|
بلاغة الاختصار
راقي نجم الدين
(Raqee S. Najmuldeen)
الحوار المتمدن-العدد: 8196 - 2024 / 12 / 19 - 00:12
المحور:
قضايا ثقافية
كثيراً ما يُوجَّه إلى الأكاديميين أو المثقفين أو السياسيين في البرامج التلفازية أو عبر منصات مثل زووم وقنوات اليوتيوب سؤال محدد حول موضوع أو مفهوم معين. وغالباً ما تأتي إجاباتهم الأولى على النحو التالي: "إن هذا الموضوع كبير ومعقد، ويحتاج إلى ساعات طويلة لشرحه أو إلى حلقة خاصة للتعمق في تفاصيله." تبدو هذه الإجابة وكأنها محاولة لتأكيد امتلاكهم لمعرفة عميقة تتجاوز حدود الوقت المتاح. لكن الحقيقة أن هذا الرد غالباً ما يعكس خوفاً دفيناً من العجز عن إيصال الفكرة بوضوح وبساطة. لكن الحكمة الحقيقية لا تحتاج إلى عربة ضخمة لتحملها، بل تكفيها كلمات رشيقة كالسهام تصل مباشرة إلى الهدف. إن الشخص المتمكن هو من يستطيع "ترويض الأفكار الجامحة" واحتواءها في قالب بسيط ووافٍ. فالمعرفة ليست جبالاً من المعلومات تُثقل كاهل صاحبها، بل هي نهر صافٍ يجري منظماً، يحمل معه إجابات تُروي عطش السؤال دون فيض أو إغراق. هنا نستذكر مقولة أينشتاين التي أصبحت معياراً للفهم: "إذا لم تستطع شرح فكرتك لطفل في السادسة من عمره، فأنت لم تفهمها بعد." فالبساطة ليست سذاجة، بل هي انعكاس لعمق الفهم ووضوح الرؤية. وبالمثل، يمكننا أن نشبه هذه الفكرة بتصميم البوستر. فحين يُكلَّف المصمم بمهمة التعبير عن موضوع معين، قد تغمره زحمة الأفكار والقصص المتداخلة، مما يعيقه عن ترجمة جوهر الموضوع إلى تصميم واضح المعالم. والنتيجة؟ بوستر فاقد للبوصلة، لا ينقل رسالة ولا يترك أثراً. أما المصمم المحترف، ذو الرؤية الواضحة والتنظيم الفكري، فيستطيع أن يلتقط ملمحاً محدداً للموضوع، ثم يضخمه ببراعة في تصميمه. فالبوستر ليس حكاية مطولة أو معرضاً للثرثرة البصرية؛ بل هو "جوهر مكثف"، استخلاص لبّ الفكرة وتقطيرها في صورة واحدة متقنة، كما عبّر عنه المصمم الشهير ميغيل رانجيل. وهذا ينطبق أيضاً على التصميم بصفة عامة. فحين سُئل توم بيترز – عملاق عمالقة الإدارة - عن معنى التصميم، لم يزعم ان الإجابة تحتاج إلى ساعاتٍ من الشرح. بل أجاب ببساطة عبقرية تختصر الجواب في صورٍ أيقونية: "التصميم هو سيارة فيراري، وساعة رولكس، وجهاز آي ماك." هكذا، في كلمات معدودة، قدّم رؤية واضحة تجمع بين الجمال والوظيفة، دون أن يغرق في بحر التعقيد أو التفاصيل الزائدة. ومن التاريخ الفكري والفلسفي، نجد العديد من الأمثلة لعلماء ومفكرين استطاعوا الإجابة على أسئلة معقدة بكلمات مختصرة تحمل الكثير من المعنى. فعلى سبيل المثال، حين سُئل سقراط عن سر الحكمة، أجاب بكل بساطة: "كل ما أعرفه هو أني لا أعرف شيئاً." هذه العبارة الموجزة تحمل في طياتها مبدأ التواضع المعرفي والاعتراف بحدود الإنسان في العلم، وهو أساس التفلسف والبحث المستمر. أما أرسطو، فقد قدّم تعريفاً للسعادة بجملة مختصرة حين قال: "السعادة هي نشاط الروح وفقاً للفضيلة." رغم أن السعادة مفهوم معقد يصعب تحديده، استطاع أرسطو تلخيصه في عبارة توضح ارتباط السعادة بالممارسة الفاضلة. وفي