|
بابل - مدينة الأسر - الجزء الرابع - قصور بابل
سعدي السعدي
(سْïي عوçï الَْïي)
الحوار المتمدن-العدد: 8198 - 2024 / 12 / 21 - 21:48
المحور:
قضايا ثقافية
ملاحظة: الموضوع هو عبارة عن كتاب بنفس الاسم من تأليف غوستاف بلومبيري - كتب بتاريخ نيسان 1941 - وقمت بترجمته واعداده للنشر عن السويدية الفصل الرابع: قصور بابل (من نبوخذ نصر الملك إلى كل الشعوب والأمم والألسنة الساكنين في الأرض كلها.) (دانيال 1:4) (وتصيح بنات آوى في قصورهم والذئاب في هياكل التنعّم ووقتها قريب المجيً وأيامها لا تطول.) (إشعيا 22:13) بعد أن ألقينا نظرة على أسوار المدينة وأبوابها، تجولنا في المدينة نفسها. لقد جئنا من جهة الشمال فوجدنا أنفسنا مباشرة في شارع الملك بين سورين يحملان صوراً جذابة لأسود، ثم تقدمنا لنصل إلى باب عشتار فدخلنا من تحت طاقها العالي مروراً بالغرفة الواقعة في السور الأمامي ثم تلك الغرفة الواقعة في السور الرئيسي وبعدها مباشرة أصبحنا في بابل المدينة. على طول المدينة ونحو الجنوب امتد أمامنا شارعٌ هو امتداد لشارع الملك ولكنه في داخل المدينة يسمى (شارع الموكب). لم نستمر في هذا الشارع، حيث بعد باب عشتار مباشرة اكتشفنا هضبة خرائب عجيبة في الجانب الأيمن، سماها العرب (القصر). هل يمكن حقاً أن نتخيّل إن هذه الهضبة إنما تخبيً خرائب ذلك القصر الشامخ الذي سكن فيه يوماً ما نبوخذ نصر؟ - إنها هي الحقيقة، ولذلك فإننا لم نتجّول أكثر من مائة متراً من باب عشتار عندما تركنا شارع الموكب وولجنا الخرائب القديمة والباب الضخمة لنأخذ القصر بالتفصيل. 1 - القصر القديم لقد كان عملاً تنقيبياً شاملاً ذلك الذي توجب إنجازه في هضبة الخرائب قبل أن تتكشف أسرارها. لقد جرى الحفر والتنقيب عميقاً في الهضبة فتكشفت عن أسوار وجدران وحدائق مفتوحة كبيرة وصغيرة، ودهاليز وسلالم وفتحات أبواب...الخ. وبما أن العمل التنقيبي أخذ طريقه للإنجاز بشكل مطرد فقد أمكن وضع خارطة دقيقة لكل ذلك البناء المعقد الذي احتوى حوالي 600 غرفة، تختلف إحداها عن الأخرى، ولكن أي بناء كان ذلك؟ وماذا أستعمل في ذلك البناء؟ أمور أصبحت واضحة بفضل الكتابات المسمارية التي تم العثور عليها. في هيكل الأسوار المبنية من حجر الآجر وجدت أحجار آجر هنا وهناك منقوش عليها بكتابة مسمارية كانت مرصوفة بمستوى واحد في السور ومفصولة بعضها عن بعض بأحجار اعتيادية من الآجر. عندما كانت تلك الأحجار عبارة عن قوالب طينية لينة طُبعت بواسطة ختم منقوش عليه، ثم جففت هذه الأحجار وصُلبّت وذلك بحرقها في أفران، بعض تلك الأختام تحتوي على ثمانية سطور من الكتابة المسمارية وأخرى كانت تحتوي ستة سطور. وجدنا 516 حجراً من النوع الأول و144 حجراً من النوع الثاني. كان مضمون النقوش متشابهاً تقريباً. الأحجار ذات الثمانية سطور جاء فيها ما يلي: (نبوخذ نصر، ملك بابل، حامي إيساكيلا - Esagila - وإيزيدا - Ezida -، أبن نبوبلصر، ملك بابل، أنا. هذا القصر مسكن جلالتي، بنيته في بابل. على صدر العالم السفلي وضعت أساسه، وبالأسفلت والآجر جعلته ينتصب عالياً كالجبل. رجائي في هذا البيت الذي