أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد زكرد - إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس














المزيد.....


إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس


أحمد زكرد

الحوار المتمدن-العدد: 8195 - 2024 / 12 / 18 - 00:18
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
    


إنّ مسألة نقد الدين في الفكر الفلسفي الألماني خلال القرن التاسع عشر تُعدّ نقطة تحوّل فارقة، حيث انتقل الفكر من التأمل الميتافيزيقي حول الإله والكون إلى استكشاف الإنسان نفسه بوصفه مُنتجًا للفكر الديني. هذه النقلة التي تجلّت عند فيورباخ ثم انتقلت إلى ماركس، تحمل في طياتها نواة التحرّر من الأوهام الدينية عبر العودة إلى الإنسان باعتباره أصل الفعل والفكر. لكنّ هذا النقد، رغم ما يبدُو عليه من وضوح عند فيورباخ، لا يمكن أن يُفهم بمعزل عن السياق الأيديولوجي الذي نشأ فيه، والذي شمل أيضًا مواقف برونو باور المثالية ونقده للوعي الديني من منظور هيغلي مُحدّث.
لقد كان فيورباخ في "جوهر المسيحية" يُقدّم نقدًا جديدًا للدين يُخالف التصوّرات التقليدية التي كانت سائدة آنذاك. فبالنسبة له، الدين هو إسقاط للخصائص البشرية المُطلقة على كائن مثالي متعالٍ يُسمّى "الإله". فالإنسان، حين يتأمل ذاته ويدرك أسمى ما فيه من محبة، وعدالة، وحكمة، يُجرّد هذه الصفات من محدوديتها البشرية، ويمنحها لكائن خارجي يُعبّر عن تطلّعاته للكمال. هكذا يغترب الإنسان عن ذاته؛ إذ ينقل جوهره إلى كيان آخر خارج ذاته، ويستمدّ منه القوة والغاية، بينما هو في الحقيقة صنيعة مخيلته الخاصة. وهنا يُصبح الدين في نظر فيورباخ مرآة مشوّهة تعكس الإنسان في صورة الإله، لكنه انعكاس يُكرّس القطيعة بين الإنسان ووعيه بذاته.
هذا الفهم المادي للدين كان بمثابة ثورة فلسفية على المثالية الهيغلية التي سادت آنذاك، لكنه، رغم راديكاليته، ظلّ محصورًا في نطاق "الوعي". فالإنسان عند فيورباخ هو مقياس كل شيء، وهو الكائن الذي يستعيد جوهره من خلال إدراكه أنّ الدين مجرّد إسقاط، لكنّ فيورباخ لم يُعالج الظروف الاجتماعية والمادية التي تُنتج هذا الوعي المغترب، بل اكتفى بتفكيك الدين بوصفه ظاهرة فكرية، دون أن يبحث في الجذور التاريخية والاقتصادية التي تجعل الإنسان بحاجة إلى مثل هذه الإسقاطات.
في هذا السياق، كان برونو باور يُقدّم نقدًا موازيًا للدين، لكنه ينطلق من موقع مثالي بحت، مُستندًا إلى التحليل الهيغلي لمسار الوعي في "فينومينولوجيا الروح". يرى باور أنّ الدين هو تعبير عن حالة اغتراب الوعي بذاته، وهو ناتج عن انقسام الذات البشرية بين ذاتها الداخلية وبين كائن متعالٍ تضعه خارجها. إنّ هذه العلاقة، كما حلّلها هيغل في "الوعي الشقي"، تجعل الإنسان يرى ذاته أقلّ من الإله الذي خلقه، ويعيش انقسامًا مأساويًا بين "الواقع" و"المطلق". وبرونو باور، إذ يُبسّط هذا التحليل الهيغلي، يرى أنّ الوعي الديني هو بمثابة تمثّل ذهني يُفقد الإنسان قدرته على العودة إلى ذاته، حيث يظلّ أسيرًا للتناقض الذي فرضه على نفسه. لكنّ نقد باور، رغم حِدّته، يبقى محصورًا في نطاق الفكر، ولا يتجاوز الأُطر المثالية التي ينطلق منها، وهنا تكمن محدوديته.
ماركس، من جهته، ينطلق من هذه الإسهامات لكنّه يتجاوزها ليُقدّم نقدًا أكثر جذرية وشمولية. ففي مقدمة "مساهمته في نقد فلسفة الحق عند هيغل"، يُقرّ ماركس بأنّ نقد الدين قد أُنجز في جوهره على يد فيورباخ، لكنّه يُضيف بُعدًا جديدًا لم يكن حاضرًا عند سابقيه: الدين ليس مُجرّد إسقاط فكري أو حالة اغتراب وعي، بل هو نتاج واقع اجتماعي مُحدّد، وهو تعبير عن ظروف مادية قائمة على التناقضات والاستغلال. إنّ العبارة الشهيرة التي قالها ماركس: «الدين هو زفرة الإنسان المضطهد، قلب عالم لا قلب له، وروح ظروف بلا روح. إنه أفيون الشعوب»، تُجسّد هذا المنعطف في نقد الدين؛ فالدين ليس مجرّد وَهْم فكري، بل هو استجابة إنسانية لحالة القهر والمعاناة التي يفرضها الواقع الاجتماعي.
عند ماركس، يُصبح نقد الدين جزءًا من نقد الأيديولوجيا؛ فالدين يُخفي التناقضات الطبقية ويُقدّم عزاءً وهميًا للفئات المقهورة، من خلال وعدها بالسعادة في عالم ما بعد الموت. وهنا لا يعود كافيًا الاكتفاء بنقد الدين على المستوى الفكري كما فعل فيورباخ أو باور، بل يجب الانتقال إلى تحليل البنية الاجتماعية والاقتصادية التي تُنتج الحاجة إلى الدين. فالدين، عند ماركس، هو عرضٌ لمرضٍ أعمق، وهذا المرض هو النظام الاجتماعي القائم على الاستغلال والاغتراب. وبذلك، يُصبح تحرير الإنسان من الدين مشروطًا بتحريره من علاقات الإنتاج المُجحفة التي تُكرّس اغترابه.
إنّ مقارنة نقد الدين عند فيورباخ، باور وماركس تُظهر بوضوح أنّهم ينطلقون جميعًا من نقطة مشتركة: الدين هو نتاج للوعي البشري. لكنّهم يختلفون في تحديد طبيعة هذا الوعي وأسبابه. فيورباخ يرى في الدين انعكاسًا للإنسان نفسه، ويدعو إلى إعادة الإنسان إلى مركز الكون باعتباره الكائن الأسمى. أمّا باور، فيظلّ متمسّكًا بالمثالية الهيغلية التي تُفسّر الدين بوصفه صراعًا داخليًا للوعي. بينما ماركس يتجاوز كلا الموقفين ليُقدّم تفسيرًا تاريخيًا وماديًا للدين بوصفه أيديولوجيا تُخفي التناقضات الاجتماعية وتُبرّر الاستغلال.
إنّ هذا التطوّر الفكري يُبرز أنّ نقد الدين ليس مجرد عملية تفكيك للوهم، بل هو عملية تحرير مزدوجة: تحرير الوعي من الإسقاطات الميتافيزيقية، وتحرير الإنسان من الظروف المادية التي تُنتج هذا الوعي المغترب. لقد أدرك ماركس أنّ القضاء على الدين لا يتحقق من خلال النقد الفلسفي وحده، بل من خلال تغيير الواقع الاجتماعي والاقتصادي الذي يجعل الإنسان مُضطهدًا ويبحث عن عزائه في السماء. وبهذا، يُصبح نقد الدين عند ماركس لحظة ضمن مشروع أشمل يهدف إلى تحقيق التحرّر الإنساني الكامل.



