أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل














المزيد.....


الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل


أكرم شلغين

الحوار المتمدن-العدد: 8197 - 2024 / 12 / 20 - 20:45
المحور: قضايا ثقافية
    


يشكل مبدأ الانتقام أزمة أخلاقية وفكرية عميقة تقف عائقاً أمام تأسيس مجتمعات قادرة على تجاوز إرث الصراعات وتحرير نفسها من قيود الثأر التي تعيق تقدمها. فإذا كان الثأر يُصوّر في المخيال الجمعي كوسيلة لاستعادة الحقوق، فإنه في واقعه لا ينتج إلا المزيد من الدمار والانقسام. فكيف يمكننا تصور بناء مجتمع متماسك إذا كانت العدالة تسير وفق منطق الانتقام بدلاً من المصلحة العامة والمصالحة الوطنية؟
تأتي الحكمة القديمة التي تقول "العين بالعين تجعل العالم كله أعمى" لتذكّرنا أن الثأر، حتى لو استُحضر بدعوى العدل، ليس سوى طريق يقود إلى العمى الجماعي والانحدار الأخلاقي. فالثأر يعيد إنتاج الأزمات ويكرّس الهويات المبنية على الجراح التاريخية بدل السعي نحو الهوية القائمة على قيم الإنسانية والمواطنة. وكما أشار نيلسون مانديلا، الذي خَبِر القهر والاضطهاد، إلى أهمية التسامح في إحلال السكينة: "من لا يستطيع الصفح عن الآخرين يُحرم من السكينة في نفسه."
ليس المقصود بالدعوة إلى رفض الانتقام التنازل عن الحقوق أو التقليل من أهمية العدالة، بل هي محاولة للتفريق بين العدالة والانتقام، فهما مفهومان متعارضان في جوهرهما. الانتقام يعيد إنتاج الظلم في دوامة لا تنتهي، في حين أن العدالة، القائمة على الإنصاف والإنسانية، تسعى لإعادة ترميم ما أفسدته الفوضى. وهنا ينبغي التأكيد أن دعوة الصفح ليست تبريراً لمن سفك الدماء أو انتهك كرامة السوريين، بل هي محاولة للفصل بين من تورط في الجرائم، ومن دفعه اليأس الاقتصادي أو غياب الخيارات إلى البقاء ضمن إطار النظام دون أن تتلطخ يداه بالدماء.
الانتقام، في نهاية الأمر، لن يجلب لنا أمواتنا إلى الحياة مرة أخرى، ولن يعيد إلينا ما فقدناه من سنين أعمارنا التي تبددت وسط الدمار والتشرد. لن يُرمم الانتقام الشرخ العميق في نفوسنا التي أنهكتها عقود من الصراعات. السوريون الذين تشردوا لعشرات السنين، وحُوربوا في لقمة عيشهم، لن يجدوا في الانتقام طريقاً للخلاص، بل طريقاً يعمّق الجراح القديمة ويخلق جراحاً جديدة.
المثال التاريخي من التجربة الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية يكشف بوضوح قوة التصالح الوطني على حساب روح الانتقام. ففريدريك أديناور، الذي عانى شخصياً من النازية وجرائمها، قاد ألمانيا الغربية في مرحلة إعادة الإعمار والتصالح. أديناور، الذي خسر الكثير بسبب النازية وكان شاهداً على أهوالها، لم يدعُ للانتقام. بل ذهب أبعد من ذلك، حيث كان يقدم اعتذارات رسمية عن جرائم النازيين في بلده وخارجها، تلك الجرائم التي طالته شخصياً. كان هذا الموقف تعبيراً عن القوة لا عن الضعف، فالرجل أدرك أن بناء ألمانيا الجديدة والنهوض بها يتطلب طي صفحة الماضي البغيض، ليس نسياناً لما حدث، بل توجيه الطاقات نحو بناء حاضر ومستقبل مشترك. هذه التجربة تُظهر أن شجاعة الاعتراف والتصالح يمكن أن تكون أساساً قوياً لتجاوز الانقسامات والبدء في مسار إعادة البناء.
إن مرحلة ما بعد الحرب السورية لا يمكن أن تقوم على محاسبة جماعية عشوائية، فالسوري الذي خسر فرصته في التعليم ووجد نفسه مضطراً لوظيفة تضمن قوت يومه، أو الذي التحق بالجيش اضطراراً للحفاظ على وجوده في ظل واقع معقد ومغلق، لا يمكن أن يُساوى بمن جعل يديه أداة للقتل والتنكيل. النسيج الاجتماعي السوري يحتاج اليوم إلى قراءة دقيقة للواقع تُميّز بين من اختار عن وعي استباحة حقوق الآخرين، ومن علق في سياق غابت عنه البدائل.
لكن، كيف يمكن أن تبني سوريا مستقبلها؟ يبدو واضحاً أن أولى الخطوات تبدأ بإعادة بناء الإنسان، لأن الإنسان هو جوهر أي مشروع حضاري. بناء الإنسان لا يقتصر على توفير التعليم أو الرعاية الصحية فحسب، بل يشمل غرس القيم الإنسانية التي تعيد السوريين إلى جذورهم الثقافية الغنية. سوريا، و التي قدمت الحرف للعالم، كانت على مر التاريخ، مهداً للحضارات والثقافات والتعايش، وستثبت أن قيمها الأصيلة تحمل القدرة على تجاوز الكوارث إذا أُعيد إحياءها في سياق معاصر يُقدّم المواطنة كقيمة أساسية فوق أي انتماء آخر.
الانتقال من سوريا المنهكة بالحروب إلى سوريا المستقبلية يتطلب إعادة هيكلة علاقة الفرد بالمجتمع، بحيث يُصبح المواطن حاملاً لهوية مشتركة تقوم على التعددية واحترام الاختلاف. إن تحقيق ذلك يستدعي حماية حقوق الفرد والارتقاء به إلى مستوى المواطنة الحقيقية التي تضع كرامة الإنسان فوق كل الاعتبارات الأخرى.
أما النظام الذي حكم سوريا بعقلية الثور الهائج في محل الكريستالات مستمتعا بصوت الحطام فقد دمّر أسس التعايش وشرّد قيم الأخلاق والعدالة في البلد. التخلص من إرث الأسد الذي قاد البلاد إلى هذا الخراب ليس مجرد استحقاق سياسي، بل هو مطلب ثقافي وحضاري. سوريا تحتاج إلى مشروع بناء يتجاوز الهياكل المدمرة والتركيز على الإنسان كقوة قادرة على إحياء الوطن من رماده.
لنتذكر دوما إن بناء سوريا الجديدة يتطلب رفض الانتقام كفعل مدمر، والتمسك بقيم التسامح والإصلاح وإعطاء الدور للقانون كخطوة أساسية لإعادة ترميم النسيج الاجتماعي والوطني. فلا يمكن للسوريين أن يستعيدوا بلدهم إلا إذا اعتبروا العدالة أداة للتحرير والبناء، لا وسيلة للانتقام والتفتيت.



