|
فقه الولاء و البراء
العفيف الاخضر
الحوار المتمدن-العدد: 1786 - 2007 / 1 / 5 - 12:38
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
نظرة وداع على أحداث عام 2006 (2/2)
اشرف عبد القادر وناصر بن رجب: تماشيا مع الملفات التقيميية التي جهزتها إيلاف لعام 2006، محاولةً لفهم مسار العام من خلال رصد أهم أحداثه الفكرية والسياسية والاجتماعية، واعطاء فرصة لقرائها لمراجعة نقدية، أجرينا حديثا شاملا مع المفكر التونسي العفيف الأخضر يحلل فيه أهم الأفكار والوقائع التي تعارضت خلال عام 2006. انظر الحلقة الأولى وتجنب السقوط في روتينية السؤال والجواب الشائعة، لخصنا الأسئلة في عناوين فكرية مكثفة يسمح لمفكرنا العفيف الأخضر أن يجيب على نحو محوري ومركز
الحرب السنية / الشيعية: هل ستكون حرب المئة عام الإسلامية؟ من أخبار 2006 السيئة انتشار رقعة الحرب الشيعية / السنية. لقد كانت محصورة في أفغانستان الطالبانية، وفي باكستان، وفي إيران حيث تحرم {الجمهورية الإسلامية الشيعية الجعفرية}، كما يسميها دستورها على السنة امتلاك جامع في طهران يؤدون فيه صلاة الجمعة. علماً بأن الشيعة والسنة يكفر بعضهم بعضا لذلك لا يصلي بعضهم وراء بعض، ولا يأكل بعضهم ذبائح بعض،ولا يتزوج بعضهم من بعض. الواقع أن الدولة السنية هي أيضا دولة طائفية بامتياز لذلك حُرمت الأقليات الشيعية فيها، على غرار جميع الأقليات الأخرى الدينية والقومية، من حقوق المواطنة الكاملة. وحتى من الحريات الدينية الأساسية كحرية العبادة. نعرف مثلا كيف أن حكومة طالبان السُنية اضطهدت شيعة أفغانستان. فقتلت رجالهم وسبت نسائهم وحرمت عليهم زيارة القبور التي هي جزء لا يتجزأ من الإسلام الشيعي ومن حرية العبادة المضمونة في القانون الدولي. شيعة الخليج يُقاسون أيضا من الاضطهاد ألواناً وقد أصدر بعض العلماء في السعودية في بداية التسعينات فتوى تُحرم أكل ذبائح الشيعة. أما في عراق صدام، حيث يشكلون أغلبية السكان، فقد كانوا يُعاملون كــ{ أقلية معادية} ويمارس النظام ضدهم وضد الكُرد السنة جميع أنواع الاضطهاد بما فيها دفنهم أحياء وضرب الكُرد بأسلحة الدمار الشامل الكيماوية... بعد زوال كابوس صدام فاجأهم كابوس "المقاومة العراقية الإسلامية" التي كان إنتحاريوها يفجرون أنفسهم في المصلين الشيعة وفي الحجاج الشيعة إلى العتبات المقدسة. وأخيرا عام 2006 فجرت المقاومة السنية المراقد الشيعية المقدسة التي شكلت شرارة انطلاق الحرب الطائفية السنية/الشيعية في العراق. حتى في لبنان، حيث لا يكابد الشيعة إي اضطهاد مشابه، ومع ذلك فأن النخب السنية المتعاقبة تعامت عن فقرهم وغَبْنهم السياسي بالرغم أنهم من بين الـــ17 طائفة لبنانية، أكثر الطوائف عددا وحرمانا. وهذا ما شكل أرضية خصبة لنمو وتجذر حزب الله،الإيراني الولاء، بينهم على حساب النخبة الشيعية الدينية والسياسية المعتدلة والمتجذرة في لبنانيتا كــ{أمل} التي يقودها الرئيس نبيه بري. طالما لم تفصل الدولة في أرض الإسلام الدين عن السياسة لتصبح دولة