|
قهوة أبي
محمد علي بن عامر الطوزي
الحوار المتمدن-العدد: 8193 - 2024 / 12 / 16 - 17:20
المحور:
سيرة ذاتية
لم يكن أبي من الرجال الذين بقضون معظم أوقاتهم في المقهى للعب الورق او لتناول مشروب ما صباحا مساء ويوم الاحد ،مفضلا ملازمة البيت أيام الاحد والعطل دون أن يشعر بأي ضجر أو ملل حيث كان يجد لنفسه مشغلا يتلهى به سواء لاصلاح ما يقدر على إصلاحه من تجهيزات المنزل أو المحاظة على نظافته و جماليته ، وكاذلك العناية بالحدبقة الصغيرة المحيطة به . وكان كثيرا ما يشركنا ، نحن أبناؤه الخمسة، في هذه الاعمال المنزلية التي كنا نتذمّر منها خاصة أعمال الطلاء وقلب تربة الحديقة وري اشجارها وخضرها واقتلاع الاعشاب الطفيلية منها أو إفراغ ما اختزن في الحوض المدفزن في قاع الارض من مياه الصرف الصجي حيث لم يكن هناك أي ربط بشبكة التطهير العمومي.. وكانت أمي تستحثه بمفرداتها الخاصة دوما للخروج لاستنشاق الهواء( شم شوية هوا) والترويح عن النّفس وتبادل الحديث مع اصحاب أو جيران وحتى لمشاهدة المارة في غُدُوِّهِم و رَواحِهم. ولعل أمي كان يزعجها ، مثل كل النّساء، حضور الزّوج المتواصل واللصيق لها في المنزل خشية أن يحشر أنفه فيما لا يخّصه وما يصدر عنه من ملاحظات تخص إعداد الطعام وغيره من شؤون المنزل التي تدخل في اختصاصات ربّة البيت. ولكن أبي أكتسب عادة القهوة عند عودته، بعد التقاعد، إلى مسقط رأسه، المُنَسْتِير وخاصة بعد رحيل أمي، التي كانت تملأ عليه الدنيا ، إلى العالم الآخر فزاده غيابها فراغا على فراغ. فكان المقهى ملاذه الوحيد والقريب للهروب من وحدته وتمضية الوقت . وكم يبدو الوقت طويلا لمن كان في مثل وضعيّته وكأنّ عقارب السّاعة تأبى أن تدور أو أنّها تدور على عكس إتجاهها. كان المقهى ،الذي تعوّد أبي على ارتياده، على بعد عشرات الامتار فقط عن مقر إقامته ،في الحي الأول، أحد الاحياء الشعبية في المدينة، يوجد في منعطف على طريق رئيسي عريض، يعرف بطريق القيروان ، يعجّ بالحركة الاقتصادية حيث تزدحم على جانبيه دكاكين بيع اللحوم الحمراء والبيضاء والاسماك والخضر والغلال ومتاجر المواد الغذائية الضرورية و الصحيّة واللّباس ومواد البناء فضلا عن محلات اسداء الخدمات الاتصالية والمكتبية وغيرها من الخدمات الاخرى. أصبح لأَبي مجلسه المعتاد في أحد أركان المقهى الذي أصبح يرتاده مرّتين في اليوم مرّة في الصبّاح، بعد الساعة العاشرة يبقى فيه إلى منتصف النهار ليعود إليه مرّة ثانية، بعد صلاة العصر، بعد أن يكون قد تناول غذاءه وأخلد لِنَوْمِ القيلولة لفترة قصيرة. وأصبح لأبي طقوسه القهوويّة، لا يتخلّى عنها إلّا لِماما أو اضطرارا ، يتقاسمها مع جاره عُمَر، فكانت القهوة السريعة (اكسبريس) مشروبه المفَضل في الفترة الصباحية وكأس الشاي بالنعناع في الفترة المسائية التي تتواصل إلى غروب الشّمس. وكم كان يسعدني أن أنضم إلى مجلس أبي في المقهى كلّما سنحت لي الفرصة خلال عودتي من تونس إلى المنستير لقضاء عطلتي الصييفية بين شواطئها الجميلة. كنت أمرّ على بيت أبي فلإ أجده فأعرّج بكل يقين على المقهى لأجده في ركنه المعتاد وما أن يشاهدني حتّى يدعوني للجلوس على طاولته إذا لم ينته بعد من ترشّف قهوته فأقبل بكل سرور وبدون حرج أو حياء دعوته الكريمة. لم تكن علاقة أبي بأبنائه علاقة صداقة مثلما كنت دوما أتمنّى أن تكون فقد كانت خاضعة لنواميس المجتمع الشرقي التقليدي القائمة على تراتبية تكرّس قدسيّة الاب وسلطته على بقية أفراد الاسرة