أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - صائب خليل - محاكمة العراق الناقصة، قمة عالمية في العدالة يصعب تكرارها















المزيد.....


محاكمة العراق الناقصة، قمة عالمية في العدالة يصعب تكرارها


صائب خليل

الحوار المتمدن-العدد: 1786 - 2007 / 1 / 5 - 12:37
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


يكاد الجميع, من كارهي صدام ومحبيه والمراقبين الحياديين ايضاً, يتفق اليوم على ان محاكمة صدام كانت محاكمة سيئة وان العدالة لم تأخذ مجراها كما يفترض بها. ورغم موافقتي على كل ما جاء من اعتراضات على سير المحاكمة ونواقصها وكيف كان يمكن ان تدار بشكل افضل, اود هنا ان اطرح وجهة نظر أخرى تماماً فأقول: ان العدالة في هذه المحاكمة الناقصة, حققت نصراً كبيراً ووصلت قمة يصعب الوصول اليها وبلغت مستوى قد يستحيل المحافظة عليه مستقبلاً لكبر التضحيات التي تتطلبها ادامة مثل هذا المستوى من العدل. ليس على مستوى العراق والعالم الثالث, بل العالم ايضاً!

كيف نقيس قوة العدالة في محاكمة ما؟ يمكن القول ان كمية العدالة تتناسب عكسياً مع المسافة بين المحاكمة الفعلية وبين الشكل المثالي لها. لكن هذه المسافة ليست قياساً مناسباً لأنها لاتأخذ بنظر الإعتبار المعوقات التي كان على العدالة ان تتغلب عليها في تلك المحاكمة. فمبدأ استقلال القضاء مثلاً, يخضع مثل كل المبادئ, لإعتبارات عملية، ويصلح كهدف يتم الإتجاه نحوه والإقتراب منه قدر الأمكان لا ان يؤمل الوصول اليه. أما "العدالة" فهي الدافع المحرك والجهد المبذول بإتجاه ذلك الهدف. بالمقابل, هناك "معوقات للعدالة" تتمثل بالضغوط بكافة انواعها من عاطفية وسياسية ومصالح وقوة عسكرية وفساد وغيرها تعمل من خلال التأثير على القضاء وتخريب استقلاليته.
المسافة التي ستفصل اية محكمة عن الشكل المثالي لها سيحددها إذن, ليس قوة العدالة وحدها بل الصراع بين كل تلك المؤثرات السيئة وبين مبادئ العدالة واستقلالية القضاء التي تعمل على ابقاء المحكمة واجراءاتها اقرب ما تكون الى المثالية.

ففي محكمة لاتلعب فيها اية معوقات قوية من مصالح او عواطف او مفاسد دوراً هاما, يسهل عادة الوصول الى محكمة مثالية حتى ضمن نظام قضائي محدود الإستقلالية وضمن مبادئ عدالة ضعيفة. فمن المتوقع مثلاً ان تجري محاكمات مثالية للقضايا الشخصية والعائلية للناس الإعتياديين وفي محاكمة اللصوص الصغار حتى في البلدان الفاسدة, لذا لاتدل جودة تلك المحاكم على قوة العدالة في البلد بالضرورة.

بالمقابل, فأن تلك المبادئ تتعرض في المحاكمات الكبيرة وخاصة السياسية, الى معوقات كبيرة وتضعها امام تحديات ضخمة تتطلب في العادة جهوداً جبارة وتضحيات جسيمة لأبقاء المحكمة ضمن مسافة معقولة من الحالة المثالية. سنفحص قوة العدالة في اية دولة بمراقبة سير محاكمة تتعرض فيها تلك العدالة لمقارعة مصالح قوية.
ولو عدنا الى تأريخ البلدان الديمقراطية, وهو تأريخ استعماري عادة, فسنجد بسهولة الكثير من الأمثلة على هزائم العدالة والمبادئ واستقلالية القضاء حيثما كانت هناك مصالح سياسية اواقتصادية او مصالح متنفذين على المحك مع مصالح اضعف منها لفقراء او شعوب مستعمرة (بفتح الميم) او مهزومين سياسياً او عسكرياً.