لجميع مواطنيها، على غرار باقي دول العالم، فأنها ستظل فريسة للتوترات والحروب الدينية والطائفية، وستظل أقلياتها لا تشعر بأي انتماء إلي هذه الدولة الطائفية التي تقصيهم دستوريا وعمليا من حقوق المواطنة الكاملة وتعاملهم كمجرد مقيمين غير مرغوب فيهم لتهجيرهم. دولة لا تجد، كحل لتعدديتها الدينية والقومية، غير تهجير مواطنيها الذين لا ينتمون إلى دين أو قومية الأغلبية الحاكمة هي دولة ما قبل حديثة وغير قابلة للحياة في القرن الحادي والعشرين. عدم الفصل بين السياسة والدين وبين الدين والدولة هو الذي يوشك أن يقود المسلمين إلى حروب دينية وطائفية مستوطنة. يبدو أن هذه الحرب السنية/الشيعية بدأت تضرب أبواب لبنان، فقد أحتل حزب الله، بأمر من أمينه العام السيد حسن نصر الله، بيروت في نهاية 2006 مطالبا بإسقاط الحكومة اللبنانية التي يرأسها سُني. وهذه مبادرة مجنونة قد تقود لبنان إلى حرب طائفية قد لا تنتهي إلا بتقسيمه إلى كنتونات متعادية. وهكذا سيفقد الشرق الأوسط أفضل وأجمل دولة عرفها تاريخه! هذه هي أخبار الاتجاه التاريخي المضاد السيئة التي تنذر بحرب المئة عام السنية الشيعية. فلنستعرض الآن أخبار الاتجاه التاريخي الجيدة.
هل من الممكن الانتقال من فقه الولاء والبراء إلى فقه الحوار؟ منذ بداية القرن الحادي والعشرين غدت أحداث كل سنة تُقاس أهميتها برد - أو بعدم رد – النخب على تحديات القرن الحادي والعشرين على الأصعدة الثلاث؛ القومي، والإقليمي، والدولي. فما هي هذه التحديات؟ هي تحديث الحداثة بالنسبة للشعوب العريقة فيها، والدخول إلى الحداثة بالنسبة للأمم التي ظلت واقفة على الرصيف عندما مرت عليها قاطرة الحداثة مثل الأمم العربية والإسلامية. ودخول هذه البلدان إلى الحداثة أو التوغل فيها يمر على الأرجح عبر إصلاح الإسلام من خلال إصلاح التعليم خاصة التعليم الديني؛ بالانتقال من فقه الولاء والبراء إلى فقه الحوار.
فما هو فقه الولاء والبراء؟ هو القطيعة التامة مع غير المسلمين قولا وفعلا، وعداء "الكفار" ليس لما يفعلونه بالمسلمين، بل لمجرد كونهم كفارا،"فمن كان مؤمنا وجبت موالاته من إي صنف كان، ومن كان كافرا وجبت معادته من أي صنف كان" كما يقول ابن تيمية، حتى ولو كان من الصنف المحب للمسلمين. وتحريم السفر إلى بلدانهم وتحريم الإقامة فيها إلا للضرورة القصوى، وتحريم تقليدهم في معتقداتهم، أو في أزيائهم لذا يبرر القرضاوي فرض الحجاب على المسلمة قائلا:" هذا ينبغي ألا يماثل أزياء الكفار، اليهود والنصارى والمشركين، فمجرد نية تقليد نسائهم حرام في الإسلام الذي يطلب من المسلمين مخالفة الآخرين في الجوهر والشكل، ولهذا أمر بعمل عكس ما يفعله الكفار." {عادل جندي، الحرية في الأسر ص 191، دار ميريت، القاهرة.} وتحريم استخدام الرأي والعقل في فهم القرآن. قال الترمذي، تلميذ البخاري، في "الجامع الصحيح": "من قال في القرآن بالرأي فأصاب فقد أخطأ {.......