بنيته أن يشبع رغبتكَ أيها الإلة الرحيم مردوخ. رجائي أن أتمتع هنا بحياة طويلة وأن أرى أحفادي يكبرون حولي ورجائي أن يسود أحفادي وإلى الأبد على ذوي الرؤوس السوداء). أمّا الأحجار ذات الستة سطور فقد حفر عليها ما يلي: (نبوخذ نصر، ملك بابل، أبن نبوبلصر، ملك بابل أنا. بنيت قصراً بمثابة مسكن لي في وسط بابل. لقد احضرت أشجار الأرز القوية من جبال لبنان العالية للتكون سقوفاً. مردوخ، أيها الإله الرحيم، أنت الذي تسمع صلواتي، أسمح لي أن أنعم بمزيد من العظمة في هذا البيت الذي بنيته. هذا السور الذي إنهار سأعيد بنائه. الى هذا البناء أرجو أن أنقل قيادتي. ورجائي أن يسود أحفادي وإلى الأبد على ذوي الرؤوس السوداء.). لقد تحدثت النقوش، وكما رأينا، من بين أشياء أخرى عن كيفية جلب نبوخذ نصر أشجار الأرز من لبنان كي يستعملها كغطاء للسقوف، فقد أعد لهذا الغرض قطار الحرب الى لبنان (تحدث نبوخذ نصر عن ذلك في موضع آخر). لقد دحر نبوخذ نصر الملك هناك وشق طرقاً إلى أعالي الجبال، قطع أشجار الأرز وحملها عبر السهول إلى شواطيً الفرات وسار بها طافية على ماء الفرات الى الجنوب نحو بابل التي كانت فقيرة من أخشاب الأشجار الملائمة، مقارنة بأشجار الأرز كأخشاب أو مواد بناء. ومما يثير الاهتمام في هذا الترابط أن نقرأ الكلمات التالية عند النبي أشعيا حيث يصف حالة ملك بابل: (إستراحت، إطمأنت كلّ الأرض، هتفوا ترنُماً. حتى السـرُو يفرح عليك وأرز لبنان قائلاً منذ أضطجعت لم يصعد علينا قاطعٌ.) (أشعيا7:14-8). يظهر من الكتابة المسمارية على حجارة الآجر أن نبوخذ نصر أستعمل أفضل أنظمة البناء في القصر الذي بناه والده نبوبلصر، لكنه حسّن وقوّى الجدران والأسوار وجمّل ووسّع القصر. وقد تحدث في نقش آخر كيف أنه سمح بتطعيم الأبواب بالنحاس وبتغطية عتبة الأبواب بالبرونز وكذلك كيف أنه (رصّع وطعّم بالفضة والذهب والأحجار الكريمة كل ما هو قيمٌ ونفيسٌ وجميلٌ وكل الأملاك سامية القيمة، وأملي أن تكون الكنوز الملكية ثروة هائلة.) كان كل الحق عند العرب، فقد احتوت هضبة الخرائب حقيقة بقايا ما كان يوماً قصر نبوخذ نصر. خطونا إلى الداخل لكي نتوجه بالبحث عن قرب في هذا البناء العجيب. على كل حال فقد لا نستطيع زيارة جميع الغرف الستمائة التي جرى التنقيب عنها في القصر أو التجوال في كل الدهاليز، والجري على كل السلالم، ولكن أمكننا الحصول على صورة شاملة للقصر. من شارع الموكب دخلنا حديقة مفتوحة هي الأولى في الترتيب، لقد وجدت خمس حدائق مثل هذه الحديقة في القصر، وحول كل حديقة توجد مجموعة من الغرف صغيرة وكبيرة حيث أن القصر بني على نفس الطراز الذي بقي شائعاً حتى يومنا هذا في دول الشرق. إذا يريد المرء عمل مكان سكنه كبيراً وجميلاً، إذن عليه أن يبني غرفاً حول الحديقة. أمّا إذا أراد بنائه أكثر جودة فعليه بناء غرف إضافية تجاور أحدها الأخرى. القصر الملكي في بابل بني على هذه القاعدة تماماً، ولكن وجدت هنا خمس حدائق الواحدة قرب الأخرى وحول كل حديقة بنيت غرف متجاورة، وهكذا فغرف حديقة ما جاورت وحاذت غرف الحديقـة الأخرى. وبهذه الطريقة أصبح هناك