في مثل تلك المقارنة ستنتصر محاكمة صدام على المحاكمات الصعبة في تلك الدول بسهولة, لكنني سأضع امام محاكمتنا مقارنات صعبة ببضعة امثلة من الحاضر والتأريخ القريب وسأكتفي بالدول المعترف بها كدول ديمقراطية بدرجة او باخرى,. سأشير لضيق المكان الى العدالة الأمريكية والأوربية بشكل عام فيما ساشير الى امثلة لمحاكمات محددة في بريطانيا وايطاليا, وببعض التفصيل لمحاكمات محددة في هولندا لمعرفتي بها اكثر من غيرها ولأنها تعتبر مركزا عالمياً للقضاء الدولي, وهي اضافة لذلك معروفة كدولة قانون من الدرجة الأولى.

ففي اميركا, حيث الجهاز القضائي القوي شديد الإستقلالية, سجل هذا القضاء بضعة انتصارات والكثير من الهزائم مؤخراً حينما تعلق الأمر بما اعتبر مصالح امريكية اساسية في الأمن, فاخترع السياسيون نمطاً من الناساطلقوا عليهم "مقاتلين غير شرعيين" ووضعوهم في سجن كوانتانامو وسجون اخرى منتشرة في العالم, وتمكنوا بضغوطهم المختلفة من منع القانون الأمريكي من حمايتهم لخمسة سنين حتى الآن رغم ان المعركة مازالت مستمرة. بالتأكيد فان معتقلي كوانتاناموا اقل خطراً على اميركا بكثير من الخطر الذي يمثله صدام على العراق في هذه اللحظة, ولا شك ان محاكمة صدام العلنية بكل نواقصها ارقى كثيرا من الطريقة التي تعامل بها العدل الأمريكي مع سجناء كوانتانامو, رغم ان عددا منهم كان من القاصرين وقت اعتقالهم.

أما اسرائيل فلديها عدالة عنصرية تطبق على اليهود فقط (وليس بعدل لكل اليهود دائماً). وهو مؤشر لفشل العدالة الأسرائيلية في مواجهة الدفع العنصري الشديد والمصالح المترتبة عليه لدى شعب اسرائيل. آخر هزائم استقلالية القضاء ومبادئ العدالة كان في منتصف شهر كانون اول 2006 حيث اقرت المحكمة العليا الإسرائيلية "قانونية" الإغتيالات السياسية للحكومة الإسرائيلية المسماة " القتل الهادف" (“targeted killings” ) الموجهة ضد اعضاء المنظمات الفلسطينية في الأراضي المحتلة, واعتبرته مبرراً ومنسجماً مع القانون الدولي (*). مثل هذا القرار يلغي التزام اسرائيل باي شكل من اشكال المحاكمة لمن تعتبره حكومة اسرائيل تهديداً لدولتها, ويجعل حتى من قتل الأبرياء في مكان الضربة امراً لايحاسب عليه القانون. انه قتل بلا محاكمة, لذا فهو ابعد مسافة يمكن ان تكون عن المحكمة المثالية(*). كذلك فهناك قوانين عنصرية صريحة تعيق العديد من الأمور بالنسبة للعرب في اسرائيل مثل الزواج والتنقل والسكن وتعرقل شكاوي المواطنين الفلسطينيين عن استيلاء المواطنين من اليهود على ممتلكاتهم. فعندما توضع العدالة في اسرائيل امام مصالح قوية سياسية وعنصرية فأنها لاتسجل الإنتصارات عادة.

وحين اعتبرت اوروبا ان لها مصالح امنية اساسية مهددة في موضوع التهديد الأرهابي, اتخذت مجموعة من الإجراءات لتعطيل عمل القانون في حق محاكمة عادلة للمتهمين بالإرهاب, بل واقرت الحق في حبسهم مدداً طويلة جداً دون توجيه اية تهمة اليهم, كما اقرت الغاء عمل القوانين المحددة لشروط التجسس على مواطنيها غير المتهمين او المشكوك بهم ايضاً. وقد شملت تلك الإجراءات ايضاً منظمات يتم منعها من العمل بعد الموافقة على ادراجها ضمن قائمة "سوداء" دون اية محاكمة او اي قاض يصدر حكماً قضائياً بذلك.
كذلك تخالف اوروبا بشكل فضائح متكررة حتى تطبيق قوانينها التي تم اضعافها, لتزيد تلك المخالفات العملية من تحديد قدرة الدفاع عن المتهمين بالقضايا الحساسة عن انفسهم. وأشهر تلك الفضائح كانت فضيحة تعاون اوروبا السري في اخفاء سجون وكالة الإستخبارات المركزية الأمريكية السرية المنتشرة في بلدان اوروبا الغربية والشرقية (اضافة الى ودول اخرى مثل مصر والأردن والعراق). هذه السجون بعيدة عن طائلة القضاء في تلك الدول مثلما هي بعيدة بالطبع عن القضاء الأمريكي.
نشير بسرعة كذلك الى مثالين محددين الأول من ايطاليا حيث فشل القضاء بشكل مدوي امام الفساد المالي القوي حين حاول ملاحقة رجل المال والإعلام, رئيس الحكومة السابق برلوسكوني الذي تلاحقه فضائح وتهم خطيرة للغاية تشمل رشوة القضاء نفسه.
اما المثال الثاني فمن بريطانيا حيث خيم الصمت المخيف على فضيحة قضائية مرعبة حدثت صباح 22 تموز 2005. فقد رفض القضاء حتى التحقيق وملاحقة الشرطة التي تبين انها قتلت بدم بارد المواطن من اصل ارجنتيني في محطة مترو عامة. بل ذهبت الى تأليف قصة لا اساس لها اطلاقاً من الصحة بأنه كان قد اثار شكوكها بحركاته وركضه وقفزه الحواجز وانه كان يرتدي سترة سميكة ويحمل حقيبة شكوا بان فيهما متفجرات, بينما تبين ان شرطيين بملابس مدنية انقضا عليه وهو يقرأ في جريدته والقياه ارضاً وافرغا سبعة رصاصات في رأسه. بعد كشف الحقيقة اعترفت الشرطة بها واعتذرت عن "المأساة" ولم تلاحق قضائياً (**).

