|
منصور الكيخيا وحكاية الاختفاء القسري
عبد الحسين شعبان
الحوار المتمدن-العدد: 8193 - 2024 / 12 / 16 - 09:52
المحور:
حقوق الانسان
توطئة وتساؤلات غالبًا ما يتردّد السؤال المحيّر، لماذا وكيف تمارس سلطة رسمية أو سلطات تابعة لها أو بمعرفتها مهمات أبعد ما تكون عن مهمات الدولة؟ فيختفي أثر مواطن أعزل عن الأنظار في حين بإمكانها القاء القبض عليه إذا كان متهمًا بارتكاب جريمة ما وتقديمه إلى المحاكمة الأصولية، حتى وإن كان بريئًا، وهو لا يملك سوى الامتثال للإجراءات الرسمية القانونية لسلطة مدججة بالسلاح والمال والإعلام والمخبرين. ثم لماذا تُستبدل وظيفة الدولة، وهي حفظ وتنظيم حياة الناس، بمهمات عصابة خارجة عن القانون، مثلما تفعل الأخيرة عندما تقوم بخطف مواطن أو احتجاز سيّدة أو أخذ رهائن، بمن فيهم أطفال، سواء لطلب فدية أو لأي سبب ومبرّر آخر. ويمكن السؤال أيضًا لماذا تلجأ سلطة ما لإخفاء أو اختطاف شخص ما أو مجموعة أشخاص بصورة غير شرعية وتظل الشبهات تحوم حولها وحول العناصر المتواطئة أو المتعاونة معها؟ ولعل الأمر الخطير أن بعض السلطات تمارس الخطف والاختفاء القسري ضد مواطنيها، في حين تحرّم دساتيرها وقوانينها الوضعية، فضلًا عن الشرائع الدينية، مثل هذه الأعمال، وتعاقب على ارتكابها، فهل يراد لقضية المختفي قسريًا أن تبقى في دائرة الظل، وأن لا تسلط عليها الأضواء؟ آراء وحيثيات ربما كان ضيق صدر السلطات وتبرّمها من الرأي الآخر هو الذي يعطي بعض الإجابات المقنعة على أعمال تقوم بها الدولة، هي في تناقض مع أبسط مقوماتها كدولة وقد تكف من أن تصبح دولة باستمرارها، لكن ذلك جوابًا غير كاف، إلّا إنْ نَظرنا للأمر من زاوية عدم الثقة بالنفس والخوف من الضحية وانتهاك حرمة المجتمع وترويعه باسم الأيديولوجيا أو ادّعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة وغيرها من المبرّرات بما يؤدي إلى تدمير العلاقات الإنسانية بين البشر والتخلّص من الخصم أو حجب حقّه في التعبير، وهو ما تلتجئ إليه الأنظمة الاستبدادية والشمولية. هكذا صورت جهة دولية مستقلة حادث الاختطاف أو الاختفاء القسري بالقول: يصل بعض الرجال ثم يقتحمون مسكن أسرة من الأسر غنيّة أو فقيرة، منزلًا كان أم سقيفةً أم كوخًا في مدينة أو في قرية، في النهار أو في الليل، ويرتدون هؤلاء الرجال عادةً ملابس عادية أو زيًّا رسميًا في بعض الأحيان، ولكنهم يحملون السلاح دائمًا، ثم أنهم يقومون دون إبداء أي أسباب أو إبراز أي أمر بالقبض، ودون الإفصاح عن هويّتهم غالبًا أو عن السلطة التي يأتمرون بأوامرها بجر فرد أو أكثر من أفراد الأسرة إلى سيارة مستخدمين العنف عند اللزوم. ثم تبدأ فصول المأساة والعذاب بعد الاختفاء القسري Forced disappearance ليس للمختفي لوحده، بل لأسرته وللمجتمع، فالضحايا يظلّون يجهلون أي شيء عمّا يجري خارج مكان اختفائهم، وأسرهم تجهل هي الأخرى إن كانوا على قيد الحياة، فيكبر قلقهم مع مرور الأيام وينعكس ذلك على حياة الأسرة، خصوصًا الزوجة والأولاد، وتبعات ذلك قانونيًا واجتماعيًا ونفسيًا ومعاشيًا، إن كان هو معيلها الوحيد. والمجتمع الذي يفجع عادةً بفقدان شخص ما، خصوصًا إذا كان صاحب رأي لا يريد أن ينسى، وإلّا فإن الأمر سيصبح واقعًا مع مرور الايام، وقد يتكرّر دون رادع أو مقاومة أو احتجاج لتحديد المسؤولية، ووقف مثل هذه الانتهاكات اللّاإنسانية والتي تُعتبر ظاهرة خطيرة تهدّد السلم والأمن والاستقرار المجتمعي وتثير الرعب والفزع في النفوس. الخاطفون وحدهم هم الذين يراهنون على النسيان، سواء كانوا أفرادًا أم جماعات أم سلطة دولة وبعض أجهزتها كي تذبل القضية تدريجيًا، بل يصبح الأمر مجرد ذكرى، ولذلك تراهم يعمدون إلى التعتيم، بل يثيرون غبارًا من الشك لإبعاد الموضوع وإبقائه في دائرة الظل، ليتآكل تدريجيًا بالاهمال وازدحام الأحداث ودورة الزمن.
