوات على الامم المجاورة (الكفار) وهنا اضاف الخلفاء الراشدون بعدا آخرا للقوة الدافعة تمثل بالاجور العاجلة او الدنيوية، فاباحوا للمؤمنين الغازين سبي نساء الكفار والاستحواذ على املاكهم واراضيهم. فدكت حوافر خيول الغزاة المسلمين مشارق الارض ومغاربها، ولم لا؟ والغازي فائز بالجنة ان قتل وبشتى انواع الغنائم ان نجى. الان لايمكن استعارة او احياء تانك القوتين الدافعتين لان الذين خلفوا الرسول (ص) ليسوا بصدقه والتاريخ اثبت ان كثيرا ممن خلفوا خلفاء الرسول ظلمة وافاكون فتفرق الناس من حولهم وما عاد احد يبذل جهدا مقابل اجر آجل ( قصور بالجنة) لانهم يرون بام اعينهم ان ولاة الامر يحيلون فائض قيمة العمل أموالا طائلة ينفقونها وابنائهم في حيواة باذخة، اذن ماتت القوة الدافعة الاولى. وأما القوة الدافعة الثانية ( الاجر العاجل او الدنيوي المتمثل بنساء واملاك الكفار) فقد تغيرت الاحوال وتطورت الافكار والمفاهيم الانسانية ووضعت القوانين وامتنعت الامم وانتظمت باحلاف عسكرية فصار الغزو وسلب املاك ونساء الكفار من ممارسات الماضي القميئة التي يستحي منها المسلمون المعاصرون قبل غيرهم. اذن لم يبق بالحضارة الاسلامية مايمكن استحضاره كي يكون قوة دافعة لاقامة نظام اقتصادي اسلامي يلائم العصر. الامم المتقدمة تعرف التاريخ على انه مجموعة الاخطاء التي يجب تلافيها، بينما نحن فقد نكون الامة الوحيدة -او من الامم القليلة- التي تفسر التاريخ بوصفه التكامل الذي يجب ان نعود اليه، لذا فنحن لانعيش الحاضر ولانتطلع للمستقبل بقدر مانتطلع لاحياء الماضي، وهذا بحقيقيته هو التعريف المنهجي للرجعية التي يدعونا المؤلف تبنيها. يقول الدكتور محمد شحرور العقلية العربية او الاسلامية عقلية عاجزة عن ابتكار حلول معاصرة لمشاكلها، لانها عقلية قياسية غالبا ماتلجا الى النبش في الموروث الاسلامي علها تجد شيئا يمكن القياس عليه لمعالجة مشكلة معاصرة. في صفحة 341 يقول المؤلف: " وهكذا تحدى الواقع الاسلامي منطق الماركسية التاريخي ... في فكرة المساواة لان الماركسية ترى ان فكرة المساواة من نتاج المجتمع الصناعي الذي يتفتح عن الطبقة التي تحمل لواء المساواة وهي البرجوازية." في الفصل الثاني من المانيفستو الشيوعي بعنوان البروليتاريون والشيوعيون(Proletarians and Communists ) تقول فقرة: "هناك حقائق أبدية، مثل الحرية والعدالة، وما إلى ذلك، مشتركة بين جميع حالات المجتمع، الشيوعية تلغي جميع تلك الحقائق الأبدية، وتلغي جميع الديانات والأخلاق، بدلاً من اعادة صياغتها باسلوب جديد؛ وبالتالي فهي في تضاد مع جميع التجارب التاريخية السابقة." اذن فالشيوعيون لايقولون بان المساواة هي نتاج مرحلة البرجوازية بل يعدونها من الحقائق الابدية التي سبقت ظهورالشيوعية. فلاادري من أي مصدر استقى المؤلف تلك المعلومة. ربما كان هذا متأت من سوء فهم والا فهو اتهام باطل الغاية منه التفاخر بان الاسلام نادي بالمساواة قبل البرجوازية بعشر قرون. وحتى في هذه لم يكن المؤلف مصيبا، ففكرة المساواة سبقت ظهور الاسلام بآلاف السنين. فالاسلام ،رغم سمو مبادئه، لم يأت بمفاهيم جديدة، أنما مثل امتدادا لديانات سماوية سبقته وافكارا انسانية بما فيها المساواة التي اصبحت راهنا ركنا هاما من اركان الاخلاق العالمية، وبالتالي فليس من العدالة ان نسوق المساواة على أنها مبدأ اسلامي صرف، وكأن النظم الاخلاقية والاجتماعية والاقتصادية لشعوب العالم