} ومن فسر القرآن بالرأي فقد كفر" وحرم بن تيمية كل ما هو مخالف للكتاب والسنة عند غير المسلمين إي تقريبا كل شيء:" من جنس موالاة الكفار التي ذم بها الله أهل الكتاب والمنافقين الإيمان ببعض ما هم عليه من الكفر، أو التحاكم { الاحتكام} إليهم دون كتاب الله {...} فمن كان من هذه الأمة مواليا للكفار من المشركين أو أهل الباطل وأتيانهم في شيء من مقالهم وأفعالهم كان له من الذم والعقاب والنفاق بحسب ذلك، وذلك مثل متابعتهم في آرائهم وأعمالهم، كنحو {=مثل} أقوال الصابئة وأفعالهم من الفلاسفة المخالفة للكتاب والسنة." {ابن تيمية، مجموع الفتاوى،ج 28 ص 199-201} كما يحرم فقه البراء والولاء "الرطَّانة" بالسنة "أهل الجحيم" إلا للضرورة القصوى؛ كما حرم هذا الفقه الاحتفال بالمولد النبوي لأنه تقليد لاحتفال النصارى بمولد المسيح، ومازالت دول مجلس التعاون الخليجي محافظة على هذا التحريم؛ كما حرم أيضا استخدام التاريخ الميلادي: "جريدة المنقد" لسان الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لم تستخدم طوال صدورها{1989-1991} في الجزائر إلا التاريخ الهجري. يصل الرُّهاب {فوبيا} الهستيري من تقليد غير المسلمين ذروته عندما يتحول إلى عقاب ذاتي هاذ: "لا نقلدهم حتى في ما فيه مصلحة لنا، لأن الله أما أن يعطينا في الدنيا مثله أو خيرا منه، وأما أن يعّوضنا عنه في الآخرة" كما يقول ابن تيمية في "اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم". هذا الفقه الذي يدرس في جميع مدارس وجامعات العالم العربي باستثناء تونس شكلّ منذ ظهور الحداثة عائقا أعاق الوعي الجمعي الإسلامي من استقبال الحداثة الأوربية بما هي "تقليد للكفار" الذين اخترعوها. من يقرأ فتاوى الفقهاء منذ القرن السادس عشر يجد أن جزء لا يستهان به منها مكرساً لتحريم "مستحدثات" الحداثة اللباسية أو الغذائية، أو العلمية والتكنولوجية. مثلا حرم فقهاء مصر سنة 1511 القهوة بما هي "بدعة" وجددوا تحريمها، نظرا لإقبال الصوفية عليها، سنة 1533. وأخيرا وقع السلطان العثماني بنفسه سنة 1548 فتوى تحرمها. كل ما لم يعرفه "السلف الصالح" فهو، كما تقتضي ديانة عبادة الأسلاف، محرم. وهكذا صدرت في القرن التاسع عشر عشرات الفتاوى لتحريم "المستحدثات" الوافدة من أوربا عملا بالحديث الموضوع أكبر الظن:"شر الأمور محدثاتها". مثلا بعد أن جهز محمد علي بعض أحياء القاهرة بصنابير المياه، حرم الفقهاء المالكية والشافعية والحنبلية استخدامها، فلجأ محمد علي لفقهاء الحنفية لإصدار فتوى لتحليلها، ومنذ ذلك التاريخ غدت صنابير المياه تسمى بالحنفية.؟ كما صدرت في القرن التاسع عشر فتاوي عدة لتحريم "البرنيطة" بما هي تقليد لأزياء الكفار. تحدى محمد عبده فقه الولاء والبراء، في هذا المجال على الأقل، فكان يدخل الأزهر معتمرا برنيطة وهو يدخن سيجارة. لذلك ظل جثمانه نصف يوم في الأزهر لأن شيوخه، كما قال نجيب محفوظ، كانوا يتجادلون في جواز الصلاة عليه أم لا.؟ ظلت لعنة تكفير تقليد "الكفار" في كل شيء، قلّ أو جلّ، تلاحقنا إلى اليوم. قد ذكر د. دليل أبو بكر، عميد جامع باريس الكبير، في حديث "للقدس" اللندنية الواقعة التالية:" دعى الملك فهد علماء المملكة ليفتوه في إدخال المملكة للصحون اللاقطة"الدش"، فقالوا له "ليست من القرآن في شيء"، فأوعز الملك فهد لأحد مقربيه بوضع جمل مكان كل سيارة مرسيدس من سيارات العلماء ثم ودعهم. ولما وجدوا الجمال، عادوا إليه مفزوعين متسألين أين سياراتنا؟ فأجابهم، على حد قول عميد جامع باريس:" ليست سيارات المرسيدس من القرآن في شيء". وكذلك أحتاج استخدام طائرات النقل المدنية إلى فتوى.......الخ. الولاء والبراء هو الذي يأمر القاعدة وحماس مثلا باستخدام العمليات الانتحارية تطبيقا لمبدئه الأسمى "الجهاد باق إلى قيام الساعة"، وضرورة قتال المسلمين "المرتدين" الذين يقلدون الكفار أو يتعاملون معهم... وقد أستغرب الشيخ المجاهد أسامة بن لادن في أحد أحاديثه للجزيرة من استمرار عضوية الدول العربية والإسلامية في منظمة الأمم المتحدة، جنبا إلى جنب مع الكفار قائلا: "حتى عقلاء الكفار مثل كوريا الشمالية يرفضون الانضمام لها". فقه الولاء والبراء يُحرم ويُجرم جميع قراءات القرآن باستثناء قراءته هو: القراءة الحرفية للنص، الوحيدة الملائمة للتزمت والتطرف والإرهاب وقطع الطريق على الحداثة، بما هي مؤسسات وعلوم وقيم "مستوردة من الكفار". وفقه الولاء والبراء هو الذي يكفر كل دولة في أرض الإسلام لا تطبق الشريعة، إي العقوبات البدنية الشرعية وحرمان مواطنيها من النساء وغير المسلمين من حقوق المواطنة الكاملة، ومنع مواطنيها من الهجرة إلى الغرب والسياحة فيه، وقطع جميع علاقاتها مع "دار الحرب".... فقه الولاء والبراء تغلغل، عبر الخطاب الديني {= التعليم، الأعلام، خطبة الجمعة، الوعظ والفتوى} في الوعي الجمعي الإسلامي المنغلق على نفسه فبات يشكل نواته الصلبة. شعارات مقاومة "الغزو الثقافي" إي التلاقح الثقافي الضروري بين جميع ثقافات العالم والحضارة العالمية، والمناداة بضرورة "أسلمة المعرفة" وبتطهير تفاسير القرآن، وفي المقدمة منها تفسير الطبري، من الإسرائيليات ومن التأثيرات المسيحية، والهوس بــ"الاستقلال الحضاري" والقطيعة مع "التبعية" الاقتصادية للغرب... كلها تعبيرات واعية لدى البعض ولا واعية لدى البعض الآخر عن فقه الولاء والبراء الذي ليس إلا بارانويا هاذية! بديل فقه الولاء والبراء الانغلاقي حتى الانطواء المرضي؛ هو فقه الحوار مع جميع الأمم والتلاقح الثقافي مع جميع الثقافات وتبني مؤسسات الآخر وعلومه وتكنولوجيته ومنتجاته وقيمه. بشائر القطيعة مع فقه الولاء والبراء في التعليم الديني بدأت في تونس عام 1990، وفي المغرب عام 2004 بقرار تدريس الفلسفة في السنوات الثلاث الأخيرة من التعليم الثانوي ربما بتأثير ما كتبته أنا حول هذا الموضوع في اليومية "الأحداث المغربية"، وفي الجزائر، ألغى الرئيس بوتفليقة سنة 2006 تدريس الشريعة في البكالوريا {= الثانوية العامة} بطلب مني في رسالة مفتوحة وجهتها له نشرتها إيلاف ونقلتها عنها صحف عديدة إلكترونية ومكتوبة. وفي أكتوبر 2006 ألغت ليبيا تدريس الجهاد وتدريس آيات السيف والعنف...