اما في هولندا فهناك عدة امثلة عن تخلي الدولة عن اصول الملاحقة القانونية عندما تشعر ان القضية خطيرة حتى بدرجة معتدلة او تقع تحت ضغط اعلامي او سياسي قوي.

فالحكم المشدد على محمد بويري, قاتل المخرج فان خوخ كان بلا شك بسبب الضغط السياسي والصحفي وكذلك الإجراءات المتعلقة بكشف اسمه الكامل وصورته وعرضها في التلفزيون قبل ادانته وكثرة التعليقات الحادة على المحاكمة قبل نهايتها من قبل الصحافة والسياسة, وهي امور مرفوضة, وضع المحاكمة بلا شك تحت جو غير طبيعي لم يكن ممكنا الحديث فيه عن استقلال القضاء.
حدث امر مشابه في محاكمة قاتل السياسي بيم فورتان, فلم يكن بالإمكان على الإطلاق تجاهل الضغط السياسي والإعلامي الشديد الموجه على المحكمة ولم يتوان الكثير من المسؤولين عن مخالفة العرف السائد بعدم الإدلاء بتصريحات قد تؤثر على سير محكمة جارية.
وفي حالة يفترض ان تكون ابسط من ذلك في محاكمة ايريك او, ضابط الصف الذي قتل مدنيا عراقيا برصاصة في ظهره وعلى بعد اكثر من مئة متر وفي جو شهد رفاقه بانه لم يكن يمثل اي تهديد. جرت المحكمة بجو مفعم بالشعور القومي العنيف وتحولت جريمة قتل واضحة من اجل التسلية الى عملية بطولية صار فيها ايريك او بطلاً قوميا تقريباً وتم تمزيق المدعي العام اعلاميا وكذلك وزارة العموم المسؤولة عن الشكوى واشترك عدد كبير في هذا السيرك القضائي الذي برأ ايريك او في النهاية, والذي قال انه ليس نادماً على ما فعل بالرغم ان دفاعه كان يستند الى انه لم يكن يقصد القتل بل التخويف (وهو ما لاتسنده الوقائع وشهادة رفاقه) وفي هذه الحالة يكون هناك على الأقل "قتل بالخطأ" ويفترض على الأقل الشعور بالأسف وليس خلق بطل.
كذلك كانت تجري كل محاكمات المتهمين بالإرهاب في هولندا بجو مفعم بالتوتر ويكثر الحديث عن تغيير القانون ان لم يكن بالإمكان اثبات التهم بواسطة القوانين المتوفرة. كذلك يجري سجن المتهمين لفترات طويلة ولأسباب تافهة احياناً بدون توجيه تهمة. وان برأت المحكمة احداً فانها تلقى الكثير من التقريع الصحافي على "الفشل" في اثبات التهمة على المتهمين الذين يعاملون كمجرمين قبل انتهاء المحكمة بل وحتى بعد التبرئة, ولم يتم تعويض اي من المبرئين حسب علمي. لم يكن هؤلاء يمثلون حتى في اسوأ الأحوال اي خطر على هولندا يناظر الخطر الذي يمثله صدام على العراق, ورغم ذلك تراجعت العدالة امام الضغوط بشكل فاضح.