في النهاية مجمع بنائي مركب ومعقد وبقياسات عجيبة. الحديقة الأولى تحاذي شارع الموكب، وهناك يستطيع كافة الناس المجيً حاملين مطاليبهم ومهماتهم. وحول هذه الحديقة تتجمع صالات صغيرة وكبيرة، لكل موظف صالته، هناك يزدحم يومياً الناس القادمون من أنحاء مختلفة من المملكة لملاقات رؤساء الدوائر المختصين في مهمات متنوعة. توجهنا إلى خرائب الباب التي تربط الحديقة الأولى بالحديقة الثانية، لم تكن هذه الباب أقل من 14,25 متراً عرضاً و23,92 متراً طولاً. كانت الجدران مزخرفة ومزيّنة بنفس صور الأسود المطلية بالميناء التي عثرنا عليها سابقاً عند أسوار شارع الملك، إن حجم هذا الممر يجعل المرء يعتقد أنه كان (الباب العليا) (المحكمة العليا). وهكذا دخلنا حديقة القصر الثانية، حول هذه الحديقة يوجد عدد كبير من الغرف الصغيرة والكبيرة، من المؤكد أنها كانت مقرات لرئاسة الوزارة ووزير الخارجية ووزير الداخلية. واصلنا تجوالنا فوجدنا أنفسنا أمام الباب الثالثة التي كانت الباب الرئيسية والأكثر أهمية بين كل تلك الأبواب، وتلك الباب سنأخذها بتفحص أكبر. من الواضح أن أسوارها هي الأصلب وارتفاعها يفوق ارتفاع البابين الآخرين إضافة إلى أنها مزينة بنفس صور الأسود الجميلة التي تحدثنا عنها سابقاً. دخلنا الى حديقة القصر الثالثة وبسرعة لاحظنا أنها الحديقة الأكبر فقد كانت بعرض 55 متراً وطول 60 متراً وفي وسطها شاهدنا بقايا مسبح وكل شيً هناك يدل على أننا وسط الحديقة الأكثر روعة بين حدائق القصر الخمسة، إنها الحديقة الرئيسية. على امتداد الجانب الجنوبي منها وبمحاذاتها تقع صالة القصر الرئيسية، إنها قاعة العرش الكبرى وإلى هناك توجهنا حالاً. جدار القاعة المواجه للحديقة كان غاية في الروعة: حجر مطلي بالميناء الزرقاء مع صور نخيل مزخرفة والخطوط السفلى منه بصور أسود جميلة، وفي وسط الجدار كان المدخل الرئيسي، بالإضافة إليه فإن هنالك مدخلين آخرين أصغر منه على جانبيه. قاعة العرش كانت بنفس طول الجانب الجنوبي من الحديقة وبالتحديد 52 متراً. أمّا عرضها فكان 18 متراً وسمك جدارها الطولي 6 أمتار وسمك جدارها العرضي 2,78 متراً. يعتقد الدكتور كولدوي أن لكل ذلك مبرراته في أن السقف الذي كان على شكل قوس كبير قوي يستند على الجدران الطولية للقاعة وعلى امتدادها. هذه الجدران يجب أن تكون سميكة هكذا كي تستطيع تحمل هذا القوس. المدخل الرئيسي كان بعرض 5,83 متراً وأمام المدخل سُلّم من حجر الآجر يرتفع من الممر الحجري لحديقة القصر. أماّ المدخلان الجانبيان فكانا بقياس 3,73 متراً عرضاً. أمّا الجدران الداخلية لصالة العرش فكانت مغطاة بالجبس الأبيض. أنخطيً إذا قلنا إنها كانت القاعة العظيمة التي أقام فيها الملك (بيلشصّر) وليمته الكبيرة التي يحدثنا عنها كتاب دانيال؟ - (بيلشصّر الملك أقام وليمة عظيمة لعظمائه الألف وشرب خمراً قُدام الألف. وإذا كان بيلشصّر يذق الخمر أمر بأحضار آنية الذهب والفضة التي أخرجها نبوخذ نصّر أبوه من الهيكل الذي في أورشليم ليشرب بها الملك وعظماؤه وزوجاته وسراريه. حينئذ أحضروا آنية الذهب والفضة والنحاس والحديد والخشب والحجر. في تلك الساعة ظهرت أصابع يد إنسان وكتبت بأزدراء النبراس على مُكلّس حائط قصر الملك والملك ينظر طرف اليد الكاتبة. حينئذ تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره وأنحلّت خرز حقويه وأصطكت ركبتاه.) (دانيال1:5-6) الحائط الطولي المقابل للمدخل الرئيسي وقبالته تماماً كان مقوساً إلى الداخل، إنه المحراب الكبير، هناك كان يقف العرش الملكي. كل من يقف في الخارج في حديقة القصر كان يستطيع رؤية جلالته حتى إذا كانت القاعة ملآى بالناس، هكذا كان العرش الملكي مرتفعاً. ولكن في صالة العرش وفي حديقة القصر حيث تقع صالة العرش، لا يستطيع أياً كان المجيً الا لمن يعطيهم الملك تصريحاً بذلك. عندما نقرأ على سبيل المثال أقسام من كتاب (أستير) نستطيع الحصول على فكرة حول كيف تحدث اللقاءات الكبرى في صالة العرش في قصر بابل: (وفي اليوم الثالث لبست أستير ثياباً ملكية ووقفت في دار بيت الملك الداخلية مقابل بيت الملك والملك جالس على كرسي مُلكه في بيت المُلكِ مقابل مدخل البيت. فلمّا رأى الملك أستير الملكة واقفة في الدار نالت نعمة في عينيه فمدّ الملك لأستير قضيب الذهب الذي في يده فدنت أستير ولمست رأس القضيب.) (أستير1:5-2). (إنّ كلّ عبيد الملك وشعوب بلاد الملك يعلمون أنّ من يدخل إلى الملك أو إلى الدار الداخلية رجلاً كان أو امرأة ولم يُدعَ فشريعته واحدة أن يقتل إلاّ الذي يمُدّ له الملك قضيب الذهب فأنه يحيّا.) (أستير11:4). خرجنا إلى حديقة القصر الرئيسية ثم إلى الباب رقم 4 ودخلنا حديقة القصر الرابعة، حول هذه الحديقة نجد مرة أخرى عدد كبير من الغرف صغيرة وكبيرة، إنه الجناح الملكي الخاص. من خلال باب إضافية نصل إلى حديقة القصر الخامسة مع غرفها: جناح الملكة الخاص وجناح زوجات الملك. وخارج ذلك يقع متنزه القصر وخارجه يظهر حصن القصر مرة أخرى، وبالجانب الآخر من الحصن يجري نهر الفرات في طريقه إلى الخليج. عند قراءة كتاب أستير نحصل على توضيحات تلقي الضوء على حقائق في قصر بابل تتعلق بجناح الملكة: (وليوكل الملك وكلاء في كل بلاد مملكته ليجمعوا كلّ الفتيات العذارى الحسنات المنظر إلى شوشن القصر إلى بيت النساء إلى يد هيجي خصّي الملك حارس النساء) (أستير2:2-4). (فأتى الملك وهامان ليشربا عند أستير الملكة. فقام الملك بغيظه عن شرب الخمر إلى جنة قصر الملك) (أستير1:7 و7). (وعند انقضاء هذه الأيام أقام الملك لجميع الشعب الموجودين في شوشن القصر من الكبير إلى الصغير وليمة لسبعة أيام في دار جنة قصر الملك. بأنسجة بيضاء وخضراء وأسمانجونية معلّقة بحبال من بز وأرجوان في حلقات من فضة وأعمدة من رخام وأسرّة من ذهب وفضة على مجزع من بهت ومرمر ودر ورخام أسود.) (أستير5:1-9). في القسم الغربي من خرائب القصر وجدت أسطوانات من الحجر ثمانية الأوجه مزّودة بكتابة مسمارية على كل الأوجه (أنظر الصورة رقم 24)، تبدوا وكأنها أقدم تقويم رسمي ملكي في العالم. الملك نبوخذ نصر هو بالذات الذي أمر النخبة العليا من كتّابه أن تحمل هذه الأسطوانة أسماء والقاب كل هؤلاء السادة الذين خدموا سموّه الملكي. لقد أثار هذا التقويم اهتمامنا بدرجة كبيرة. حدثنا الكتاب المقدس عن أسماء والقاب قسم من رجال الملك الكبار. هل كان من الممكن أن نجد بعضاً منها هنا؟ الاسم الأول على هذه الأسطوانة هو قاضي القضاة وأسمه (نبو-زر-ايدين)، أمّا النبي إرميا فدعاه (نبوزرادان)، (بقية الشعب الذين بقوا في المدينة، والهاربين الذين سقطوا بيده سباهم نبوزرادان رئيس الشرط إلى بابل)(إرميا9:39). الاسم الثاني كان (نيركال-شار-أوسور) الذي سماه النبي إرميا (نرجل شراصر) (إرمـيـا3:39). لنرجع مرة أخرى ونسلك نفس الطريق الذي أتينا منه نحو الشمال كي نصل إلى حديقة القصر الأولى، هنا في الزاوية الشمالية الشرقية من القصر قامت اكتشافات ذات شأن، من المهم التوقف أمامها قبل أن نقول وداعاً للقصر بشكل نهائي (أنظر الصورة رقم 25)، هنا كانت يوماً (جنائن بابل المعلقة). عميقاً في الأرض تم العثور على قبو مقوّس، 7 حجرات على ممر طويل. من خلال هذا الممر فقط يمكن دخول تلك الحجرات التي كل واحدة منها لها مدخل واحد وحولها يمتد سور بسمك 6 أمتار، وكل المنطقة كونت مربع محيطه يصل الى حوالي 400 متراً. في غرف القبو هذه تحفظ المواد الغذائية التي تحتاج الى الحفظ من حرارة الشمس في الصيف. الملاحظ هنا أن هذه الممرات والحجرات لها أقواس وعلى كل واحد منها تستند الأجزاء العليا من البيت. في واحدة من الغرف الغربية هناك ثلاثة ممرات رأسية مفتوحة واحدة مجاورة للأخرى. الوسطى منها كانت على شكل مربع أمّا الأثنان الآخران فكلاهما كان ذا مقطع مستطيل. أوضح الدكتور كولدوي أنه عثر هنا (على بئر يتميز عن كل الآبار التي عرفناها في بابل أو في أي مدينة أخرى في العالم القديم.) أمّا فيما يخص الممرات الرأسية الثلاثة فقد كتب الدكتور كولدوي يقول أن كل التنظيم كان عبارة عن (تنظيم لم أستطع أيجاد تفسير آخر له سوى أنه هنا وضعت مضخة ميكانيكية هيدروليكية تعمل بنفس المبدأ الذي تعمل عليه مضخاتنا ذات السلاسل، هذا التنظيم يجعل من الممكن تدفق دائم ومتواصل للماء.) فوق قوس القبو هذا عثر على قوس آخر يخص غرفة تستعمل كدائرة رسمية. كل طابق علوي كان من حيث المقاييس أصغر من ذلك الطابق الذي يقع مباشـرة أسفله وذلك لكي يصبح في الطابق العلوي متسعاً من المكان لأرصفة عريضة. على هذه الأرصفة وضعت طبقة من صفائح الرصاص فوقها طبقة من الحجر والقش والأسفلت وفوق كل هذا وضعت طبقة من التربة العضوية التي فيها تنمو أنواع مختلفة من أروع الأزهار وأكثرها تألقاً، كذلك الشجيرات ذات الرائحة العطرة والأشجار المثمرة. هذه الأرصفة - الواحدة فوق الأخرى والمكسوّة بالنباتات الشرقية الرائعة - كونت جنائن بابل المعلقه. بواسطة المضخة الموجودة في الأسفل في القبو - والتي تحدثنا عنها - ينتقل الماء إلى الأعلى بشكل دائم الى الأرصفة العلوية، ومن هناك يتدفق هذا السيل النقي من رصيف الى آخر فيروي كل هذه الروعة المزهرة، التي عند هبوب الرياح الخفيفة حول الحدائق المعلقة تهب معها نسائم عذبة محملّة بروائح بلسمية. كانت هناك رغبة مليئة بالبهجة والسرور في التجوال هناك فوق حيث الشمس تغيب في الغرب وتختفي خلف رمال الصحراء