كيف سيتم نقل التعليم الديني من فقه الولاء والبراء إلى فقه الحوار؟ بتقليد تونس التي أدخلت إلى هذا التعليم الفلسفة، الحاملة بامتياز للفكر النقدي، والعلوم الإنسانية المرصودة لدراسة الظاهرة الدينية. المدرسة الدينية التونسية دشنت، في أرض الإسلام، مدرسة العقلانية الإسلامية التي تهدف إلى تطوير استقلال التلميذ الفكري، إعداده للتفكير الشخصي في النص الديني المؤسس، إيقاظ وصيانة غرائز الحياة فيه. على النقيض من المدرسة الإسلامية السائدة القائمة على ترويض التلميذ، وحشو جمجمته بنصوص ميّته، وتعبئته بثقافة الاستشهاد وكراهية "الكفار"، وعداء المرأة والعقل، والخوف من الجديد، ومن التغيير، ومن التفكير المستقل، ومن مؤسسات وقيم الحداثة وعلومها. إدخال الفلسفة ودراسة تاريخ الأديان المقارن إلى الجامعة الزيتونة شكل بداية ثورة تربوية موعودة بالتعميم إلى جامعات أرض الإسلام التي مازالت متأخرة عن عصرها بأربعة قرون! في هذا الخصوص حملت لنا نهاية 2006 خبرا سعيدا هو صدور كتاب: "أسرار الكتاب المقدس" عن رابطة العقلانيين العرب، ترجمة صالح بشير. ترجمة هذا الكتاب حدث علمي بامتياز فهو يثري تاريخ الأديان المقارن إذ يعيد قراءة التوراة اعتمادا على النصوص المصرية القديمة ليكشف أن اليهود، عكساً لما جاء في العهد القديم، لم يكونوا عبيدا في مصر، وأن أخناتون هو إبراهيم، وأن موسى هو رمسيس الأول..... وأن الديانة اليهودية هي، مع تعديلات طفيفة، الديانة المصرية القديمة. ويقدم الكتاب برهانا على صحة هذا الاكتشاف، آخر الاكتشافات الأثرية المصرية. خبر سعيد ثان حملته 2006 هو إلغاء البرلمان التركي، بطلب من الاتحاد الأوربي، لعقوبة الإعدام وإقرار الحق في حرية التدين إي تبديل المسلم لدينه. والخبر السعيد الآخر هو إعلان كل من المغرب والجزائر إلغاء عقوبة الإعدام التي يتشبث بها الإسلاميون كأحد ركائز الشريعة! خبران سعيدان آخران حملتهما لنا سنة 2006 هما فتوى الفقيه الإسلامي المعروف وأحد أقطاب الدولية الإسلامية، حسن الترابي، وتقرير الأمم المتحدة عن المرأة في العالم العربي الذي صدر منذ أسابيع. في شهر مارس 2006 أصدر الترابي فتوى نسخت أحكام عدة آيات قرآنية لم تعد متكيفة مع حاجات المسلمين في هذا العصر. تماما كما فعل أبوبكر الصديق عندما نسخ حق المؤلفة قلوبهم في الزكاة الذي ضمنته لهم دون قيد أو شرط الآية 60 من سورة التوبة. قائلا:" لقد قوي الإسلام ولا حاجة لنا فيهم" { أنظر تفسير الطبري لهذه الآية}. وبالمثل نسخ عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب ومعاذ بن جبل حق المقاتلين في الفيء الذي ضمنته لهم الآية 41 من الأنفال. وعاد الفيء كله إلى بيت مال المسلمين. وعلل عمر نسخ الآية بحق الأجيال القادمة في الأرض المفتوحة قائلا في رسالة لقائد جيوشه في العراق متوجها للمقاتلين: "إذا أخذتم هذه الأرض ماذا سيبقى للذين يأتون من بعدكم؟" (انظر: "الخراج" لأبي يوسف صاحب ابي حنيفة، صفحة 18). ونسخ الفقهاء آية: "وإذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه" { 