اما محكمة ميلوسوفيج فكانت هي الأخرى تحت الضغط السياسي الواضح. خلالها كان القاضي كثيرا ما يمنع ميلوسوفيج من الكلام, لكنه رغم ذلك استطاع الإستفادة من الفرص التي اتيحت له ودافع عن نفسه بشكل ممتاز وحصل على شهود ذو وزن كبير من قيادات بريطانية اساسية في حرب البلقان شهدوا لصالحه. لذلك ربما كان احتمال تبرئة ميلوسوفيج خطيرا بالنسبة للأمريكان بشكل خاص, بحيث منع ميلوسوفيج من الكلام واجبر على اتخاذ محام يتكلم بدلاً منه بحجة انه كان مريضاً.
اخيرا "مات" ميلوسوفيج بطريقة غريبة في السجن حيث تبين ان الدواء الذي كان يستعمله لخفض ضغطه المرتفع كان يزيد من الضغط, وهو ما حدى بمحاميه اتهام ادارة السجن بقتله العمد, حيث لم يكن ممكنا تهريب اي دواء له دون علمهم, كما انه من الثابت من السجلات ان ادارة السجن كانت على علم بان العلاج الذي كان ميلوسوفيج يستعمله كان له تأثير معاكس قبل اسبوعين من "وفاته".
ميلوسوفج هو الآخر لم يكن خطراً يهدد هولندا ولا اميركا المتنفذة فيها بالشكل الذي يقارن بتأثير صدام على العراق, ورغم ذلك لم تصمد العدالة الدولية في هولندا امام تلك الضغوط الخفيفة نسبياً.

من كل هذا لم ارد القول ان القضاء العراقي افضل من القضاء الأمريكي او الأوربي لكني اردت ان ابين ان القضاء في هذه الدول المتقدمة الراسخة في القانون والديمقراطية يتعرض هو الآخر الى الضغط وان استقلاليته نسبية فقط وتتعرض للكثير من التشويه حين يكون موضوع المحاكمة خطيراً او يتم طرحه باعتباره خطير بواسطة الصحافة والسياسة, اي عندما يتعرض استقلال القضاء ومبدأ العدالة الى عوائق قوية لفرض سلطتهما.
فهنا ايضاً يقف القضاء مقاوماً الضغط احياناً وينحني احياناً اخرى فتقل المسافة بين المحكمة الفعلية والمحكمة المثالية او تزيد حسب قوة تلك الضغوط وشجاعة القاضي ومن حوله ممن يصر على سيادة القانون وحريته.
الفرق بين جودة المحاكمات في الغرب من جهة والعراق الحالي من جهة اخرى لا يكمن في قوة الإصرار على العدالة في اوروبا قياساً بها في العراق, بل في ضعف التحدي الذي تواجهه الأولى مقارنة بالثانية.

لذلك إذا فحصنا محاكمة صدام من هذا المبدأ فاننا نجد انها يجب ان تعتبر انجازاً تاريخياً عراقياً بل عالمياً في مستوى المحافظة على مبادئ العدل وسلامة الإجراءات القانونية. فقد اعطي لصدام وقت طويل للكلام ونقلت اجزاء كبيرة من المحاكمة في التلفزيون رغم استفادة صدام منها اعلامياً في وضع شديد الحساسية بالنسبة الى الحكومة. وقد تمت معاملة صدام بأدب كاد للمبالغة به ان يشل المحكمة في مناسبات عديدة, وسمح لصدام والمتهمون ان يتصرفوا كأسياد للمحكمة مما ادى ان الناس احتجت على تلك المعاملات المبالغ في وديتها مع المتهمين والقاسية مع الشهود والإدعاء وادى ذلك الى تغيير القاضي في احدى المرات.
لقد استغرقت المحاكمة اقل من الوقت المثالي الذي كان يجب ان تستغرقه لمحاكمة صدام على كل جرائمه, وربما كان هذا الإختصار بتأثير ضغوط سياسية لحماية الإدارة الأمريكية من تهم خطيرة, وهي ضغوط لم تتمكن عدالة هذه المحكمة من تحملها. ولو قارناها بمحاكمة ميلوسوفيج, فان الأخيرة قد استغرقت زمناً اطول من الأولى, ولكن طبعاً بظروف اقل كلفة بكثير. ورغم ذلك فأن كلفة طول محاكمة ميلوسوفيج دفعت بالقضاء الهولندي الى رفض طلب ميلوسوفيج للعديد من الشهود, واثارت موضوعاً لدراسة الوسائل القانونية الممكنة لتقصير المحاكمة.