#أكرم_شلغين (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الخوف: ثقافة عالمثالثية أم تركيب اجتماعي؟
- الخبز والحرية: الاحتياج المادي والكرامة الإنسانية
- من الاستبداد إلى الشتات: حكاية وطن تحت قبضة الطغيان
- سوريا: وطن منهك بين السيادة المزعومة والحقيقة المرة
- بين الفطرة والتطرّف
- -صموئيل بيكيت: انعكاسات عبثية على الوجود الإنساني-
- هويتنا المفقودة
- لقاء لأجل الجواب عن سؤال -ما العمل!؟-
- إلى أين نحن ذاهبون
- طفل الاغتصاب
- فانتازيا لامرئي
- حروف مفقودة وأمنية
- بحور الحياة: رحلة أبو نجوان بين زمردة الأمل وألم الوداع
- عبور الزمن: عندما يعود الماضي ليطارد الحاضر
- ناقد كاتب وشاعر: وقفة قصيرة مع المثقف مصطفى سليمان
- قمر، ولكن...!
- والمال بدّل أيديولوجية مسرحية تاجر البندقية
- بانتظار الغريبة
- لا يكفر من يصرخ من شدة الألم!
- أهو ذئب في ثوب حمل؟


المزيد.....




- هجوم دهس ألمانيا.. المشتبه به طبيب سعودي عمره 50 عاما والخار ...
- 3 عوامل تبرز باجتماع أحمد الشرع -الجولاني- والوفد الأمريكي.. ...
- لحظة سقوط صاروخ حوثي وسط تل أبيب
- إسرائيل تؤكد إصابة 14 شخصا بعد إطلاق صاروخ من اليمن استهدف ت ...
- ترحيب عربي بقرار أممي يدعو العدل الدولية لبحث قضية أونروا
- ما الذي نعرفه عن حادث الدهس في سوق لعيد الميلاد بألمانيا.. و ...
- سقوط صاروخ أطلق من اليمن بشكل مباشر وسط تل أبيب
- استهداف مركبة عسكرية إسرائيلية غربي جنين والاحتلال يقتحم طول ...
- صفارات الإنذار تدوي وسط إسرائيل.. والجيش: إطلاق صاروخ من الي ...
- البرادعي يعلق على زيارة الوفد الأمريكي إلى دمشق بعد سقوط الأ ...


المزيد.....

- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- مقالات في الثقافة والاقتصاد / د.جاسم الفارس
- قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين / محمد عبد الكريم يوسف
- أنغام الربيع Spring Melodies / محمد عبد الكريم يوسف


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - قضايا ثقافية - أكرم شلغين - الانتقام والهدم: نحو تجاوز إرث الثأر لبناء سوريا المستقبل