الاختفاء القسري: في المصطلح ودلالاته ظل موضوع الاختفاء القسري حسب المصطلح القانوني الذي تستخدمه الأمم المتحدة، أو الاختطاف حسب المصطلح السياسي والإعلامي المتداول، يؤرّق الضمير الإنساني والوجدان الشعبي، ويشغل أصحاب الفكر والحقوقيين والساسة والعاملين في الحقل الديني والمهتمين بالقضايا العامة، وبخاصة الصحافة ووسائل الإعلام، وهم من النخب السياسية والثقافية في الحكم وخارجه. إن المقصود بالاختفاء القسري هو احتجاز شخص معروف الهويّة أو أشخاص من جانب جهة غامضة أو مجهولة، سواء كانت سلطة رسمية أم مجموعة منظمة أم أفراد عاديين بزعم أنهم يعملون باسم الحكومة، وبدعم منها أو بإذنها وبموافقتها، فتقوم هذه الجهة بإخفاء مكان ذلك الشخص أو ترفض الكشف عن مصيره أو الاعتراف باحتجازها له. الاختفاء أو الخطف، سواء كان كليًا أم جزئيًا لفترة محدودة، يعني إلقاء القبض أو الاعتقال دون وجود سبب قانوني مشروع ينص عليه قانون الدولة. فالفرق بين القبض والاعتقال من جهة، وبين عمليات الاختفاء القسري من جهة أخرى، هو بسيط لكنه مهم، فبعض الدول التي تحكمها القوانين الاستثنائية أو قوانين الطوارئ أو تطلق فيها يد السلطة التنفيذية وأجهزة أمنها لتمتلك صلاحيات فوق القانون يعتقل المواطنون دون تهمة أحيانًا ولا يُعرف مكان اعتقالهم، وقد تطول المدّة أو يلقى المواطن حتفه تحت التعذيب ولا حساب على الجريمة طالما لم يسجّل ذلك في سجلات المعتقلين، فهم غير موجودين فعليًا فيتم دفنهم "هكذا بكل بساطة". وإذا أقيمت الدعوى للمطالبة بإجلاء مصائرهم فستكون مجردة ولا يوجد "مرتكب" على الرغم من أن الجميع يدركون من هو الجاني والمذنب الذي يوجّهون إليه أصابع الاتهام باستمرار.
الاختفاء القسري والشرعة الدولية لحقوق الإنسان إن ظاهرة الاختفاء القسري تنتهك على نحو صارخ منظومة متكاملة من حقوق الإنسان، تلك التي وردت في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهدين الدوليين حول الحقوق السياسية والمدنية والحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية واتفاقية منع التعذيب وغيرها. وبارتكاب جريمة الاختفاء القسري تكون الدولة قد خرقت الشرعة الدولية لحقوق الإنسان، سواء الحقوق الجماعية أم الحقوق الفردية، وخصوصًا الحق في الحياة والحرية والأمان الشخصي، والحق في ظروف احتجاز إنسانية، أي عدم الخضوع للتعذيب أو المعاملة القاسية أو الحاطّة بالكرامة، والحق في الاعتراف بالإنسان كشخصية قانونية، والحق في محاكمة عادلة، والحق في حياة أسرية طبيعية، وكل تلك الحقوق ينتهكها الاختفاء القسري. لقد أولت الأمم المتحدة اهتمامًا مبكرًا بظاهرة الاختفاء القسري، منذ العام 1979، وفي 18 كانون الأول/ ديسمبر ،1992 أصدرت "إعلان بشأن حماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري أو غير الطوعي"، واعتبرت الاختفاء القسري جريمة ضدّ الكرامة الإنسانية. علمًا بأن جريمة الاختفاء القسري لا تسقط بالتقادم ولا يستفيد مرتكبوها من أي قانون للعفو الخاص.