فترة محاكمة صدام غير الكافية كانت فترة خطيرة شديدة الكلفة ليس على فريق دفاع المتهم فقط بل ايضاً على القضاة والإدعاء وقد سقطت العديد من الضحايا من الطرفين. وهذا يثير التساؤل ان لم يكن الدافع للعدل اكبر من المعقول حين يكون ثمنه قتل ابرياء كنتيجة حتمية لمحاولة اقراره, وان كانت محاكمة عاجلة ليست مبررة قانونياً للتقليل من الضحايا.

من كل هذا يمكن القول ان محاكمة صدام قد كلفت العراق كثيراً جداً واكثر كثيراً مما لدى اي دولة ديمقراطية حديثة من استعداد لتحمله. هذه التضحيات من اجل العدالة ورمز العدالة هي ما وازن المحكمة بين الجيد والسيء وجعل المسافة بينها وبين المحاكمة المثالية معقولاً ومنع استبدالها بمحاكمة صورية مستعجلة. وهو مؤشر ان روح العدالة كانت موازنة بدرجة ما للضغوط الهائلة التي تعرضت لها هذه المحكمة بكل شخوصها, لذا فأن ما تحقق يعتبر بتضحياته الجسيمة نصراً كبيراً للعدالة يفوق المقاييس العالمية بشكل واضح.

جدير بالقول ان مثل هذه التضحيات من اجل العدالة ليست بالتأكيد ولن تكون السياق العام للقضاء العراقي فتكلفتها اكبر مما يحتمل اي نظام في العالم. ولذا نجد بالطبع ان محاكمة الكثيرين من المتهمين بجرائم اقل خطورة من تهم صدام حسين كثيراً, لم يحصلوا على مثل تلك المعاملة. يمكن لوم القضاء العراقي على تلك المحاكمات وعلى سياقه العام, اما توجيه اللوم له بسبب محاكمة صدام بالذات دون غيرها فأمر معكوس المنطق يفسره الإعلام والمصالح اكثر مما يفسره نقص في العدالة.

أن اشتراط المثالية القصوى تعجيز يدركه القضاء في كل مكان. ففي جميع قوانين العالم المتحضر تجري الإشارة الى "محاكمة عادلة" (Fair Trail) وليس "محاكمة متكاملة", فالنقص والخطأ امور لا مفر منها مادام النقص البشري مرافقاً بالضرورة لكل عمل يقوم به الإنسان. العبرة والقياس الذي يجب ان نحكم به على عملنا لنفخر به او نخجل منه هو الجهد المبذول والتضحية المقدمة من اجل تقليل الخطأ وتمكين المبادئ والإقتراب من قوانينها قدر الأمكان, وربما كانت تضحيات الشعب العراقي اكبر من اية تضحية عرفتها الإنسانية لضمان العدالة لفرد من الناس, دع عنك اكثر الأفراد دموية واضطهاداً في تاريخ شعبه. ففي الوقت الذي كان العراقيون يدفعون بدمائهم ثمن الوقت والفرصة للمتهمين ليقولوا دفاعهم بل ويستغلونه للمزيد من الإضرار بالشعب وزرع الفتنة, اختار الآخرون غالباً في مثل هذه الظروف المحاكمات السريعة الشكلية او القتل المباشر.

فياشعب العراق...يا شعبي المذبوح من الوريد الى الوريد...دع من يرفع صوته هادراً من اجل "الإنسانية" و "العدالة" ان يبرهن اولاً انه على استعداد لتقديم تضحيات اكبر مما قدمته, او مثلها او عشرها, من اجل ما يدعوا اليه من مبادئ, قبل ان يشارك في مهرجان المجانين هذا حيث لايتوقف تكبير وتعظيم وتقديس صغائر "العيد" و"استفزاز" و "تصوير" و"حارس هتف متشفياً". ان من يطالبك بـ"عدالة مطلقة" متكاملة يضع امامك المستحيل, راجياً حرمانك نشوة انتصارك التي اشتريتها بدمائك الغزيرة العزيزة.
ليس عليك يا شعبي ان تعتذر لأحد ممن لم تحتج انسانيته الضامرة إلا لتأوه جلادك دون ضحاياه الملايين, ولم ينتفض عدلهم المريض إلا للصغير من الخطأ دون الظلم الهائل الذي لحقك، ولم يستيقظ ضميرهم المتضخم باعوجاج إلا على التفاصيل المزعجة دون الكوارث التي احاقت بك عقوداً.