282، البقرة}، وعللوا ذلك، مثل سابقيهم، تعليلا عقلانيا بخشية ضياع حقوق الناس في الأمصار نظرا لانتشار جهل اللغة العربية فيها، ونسخ الفقيه المغربي الكبير، الونشريسي من فقهاء القرن التاسع الهجري، في كتابه "المُغرِب في فتاوى أفريقيا والمغرب" الحديث الذي حرم الزكاة على آل البيت وصاغ فتواه نظما: "والوقت قاضٍ بجواز إعطاء/ آل الرسول من مال الزكاة قسطاً." قائلا لقد حرم النبي الزكاة عليهم حفظا لكرامتهم، أما الآن وهم يتسولون في الطرقات فالزكاة أحفظ لكرامتهم من التسول. وهو لعمري تبرير عقلاني بامتياز. هذه القراءة التاريخية للقرآن، التي تطوّع النص للعقل وتقدم مصلحة الناس على النص، معتبرة الآيات محكومة بالظروف التاريخية التي تطلبّتها... وهذا ما أسماه الفقهاء "علم أسباب النزول"، هي نقض لفقه الولاء والبراء الذي يقدم النص على العقل وعلى المصلحة ومتطلبات الواقع المعيش. بدوره تمرد أخيرا حسن الترابي على فقه الولاء والبراء فنسخ آية "للذكر مثل حظ الأنثويين" {11، النساء} التي تعطي في الإرث المرأة نصف نصيب الرجل في الميراث فساوى المرأة بالرجل في الميراث. ونسخ ايضا الآية "واستشهدوا شاهدين من رجالكم، فأن لم يكونا رجلين فرجل وإمرأتان" {282، البقرة}. التي تعتبر المرأة نصف رجل في الشهادة وساوى بين شهادة الرجل والمرأة. ونسخ الآية "ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا" {،221 البقرة} التي تحرم على المسلمة الزواج بغير المسلم؛ ونفى الترابي – بعد المستشار العشماوي وجمال البنا – أن يكون الحجاب فرضا على المرأة المسلمة. كما أجاز بعد جمال البنا إمامة المرأة للصلاة وقد قالت لي الباحثة في شؤون الأقليات المسلمة في الصين، سعاد الوحيدي أن المرأة في الصين تؤم الصلاة، لكن في مساجد تخصهن، وثمة العديد من الجامعات الإسلامية الخاصة بإعداد النساء الأئمة، كما أن المرأة الإمام في الصين تحضر المجالس الرسمية التي يتم فيها تمثيل المسلمين جنبا إلى جنب مع الأئمة من الرجال. {أنظر العدد الخاص عن الإسلام في الصين من مجلة دراسات شرقية}. كان الترابي أحد كبار فقهاء الإرهاب، تخليه عن فقه الولاء والبراء، وتبنيه لنسخ أحكام الآيات المتقادمة، والتحاقه بفقه الحوار يشبه في شحنته الرمزية انتقال عمر بن الخطاب من الشرك إلى الإسلام. هذه السنة أيضا نسخ المؤرخ الإسلامي التونسي، محمد الطالبي، آية ضرب النساء؛ وكنت شخصيا اقترحت نسخ جميع أحكام الآيات التي تعيق تبني المسلمين للحداثة التي هي قضية حياة أو موت بالنسبة لهم. اعتماد هذه القراءة سيجعل الإسلام قابلا، دون تحفظ أو شعور بالذنب، لجميع قيم الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، واتفاقية منع التمييز ضد المرأة، واتفاقية حماية الأقليات، وضمان الحريات الدينية وحقوق الطفل........