الصفراء الرمادية الجافة. ومن فوق، من أعلى الأرصفة تستطيع القاء نظرة على واحدة من أكثر المدن القديمة أهمية. هناك ذهبت أفكارنا الى حيث قرأنا كلمات النبي دانيال: (عند نهاية أثني عشر شهراً كان يتمشى على قصر مملكة بابل. وأجاب الملك فقال أليست هذه بابل العظيمة التي بنيتها لبيت المُلكِ بقوةِ وأقتداري ولجلال مجدي) (دانـيـال29:30). سمعة جنائن بابل المعلقة انتشرت في كل العالم، وكلّما تنتشر سمعتها أبعد وكلما مضى الوقت طويلاً كلّما أصبحت وبدت أكثر غرابة. لقد كانت هذه الجنائن من أكثر أعمال البناء جدارة بالأنتباه والملاحظة وحول ذلك لا يختلف اثنان. من فوق خرائب جنائن بابل المعلقة عدنا الى حديقة القصر الأولى ثم الى الخارج من خلال باب القصر الى شارع الموكب. كان علينا مواصلة التجوال في شارع الموكب نحو الجنوب لمشاهدة المدينة، لكننا بدلاً من ذلك رجعنا باتجاه الشمال خلال باب عشتار الى شارع الملك وذلك لأن للملك نبوخذ نصر عدة قصور سنزورها ونتفحصها. 2- القصر الجديد لقد كان نبوخذ نصّر سيدٌ من الصعب إرضائه، فقد كان غير مقتنع بالقصر القديم، رغم أنه كان قد غيّر فيه ووسعّه وجمّله. كان يريد منذ اللحظة الأولى أن يكون بكامل حريته وهو يبني القصر الجديد، فخطط وبنى تماماً كما كان يرغب. في إحدى النقوش تحدث عن رغبته هذه: (في بابل، بلا شك لم يكن ثمة مكان لي ولكنوزي الملكية. تقديراً وتبجيلاً لمردوخ، سيدي الذي يسكن في قلبي، غيّرت في مدينتي المتألقة التي أحبها. لم أشيد قصري الجديد في شارع مردوخ، ولم أزاحم حرم مردوخ، ولم أسدّ قناة مردوخ. بعد أن أخذ هذا البناء الجديد من تفكيري الكثير أقمت القصر 490 ذراعاً في الجهة الأخرى من أسوار بابل، هناك بنيت سورين عظيمين من الأسفلت والآجر المشوي، بينها شيّدت عملاً عمرانياً من الآجر المشوي وعليه بنيت قلعة كبيرة لإقامة سمويّ الملكي، بنيت ذلك من الأسفلت والآجر المشوي وبارتفاع شاهق.) كان من غير الممكن بناء القصر الجديد مباشرة بجانب القصر القديم لأن ذلك يعني أن نبوخذ نصر سيكون مجبراً على التجاوز على شارع مردوخ الذي هو شارع الموكب أو على هيكل مردوخ الذي يقع الى الجنوب من القصر. ولا إلى الغرب لأن نهر الفرات يجري هناك. تحت تلك الظروف لم يكن لدى نبوخذ نصر أي خيار سوى أن يبني القصر الجديد خارج سور المدينة من جهة الشمال وهذا ما حدث. وهكذا فَقَدَ القصر الجديد الحماية التي تملكها المدينة في سوريها، لذلك أمر بتطويق القصر بسور. هذا السور لم يكن أقل من 17 متراً سمكاً. أن سور القصر من جهة الشرق يواجه شارع الملك، وداخل السور بنى رصيفاً عليه أقام القصر الذي كان مرتفعاً ومتوجاً كقلعة. عند أسفل الجدار وجدنا مجدداً تلك الصفوف من صور الأسود التي تحدثنا عنها سابقاً. فى الطريق الى القصر الجديد وصلنا الى شارع الملك فتجولنا فيه حوالي 100 متراً نحو الشمال لنجد أنفسنا أمام فتحة باب قديمة. وعندما حفرنا في هضبة الخرائب هذه وجدنا أن تلك الفتحة كانت المدخل الرئيسي للقصر الجديد. الفتحة كانت بعرض 4,15 متراً، يدخل المرء خلالها الى غرفة كبيرة وبعدها الى غرفة أصغر