ليس لك يا شعبي ان تخجل او ان تحشر نفسك في قفص الإتهام وان تتأتئ دفاعك عن نفسك. بل لك ان تفخر بنصرك الثلاثي الكبير على الظلم والدكتاتورية المذلة, وان تحفظه باعتزاز عن ظهر قلب: إزالة الصنم المخيف وكسر تراث قتل الحكام السابقين بهمجية دون محاكمة, وتثبيت الحق, باحترامه حتى لأكثر البشر وحشية في تاريخك واشدهم اضراراً بك وقسوة عليك وارهاباً لك. لقد استضفت من الحق في احلك واقسى ايام حياتك, وأشدها رعباً، ما عجز عنه هؤلاء الناحبون على "العدالة المطلقة" في سنوات راحتهم ورفاههم, فمن الذي يجب ان يخجل من الآخر؟ ومن يجب ان يفسر موقفه للآخر؟ ومن يحاسب الآخر ومن يحكم على الآخر؟

لك ان تفخر, بل عليك ان تفخر وتحتفل وإلا فما انت بمنصف من قدمته اضحية من اجل شوقك للعدالة التي اخترعتها قبل الاف السنين ثم حرمت منها طويلاً طويلاً... لقد حق عليك ان تفخر وتحتفل يا شعب العراق, ولا فما انت بمنصف نفسك, وليس لمن لاينصف نفسه ان يطالب الآخرين بذلك!


(*) http://www.wsws.org/articles/2006/dec2006/isra-d16.shtml

(**) http://www.justice4jean.com/about_campaign_2207.html



#صائب_خليل (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين
حوار مع الكاتبة السودانية شادية عبد المنعم حول الصراع المسلح في السودان وتاثيراته على حياة الجماهير، اجرت الحوار: بيان بدل


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- مقطعان ملفتان للنظر من رسالة صدام حسين الوداعية
- الخوف من محاكمة الحقائق- رد على سامر عينكاوي
- ارهابيي الرياضة والرمز: وعي متقدم لاطائفي
- دفع المالكي الى الإنتحار
- القابض على الجمر: مراجعة للتهم الموجهة الى جيش المهدي
- ثلاثة افكار من اجل رد ثقافي على الطائفية والإرهاب
- عادل امام يصالح السنة والشيعة
- الإعتقال المطول السابق لتوجيه الإتهام نوع من التعذيب
- ذكرى مقتل جون لينون, الخنفس اليساري الذي ارعب اقوى رجل في ال ...
- البعث يدافع عن مجتثيه
- إنتقم من الخطأ
- عن وردة سعدون وارض الخوف وميلاد المقاومات الثلاثة
- قتل الأمل
- الإنتخابات الهولندية: عواصف شديدة فوق الأراضي المنخفضة
- خطة طوارئ للدراسة الجامعية في زمن الإرهاب
- كيف يتخذ الإنسان العراقي موقفاً من كل هذا؟ -2: ضرورة القراءة ...
- كيف يتخذ الإنسان العراقي موقفاً من كل هذا الضجيج؟
- الحكم على صدام, فرحة نصر وتفاؤل حذر
- الحكم على صدام, وتفاؤل حذر
- أمسك خصمك متلبساً بقول الحق وامتدحه!


المزيد.....




- من الصين إلى تشيلي والمكسيك.. بعض البلدان تعاني حرارة شديدة ...
- مقتل إسرائيلي بالرصاص بالضفة الغربية والجيش يعلن فتح تحقيق
- -اليونيفيل-: استهداف المواقع الأممية في لبنان أمر مرفوض 
- باتروشيف: مسؤولو الغرب يروّجون الأكاذيب حول روسيا للبقاء في ...
- هجوم محتمل للحوثيين في اليمن يستهدف سفينة في خليج عدن
- مقتل إسرائيلي في إطلاق نار في قلقيلية بالضفة الغربية المحتلة ...
- كشف سبب الموت الجماعي للفقمات في مقاطعة مورمانسك
- دعوة روسية للحيلولة دون انهيار الاتفاق النووي مع إيران
- عالم سياسة أميركي: حماس تنتصر وإستراتيجية إسرائيل فاشلة
- فيديو يرصد الحادثة.. السلطات الأردنية توضح طبيعة -انفجار عمّ ...


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - صائب خليل - محاكمة العراق الناقصة، قمة عالمية في العدالة يصعب تكرارها