وهي التدابير الكفيلة، إذا أدخلناها لمناهج التعليم الديني، بإصلاح الإسلام، إي تكييفه مع متطلبات ومؤسسات وعلوم وتكنولوجيا وقيم عصره. الخبر السعيد الآخر هو صدور تقرير الأمم المتحدة "من أجل نهوض المرأة..." الصادر هذا الشهر عن "برنامج الأمم المتحدة للتنمية" لم أقرأ التقرير بعد لكن خلاصته المنشورة في يومية فرنسية خبر سعيد، فهو يطالب بإشراك المرأة في الحياة السياسية على أعلى المستويات لتغدو قادرة على المشاركة في صناعة القرار، كما يطالب بإعطائها "التمييز الإيجابي" الذي تمارسه حكومة تونس التي تخصص 20 % من مقاعد البرلمان للنساء وحكومة أقليم كردستان، التي تخص 25% من مقاعد البرلمان للمرأة والحكومة الليبية التي تخصص 50% للمرأة في مؤسسات السلطة. لكن الاعتراف للمرأة بحق المواطنة الكاملة لن يكون كاملا إلا إذا تم الاعتراف به أيضا للمواطنين غير المسلمين في أرض الإسلام وللمواطنين غير العرب في الدول العربية. هذه الوقائع خروج على فقه الولاء والبراء وتشكل مؤشرات واعدة بإمكانية خروج العالم العربي منتصرا من أزمة الحداثة الطاحنة التي يمر بها، أزمة الانتقال من القدامة إلى الحداثة، من الشريعة إلى القانون الوضعي، من فقه أهل الذمة واستضعاف المرأة، إلى فقه المساواة التامة في حقوق المواطنة، من قيمتي الحلال والحرام، إلى القيم الإنسانية الكونية، من فرض حقوق الله {الفرائض الدينية} على الإنسان، إلى فرض حقوق الإنسان على الدولة، من الفقه إلى السياسة، ومن الحكم الفردي إلى دولة القانون، ومن الجهاد الى اللاعنف في الدفاع عن حقوقنا المهضومة. هذه الأحداث قد تبدو للعين غير الخبيرة بفلسفة التاريخ أحداثاً قليلة -أو عديمة- الأهمية والحال أنها مؤشرات جدية على بداية نضج الوعي الجمعي الإسلامي الذي يختمر لوقت ما تحت الأرض، عبر البحث والنقاش خاصة في وسائل الأعلام، ثم يتحول هذا النقاش إلى حقائق ومعطيات يُسلم بها كل ذي عقل سليم ليصوغها لاحقا صُناع القرار في مشاريع مجتمعية وقوانين ملزمة. اقتحام قلعة فقه الولاء والبراء التي يعتصم بها الإسلام الجهادي والسياسي وقطاع من الإسلام التقليدي مهمة محفوفة بالمخاطر بما فيها المجازفة بالحرية أو بالحياة. لكن لا يستطع المثقف المعاصر أن يتناساها دون أن يخون نفسه بما هو حارس القيم الإنسانية والعقلانية التي ينتهكها هذا الفقه في أرض الإسلام. وكيف ننسى أن ضريبة التقدم إلى الحداثة كانت تاريخيا دماء شهدائها غير المهووسين بالشهادة؟
#العفيف_الاخضر (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
تأسست قبل 250 عاماً.. -حباد- اليهودية من النشأة حتى مقتل حاخ
...
-
استقبل تردد قناة طيور الجنة أطفال الجديد 2024 بجودة عالية
-
82 قتيلاً خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
82 قتيلا خلال 3 أيام من أعمال العنف الطائفي في باكستان
-
1 من كل 5 شبان فرنسيين يودون لو يغادر اليهود فرنسا
-
أول رد من الإمارات على اختفاء رجل دين يهودي على أراضيها
-
غزة.. مستعمرون يقتحمون المقبرة الاسلامية والبلدة القديمة في
...
-
بيان للخارجية الإماراتية بشأن الحاخام اليهودي المختفي
-
بيان إماراتي بشأن اختفاء الحاخام اليهودي
-
قائد الثورة الاسلامية آية اللهخامنئي يصدر منشورا بالعبرية ع
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|