وتضع حواجز وهمية ونفسيّة للحيلولة دون تغييرها أو المسّ منها وتعتبر كل محاولة في هذا الاتجاه هي تمرّد على القيم المجتمعية وحطّ من شأن الاب ووضعه الإجتماعي كرَبّ بيت وتقليل من احترامه. كانت لي رُؤية نقدية لهذه العلاقة وللنظام البترياركالي الذي يرعاها إيمانا منّي يانّ لكل فرد في مؤسسة العائلة مكانته واعتباره وأن هذه العلاقة يجب أن تُبْنَى على أساس التعاون والتضامن والأخاء والمحبة والاحترام المتبادل وعلى أساس قيم اعتباريّة عقلانية اكثر منها سلوكيّة ماديّة. وكنت أتساءل وما زلت هل أنّ تدخين الابن في حضرة أبيه ، مثلا، تقلبل من احترام هذا الاخير؟ وجوابي بالنفي القاطع على عكس الرّأي الشائع الذي يدفع الابناء إلى التدخين سرا خوفا من أن يتفطّن لهم اﻷب أو اﻷخ الاكبر اللذين كلاهما يعمل بما يفعلونه . فلِمَ هذا النّفاق اﻹجتماعي ولِمَ هذا الرّياء اللّذان لا يساعدان البّتّةَ على بناء علاقات أسريّة صادقة بما من شأنه أن يكرّس سلوكات اﻷخذ بالمظاهر وهي سلوكات من يُظهِرُر لك خيرا وهو في الواقع يُضمِرُ لك شرّا. قفزت هذه الافكار إلى ذهني عندما طلب أبي من النّادل أن يحضر لي قهوة وعندما سحبت من علبة السّجائر التي كانت في جيب جمّازتي سيجارة من نوع 20 مارس ﻷدخّنها في حضرة أبي. عندها أيضا( ﻷضع امور في إطارها كما يقال) رجعت بي الذّاكرة إلى أحد أيّام رمضان في سنوات 1970 وتحديدا مباشرة بعد اﻹفطار. كنت زمانها طالبا بالجامعة فاجأْت الجميع ، أبي وأمّي وإخوتي، بأن أصدعت لهم بأني أدخّن وأخرجت سيجارة غولواز فرنسية ﻷدخّنها أمامهم وسط ذهول الجميع. لم ينبس أحد بشفة، كنت سيّد الموقف آنذاك فواصلت كلامي: ‘’ أتريدونني أن أدخّن سرا، في المرخَاض مثلا، أو متخفّيا في مكان آخر بعيدا عن العيون ؟ أنا مقتنع بما أفعل وما أنا مقتنع به أفعله على مَرْآى الجميع ’. لم ينفعل أبي ولم ينهرني واكتفت أمّي بتذكيري بمساوىء التدخين ومضّاره على الصحّة. من وقتها وأنا أدخّن بحريّة في حضور أبي الذي يحدث أن اسْعِفَهُ بسيجارة كلّما انقطعت سجائره. جاء النّادل بقهوة اكسبريس التي طلبها لي أبي، ترشّفتها على مهل لأنّه كما يقول محمود درويش: ‘’ القهوة لا تشرب على عجل ’. أخذت كامل وقتي لاحتسائها رشفة رشفة ومع كل رشفة اسحب نفسا من سيجارتي، للقهوة مع أبي مذاق خاص , كانت تلك أخر قهوة لي مع أبي.
#محمد_علي_بن_عامر_الطوزي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
في ذِكرى وفاتِكَ . في البال دائما أنتَ يا أَبي
-
الُمعلَن والمَخفِيّ في كتاب جديد عن وكالة تونس إفريقيا للأنب
...
-
خاتم أمّي
-
العلوم اﻹنسانية واﻹجتماعية على محكّ الذّكاء ا&
...
المزيد.....
-
الجولاني يدعو إلى إرساء -عقد وطني- ويعد بإدماج الفصائل المسل
...
-
زلزال قوي يضرب فانواتو جنوب المحيط الهادئ وتحذير من تسونامي
...
-
مراسلنا: مقتل 10 فلسطينيين بقصف إسرائيلي على منزل بحي الدرج
...
-
خطوات بسيطة لتغذية العقل والجسم
-
روسيا.. الكشف عن غواصة مدنية غير مأهولة مزودة بالذكاء الاصطن
...
-
علماء: انبعاثات ثقب أسود في مركز مجرة قريبة من درب التبانة ت
...
-
جوني ديب يفتتح متجرا للمجوهرات في موسكو لصديقته الروسية
-
الجيش الروسي يُنفّذ مناورة مذهلة بالقرب من كوراخوفو
-
ثلاثة من أصل 90 لم يهربوا. أوكرانيا مصدومة من فرار جنودها
-
القضاء الأمريكي يرفض إلغاء إدانة ترامب في قضية دفع الأموال ا
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|