مجال العلم الحديث، نجد مثالاً مع ألبرت أينشتاين عندما سُئل عن نظريته في النسبية، فقدم تفسيراً بسيطاً بقوله: "ضع يدك على موقد ساخن لدقيقة وستشعر أنها ساعة. اجلس بجوار فتاة جميلة لساعة وستشعر أنها دقيقة. هذه هي النسبية." هنا استطاع أينشتاين، باستخدام تشبيه يومي بسيط، أن يشرح مفهوماً علمياً معقداً بطريقة يستطيع العامة فهمها. كذلك، نجد إيمانويل كانط قد لخّص فلسفته الأخلاقية المعقدة في جملة واحدة عندما قال: "افعل الفعل الذي تريد أن يصبح قانوناً عاماً للجميع." هذه العبارة تختزل مبدأه الشهير في الأخلاق، والذي يربط الفعل الأخلاقي بقابليته للتعميم. وفي العصر الحديث، أوضح عالم الفيزياء نيل ديغراس تايسون عند سؤاله عن الفرق بين العلم والرأي الشخصي: "العلم صحيح، سواء آمنت به أم لا." بهذه الكلمات القليلة استطاع أن يوضح مكانة الحقائق العلمية ودحض محاولات التشكيك بها بناءً على الآراء الشخصية. إن البلاغة ليست في كثرة الكلام، بل في قدرة المتحدث على اختزال عالمٍ كامل في جملة واحدة. المعرفة الحقيقية لا تُثقل العقل، بل تُحلق به كطائر حرّ يُلخص الأفق في جناحيه. وكما أثبت التاريخ، فإن تبسيط الفكرة هو فن لا يجيده إلا من امتلك الفهم العميق، لأن الوضوح هو اللغة التي يتحدث بها الحكماء.
#راقي_نجم_الدين (هاشتاغ)
Raqee_S._Najmuldeen#
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سباق الضفادع: عندما يصبح الجشع رياضة وطنية
-
التطور المفاهيمي لتعليم التصميم
-
أصداء الابتكار: صراع وجهات النظر
-
التسلسل الهرمي للمهن: تأملات في شذوذ الإدراك البشري
-
دور ركوب الدراجات في الاقتصاد والبيئة ونظريات المؤامرة وسط ا
...
-
فضح النفاق: سيكولوجية انتقاد الآخرين وتجاهل عيوبنا
-
إعلانات التوظيف الأكاديمي: هل تفتقر الجامعات العربية إلى الش
...
-
سباق التسلح الأكاديمي: مستوعب سكوباس وتصنيف الجامعات
-
التصميم الجرافيكي ليس اتصالاً بصرياً
-
سحر المؤثرات البصرية
-
البلاغة البصرية والتصميم الجرافيكي
-
صُنع في التصميم: تبادل الادوار بين الوظيفية والجمالية
-
نتائج البحوث في حياتنا
-
غلاف الكتاب يتحدث
-
الجمال والوظيفة: تحليل مؤسسي
-
النقد التصميمي وتدريسه
-
الواقعية السحرية: منطقية اللامنطقي
-
الفرق بين الفن والتصميم
-
الغيرة المهنية: هزيمة الحاسد النذل
-
كيف يمكن للرأسمالية ان تنقذ الفن؟
المزيد.....
-
بلينكن: الولايات المتحدة تتجنب صراعا مباشرا مع روسيا
-
أردوغان يستقبل ميقاتي في أنقرة
-
فقمة مكسوة بالفرو تستمع بالشمس والرمال في ريو دي جانيرو.. من
...
-
اجتماع دولي حول سوريا في فرنسا.. ودعوة لانتخابات -حرة-
-
Xiaomi تطلق -مترجما ذكيا- للنصوص
-
روته: أوكرانيا يجب أن تكون في موقف أقوى قبل مفاوضات السلام ا
...
-
تخوف كردي.. تركيا تهيمن على حكومة دمشق
-
بيان هام من الشرع بخصوص قوات سوريا الديمقراطية
-
بقيت مشتعلة في مقاطعة كورسك.. مسيرة روسية تخترق درع دبابة -أ
...
-
لجأوا إلى العراق عقب سقوط الأسد.. بدء إجراءات العودة الطوعية
...
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|