وأول شيً بعد ذلك فسحة كبيرة تمتد أمام القصر نفسه. لقد كان جزء دائري من هذه الهضبة فقط هو الذي تم حفره قبل قرار التعبئة الذي استدعى الى المانيا البعثة الألمانية، فتوقف العمل. أماّ القصر الجديد فقد كان أكثر روعة وجمالاً من القصر القديم، له حديقتان كبيرتان حولها مجاميع من الغرف. أما الملاحظة التي لا تقل أهمية هي أن هناك متحفاً في القصر، هناك أمر نبوخذ نصر بوضع المداليات والتماثيل وغيرها من التي حاز عليها خلال جولاته الكثيرة والطويلة لبلدان مختلفة أو حصل عليها بطرق أخرى. كمية كبيرة من التحف ما زالت بحالة جيدة حيث جرى تصنيفها وترجمت النقوش التي تحتوي عليها. ليس لدينا الآن وقت للتوقف عند تلك الآثار ولكن لنقف عند أحدها. إنها لوحة من حجر الكلس، يوجد في جزئها العلوي العديد من الصور المنحوتة. النص يحدثنا أن هذا السيد الذي يُرى على يمين الصورة هو حاكم سوشي وماير وأسمه (شامش - ريش - أوسور) ومملكته تقع عند نهر الفرات. وسمح بوصفه وسط آلهته أن يسجل من هم. لقد حمل بيده اليسرى مطرقة وحمل بيده اليمنى العقدة ورفعها نحو الإله آداد. عند إله الطقس يُرى تمثال أصغر، أنها الآلهة عشتار ترفع يدها اليمنى للتحية وتستند على كوع يدها اليسرى، وفوق يدها اليسرى نرى نجمها - صورة فينوس، وخصلة شعر قوية تتدلى أمام الأذن. خلف الحاكم يُرى تمثال، الجزء الكبير منه تالف. في صورة الحاكم يوجد هلال يذكرنا بإله القمر سين. لنقل وداعاً للقصر الجديد، ولكننا لم نزر بعد كل القصور الملكية الخاصة بالملك نبوخذ نصر حيث لازال لدينا القصر الصيفي. 3- القصر الصيفي قادتنا خطواتنا من شارع الملك نحو الشمال، عند نهاية الشارع ليبدأ شارع عريض فخم يستعمل من قبل كل المسافرين الراكبين من بابل في طريقهم الى سورية وفلسطين ومصر وآسيا الصغرى. لا ننوي الذهاب خارج سور المدينة الخارجي ولكن حتى ذلك الحين علينا أولاً الوصول الى القصر الصيفي. سور المدينة الخارجي يشكل هنا كلاب معه تستدير الأسوار كقبضة حادة حول القصر، تلك الحماية التي لا يريد نبوخذ نصر الاستغناء عنها عندما يرتاد القصر في فصل الصيف. هناك في الأعلى، في المنطقة المطوّقة من مدينة بابل، أستطاع نبوخذ نصر التقاط الريح الهابة القادمة من الشمال باتجاه عاصمته فيفوز بتلك البرودة المعتدلة قبل أن تجد لنفسها طريقاً نحو الجنوب مندفعة بخفة مطوقة حدود مدينته. مباشرة الى غرب القصر يمنح نهر الفرات مزيداً من البرودة واللّطافة. لكل هذا شيد القصر عالياً على هضبة ترتفع على الأقل 20 متراً عن السهل المحيط بها. كان للبناء أن يرتفع عشرة أمتار كي يعطي للملك الذي يجلس على سطحه تحت المظلة الملكية منظراً خلاباً. في الجنوب تقع المدينة الكبيرة، هناك يتزاحم الناس في الشوارع حيث الهواء حار وخانق وملئ بالغبار والدخان، لكن نبوخذ نصر يجلس على ارتفاع 30 متراً فوق المساحة الحارة متمتعاً بذلك الهواء المنعش الذي يهب من الشمال. على صحيفة خُطّت بالكتابة المسمارية أمر الملك بتشييد هذا القصر، تكلم من بين أشياء أخرى عن أنه سمح للبناء أن ينطلق في الأعالي (كجبل، سمحت بتسقيفه بشجر الأرز، وعملت