الأخر التي لاتدين بالاسلام تفتقر اليها. لاأعرف بالضبط متى تبنى الانسان المساواة كمبدأ في حياته الاجتماعية لكن بمجرد تصفح سريع للتاريخ الانساني سنرى ان مبدا المساواة سابق لظهور الاسلام. فعلى سبيل المثال، الديانة البوذية رفضت في القرن السادس قبل الميلاد التمييز بين الناس على أساس الفروقات الفردية، وأولت أهمية قصوى لسلوك الفرد. وكانت بشرت بأن كل الناس لديهم القدرة على أن يصبحوا كالإله بسلوكهم، ولهذا فهم يستحقون معاملة متساوية. والمساواة بين الناس احد اهم اعمدة الديانة الزرادشتية (التي ظهرت بالقرن السادس قبل الميلاد كذلك) وكان اتباعها كما المسلمين يؤمنون ان لافضل لاحد على أخر الا بالتقوى. وقبل حوالي 3500 سنة جسد التوراة رؤية طوباوية لعالم من المساواة والعدالة والكرامة الانسانية. وحسب الانجيل فان جميع الناس أبناء الله خلقوا متساوين في الكرامة. وفيما يخص الافكار الوضعية، فان آباء الفلسفة الرواقية (ٍStoicism) في القرن الثالث قبل الميلاد -عرفوا بدعوتهم للحكمة والفضيلة والتماسك في الافراح والتمالك في الاتراح - يرون ان لكل الناس قدرة على التفكير وبالتالي فهم متساوون. وفي هذا قال ماركوس أوريليوس (Marcus Aurelius) بما ان جميع الناس تمتلك عقولا إذن فجميعهم مواطنون متساوون.
تنويه: هذا واحد من سلسلة مقالات نقدية تشخص مكامن الخلل في كتاب "اقتصادنا" لمحمد باقر الصدر. لكي تتكون لديكم صورة مكتملة عن موضوع البحث، أدعوكم، سادتي القراء، لقراءة المقالات السابقة ذات العلاقة.
#نعيم_مرواني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تهافت اقتصادنا 15
-
رسالة الى رئيس مجلس وزراء العراق السيد محمد شياع السوداني
-
غزة تكشف عورة وسائل الاعلام التقليدي
-
تهافت -إقتصادنا- 14
-
تهافت اقتصادنا (13)
-
احجيتا الغايات والمقادير
-
الى رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني: هل أدلك على تجارة
...
-
تهافت -اقتصادنا- (12)
-
لامجال للحريات في ثقافة قبائل الاسلام السياسي
-
تهافت إقتصادنا (11)
-
تهافت اقتصادنا (10)
-
مستقبل مشروع اعادة الخدمة العسكرية الالزامية في العراق
-
السياسات المتوقعة لحكومة محمد شياع السوداني
-
الانسداد السياسي في العراق . . أسبابه وحلوله
-
تهافت -اقتصادنا- (9)
-
تخلفنا عن ركب عالم الحقيقة..فهل سنقود ركب عالم -الحقيقة البد
...
-
تهافت -إقتصادنا- (8)
-
غياب القبس في مقابلات فائق الشيخ علي مع مندوب القبس
-
لم تعد اليد الخفية خفية في تحريك الاقتصاد الحر
-
#خرجنا_لطلب_الاصلاح
المزيد.....
-
صــار عنـا بيبـي صغيــر.. حـدث تردد قناة طيور الجنة Toyor Al
...
-
حملة لمنع الاحتفال بالأعياد غير الدينية في ليبيا
-
مئات المستوطنين يقتحمون الأقصى في سابع أيام عيد الأنوار اليه
...
-
الرئيس الروحي للدروز يكشف سبب منع رتل عسكري من دخول السويداء
...
-
افضل البرامج مع قناة طيور الجنة.. التردد الجديد لطيور الجنه
...
-
الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في سوريا: الحديث عن تسليم -سلا
...
-
فرح ولادك ونزلها من غير تشويش.. التردد الجديد لقناة طيور الج
...
-
سفير ايران لدى العراق: الحشد الشعبي يستمد قوته من المرجعية ا
...
-
استقبل احدث تردد “لقناة طيور الجنة” 2025 على النايل سات وعرب
...
-
مئات المستعمرين يقتحمون المسجد الأقصى
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|