منصور الكيخيا ودائرة الضوء الجدير بالذكر أن المنظمة العربية لحقوق الإنسان كانت قد وضعت برنامجًا من 10 نقاط بشأن المختفين قسريًا، وذلك إثر اختفاء عضو مجلس أمنائها منصور الكيخيا من فندق السفير بالدقي في القاهرة في 10 كانون الأول / ديسمبر 1993، حيث كنّا نحضر سويًا اجتماعًا للجمعية العمومية الثالثة. وقد اعتُبر منصور الكيخيا رمزًا للمختفين قسريًا، وهو ما جئت عليه في كتابي "الإنسان هو الأصل: مدخل إلى القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان" (القاهرة- 2002)، وكنت قد عالجت موضوع الاختفاء القسري في كتاب مستقل بعنوان "الاختفاء القسري في القانون الدولي: الكيخيا نموذجًا"، والذي صدر باللغتين العربية والإنكليزية عن دار الشؤون الليبية في العام 1998، كما شكّلنا لجنة لإجلاء مصير منصور الكيخيا برئاسة الشاعر الكبير بلند الحيدري وعضوية شخصيات عربية وازنة، وأصدرنا فيلمًا عنه بعنوان "اسمي بشر" من إخراج عضو اللجنة التنفيذية للمنظمة العربية لحقوق الإنسان في لندن محمد مخلوف. وكنت قد كتبت بعد أيام من اختفاء منصور الكيخيا مقالةً بعنوان "رسالة من منصور الكيخيا إلى المثقفين العرب" في جريدة القدس العربي (ديسمبر / كانون الأول 1993)، أشرت فيها إلى أهمية التضامن لإجلاء مصير المختفين قسريًا، وإلّا فإن الدور سيأتي على الجميع الواحد تلو الآخر. وحين أجلي مصير منصور الكيخيا بعد الإطاحة بنظام الزعيم القذّافي تمّ الكشف عمّا تعرّض له بعد اختفائه قسريًا ونقله إلى طرابلس وقضائه 4 سنوات في قبو وبعدها فارق الحياة، حيث كانت السلطات تنكر وجوده، وكانت المفارقة المفجعة أنه بعد أن توفاه الله وُضع في ثلّاجة (براد) لنحو 14 عام، إلى أن تمّ العثور عليه بعد دفنه إثر قيام الثورة وهروب الحراس الذين كانوا يحرسون الفيلا التي كان فيها جثمانه، والذي تشوّه ولم يتعرّف عليه أحد، إلى أن جاء وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور ليبحث عن رفاة السيّد موسى الصدر، الذي اختفى قسريًا في ليبيا كذلك العام 1978، وعن طريق الحمض النووي قورنت عينات الجثة الغامضة مع عينات ابنه رشيد وشقيقه محمود، وهكذا تبيّن أن الجثة تعود إلى منصور الكيخيا، وقد أقامت له السلطة الجديدة حفلًا تكريميًا على صعيد الدولة، دعيت إليه في العام 2012 وألقيت فيه كلمةً في طرابلس وأخرى في بنغازي بعد دفنه في تشييع رسمي، وتلك قضية أخرى كنت قد رويتها بمقالة في جريدة السفير بتاريخ 1 كانون الأول / ديسمبر 2012 بعنوان "منصور الكيخيا والرهان على سلطة الضوء". ولعلّ مناسبة هذه المقالة هي الذكرى 31 لاختفاء منصور الكيخيا قسريًا، والتي تصادف الذكرى 76 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (10 ديسمبر / كانون الأول 1948).
#عبد_الحسين_شعبان (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
طيران فوق عش الوقواق
-
الكويت ونخبها الفكريّة والثقافية تكرّم عبد الحسين شعبان
-
فقه العدالة الانتقالية
-
كوب 29 والعدالة المناخية
-
اللّاجئون والهجرة غير الشرعية
-
الحياة المشتركة في الشرق الأوسط سؤال شك أم سؤال يقين؟
-
مفكران وسبعة وزراء في أصيلة
-
المفكر العراقي عبد الحسين شعبان في ندوة عن المثقف والسلطة
-
بعض إشكاليات الجمعيات المهنية ومشكلاتها
-
آخر الثوريين الحالمين
-
الديبلوماسية الاقتصادية والعلاقات الدولية
-
الكاتب والصحافي يحيى علوان في ذمة الخلود
-
روح غاندي وفلسفة التسامح
-
-ترست الأدمغة- جديد عبد الحسين شعبان
-
عقوبة الإعدام بين العدالة والانتقام
-
شذرات من ذاكرة كردستانية (الحلقة الثالثة والأخيرة)
-
المفكّر العربي الكبير عبد الحسين شعبان محاضرًا في كردستان: ن
...
-
هارفرد أم هوليود أيهما الأكثر تأثيرًا؟
-
أحمد الحبوبي الكبرياء والضمير في تجلياتهما
-
زرع ثقافة السلام
المزيد.....
-
الأمم المتحدة تدين قصف الاحتلال مدرسة في خان يونس
-
منظمة التحرير الفلسطينية تعلن انطلاق الحملة الرقمية لدعم الأ
...
-
صراع السياسة يعطل حقوق الإنسان.. المفوضية خارج الخدمة منذ سن
...
-
ليبيا: الأمم المتحدة تطرح خطة لإصلاح المؤسسات وإجراء انتخابا
...
-
الأمم المتحدة تقترح خطوات جديدة لحل الأزمة السياسية في ليبيا
...
-
روسيا تحث الأمم المتحدة على سرعة تعيين مبعوثها الخاص إلى ليب
...
-
جمعوا أمولا طائلة - عناصر نظام الأسد والاتجار بمصير المعتقلي
...
-
مجلس النواب الليبي يرفض إحاطة خوري ويطالب الأمم المتحدة بتحم
...
-
-مقبرة المتوسط- تكشف يوميات إنقاذ المهاجرين في أخطر طرق الهج
...
-
عائلات الأسرى الإسرائيليين تصعّد حراكها المطالب بإعادة أبنائ
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|