أبوابه من شجر الأرز المرصعة بالنحاس وعتبات ومفاصل الأبواب من البرونز. هذا البيت سميته: يحيا الملك نبوخذ نصر! أن يعيش طويلاً، يا حامي إيساكيلا!). هضبة الخرائب التي تطّوق بقايا القصر الصيفي هي أكثر فخامة من كل الهضاب عند خرائب بابل (قارن الصورة رقم 4)، لها شكل مربع محيطه 250 متراً. جزء من الهضبة فقط تم حفره وعلى العموم فمعروف أن للقصر حديقتان وكما هو مألوف توجد في جانبها الجنوبي صالات كبيرة. حجم الغرف والصالات بطبيعة الحال لا يمكن مقارنتها على الأطلاق مع غرف وصالات كلا القصرين الجديد والقديم، ولكن هذا القصر كان بمثابة مكان إقامة لأشهر الصيف الحارة فقط. إن هضبة الخرائب هذه تحمل الى يوم التنقيب أسم (بابل). وهكذا فإن خرائب القصر الصيفي العالية بقيت حافظة لنا عبر القرون أسم المدينة التي تحدث عنها كتاب موسى، بابل.
#سعدي_السعدي (هاشتاغ)
سْïي_عوçï_الَْïي#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
بابل - مدينة الأسر
-
الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة - الجزء الثاني
-
الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة - الجزء الثالث
-
الجدل والطبيعة وديالكتيك الطبيعة الجزء الأول
-
الماركسيون والانتخابات - الجزء الثالث
-
الماركسيون والانتخابات - الجزء الثاني
-
الماركسيون والانتخابات - الجزء الاول
-
النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الخامس: النشاط
...
-
النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء السادس: الماركس
...
-
النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية – ثالثاً: المنظمة
-
النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الرابع: الاستيل
...
-
النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الثاني: الطبقة
...
-
النظرية الماركسية والتكتيكات الثورية - الجزء الأول - اختلافا
...
-
افكار في موضوعة الضمان الاجتماعي
-
عمار الحكيم وجمهورية العراق الاسلامية الفدرالية
-
دعوة للمشاركة في الحوار حول العمل المشترك بين القوى اليسارية
...
-
من اجل حملة لدعم دستور ديمقراطي في العراق
-
أوقفوا اللعبة السياسية على اقدامها
-
حجاب ام تيزاب
-
المرأة العراقية والمجتمع العراقي إلى أين؟؟؟
المزيد.....
-
-حلم بعد كابوس-.. أمريكية من أصل سوري تروي لـCNN شعور عودتها
...
-
بوتين يتوعد العدو بالندم والدمار!
-
لغز الفرعون: هل رمسيس الثاني هو فرعون موسى الذي تحدث عنه الك
...
-
كاتس من جنوب لبنان: باقون هنا للدفاع عن الجليل ولقد قلعنا أس
...
-
بين حماية الدروز وتطبيع العلاقات.. ماذا يخفي لقاء جنبلاط بال
...
-
الشرع يطمئن أقليات سوريا ويبحث مع جنبلاط تعزيز الحوار
-
الشرع: تركيا وقفت مع الشعب السوري وسنبني علاقات استراتيجية م
...
-
أمير الكويت ورئيس الوزراء الهندي يبحثان آخر المستجدات الإقلي
...
-
قديروف يتنشر لقطات لتدمير معدات الجيش الأوكراني في خاركوف
-
لوكاشينكو يدعو الشيخ محمد بن زايد لزيارة بيلاروس
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|