#أحمد_زكرد (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- Lillusion et la vérité
- مستقبل سوريا في ظل الصراع الدولي
- الفلسفة المعاصرة: جدلية الإنسان بين انهيار اليقين والبحث عن ...
- إشكالية الهوية و الوجود الرقمي: بين الأصالة والاغتراب
- بين الظلم التاريخي وإعادة الاعتبار: إشكالية قراءة أفكار السف ...
- النقاب كظاهرة ثقافية: تحليل فلسفي واجتماعي في السياق المغربي
- الناسخ والمنسوخ والمفقود والمرفوع


المزيد.....




- وجهتكم الأولى للترفيه والتعليم للأطفال.. استقبلوا قناة طيور ...
- بابا الفاتيكان: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق
- ” فرح واغاني طول اليوم ” تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025 اس ...
- قائد الثورة الإسلامية: توهم العدو بانتهاء المقاومة خطأ كامل ...
- نائب امين عام حركة الجهاد الاسلامي محمد الهندي: هناك تفاؤل ب ...
- اتصالات أوروبية مع -حكام سوريا الإسلاميين- وقسد تحذر من -هجو ...
- الرئيس التركي ينعى صاحب -روح الروح- (فيديوهات)
- صدمة بمواقع التواصل بعد استشهاد صاحب مقولة -روح الروح-
- بابا الفاتيكان يكشف: تعرضت لمحاولة اغتيال في العراق عام 2021 ...
- كاتدرائية نوتردام في باريس: هل تستعيد زخم السياح بعد انتهاء ...


المزيد.....

- شهداء الحرف والكلمة في الإسلام / المستنير الحازمي
- مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي / حميد زناز
- العنف والحرية في الإسلام / محمد الهلالي وحنان قصبي
- هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا / محمد حسين يونس
- المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر ... / سامي الذيب
- مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع ... / فارس إيغو
- الكراس كتاب ما بعد القرآن / محمد علي صاحبُ الكراس
- المسيحية بين الرومان والعرب / عيسى بن ضيف الله حداد
- ( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا / أحمد صبحى منصور
- كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد / جدو دبريل


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني - أحمد زكرد - إشكالية نقد الدين بين الوعي والواقع: من فيورباخ إلى ماركس