|
التاريخ بين الحقيقة والتحريف: دعوة لدراسته بمنهج علمي موضوعي
بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8189 - 2024 / 12 / 12 - 12:01
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
التاريخ هو مرآة الإنسانية التي تعكس ماضيها بحلوه ومرّه، بأمجاده وانكساراته، وهو البوصلة التي تُرشد الأجيال إلى دروب المستقبل. إن دراسة التاريخ ليست رفاهية فكرية أو هواية تُمارَس في أوقات الفراغ، بل هي ضرورة وجودية تعكس وعينا بأنفسنا وموقعنا في سياق الزمن. ولكن، كيف يمكننا أن ننظر إلى هذا الإرث العظيم من دون أن تشوبه شوائب التحيز، ومن دون أن تتلاعب به الأهواء الأيديولوجية أو تُثقل كاهله قيود العقيدة؟ تلك هي الإشكالية الكبرى التي يواجهها كل باحث يسعى إلى اكتشاف حقائق التاريخ كما هي، بعيدًا عن الانحياز أو التشويه.
إن من أخطر الآفات التي أصابت دراسة التاريخ هي النزعة إلى تطويعه لخدمة أغراض أيديولوجية. وكمثال على ذلك، يمكننا أن نستحضر التجربة السوفيتية في كتابة التاريخ. فخلال الحقبة الشيوعية، أُعيد تفسير تاريخ روسيا بأكمله ليتماشى مع الرؤية الماركسية. فلقد قُدمت الثورة البلشفية عام 1917 على أنها الذروة التاريخية التي أتى كل ما سبقها ليُمهّد لها. فتم إغفال دور الشخصيات التي لم تنسجم مع هذا السرد، وشُوهت الحقائق حول الأنظمة التي سبقت الشيوعية. إن هذه الممارسات لم تُحرف التاريخ فقط، بل أثرت على فهم أجيال من الروس لتاريخ بلادهم، وخلقت هوة بين الرواية الرسمية والحقيقة.
وعلى الجانب العقائدي، نجد مثالًا آخر في محاولات بعض المؤرخين في العالم الإسلامي إثبات كل ما ورد في النصوص الدينية عن طريق التاريخ. ففي العصور الوسطى، كان كثير من المؤرخين المسلمين يميلون إلى تأويل الأحداث التاريخية بطريقة تدعم الرؤية الإسلامية التقليدية للعالم. ولم يكن هذا بالضرورة نابعًا من سوء نية، بل كان نتيجةً لتأثير العقيدة في فهمهم للماضي. فعلى سبيل المثال، سعى ومازال يسعى للأسف الشديد - بعض المؤرخين، كما بعض العلماء وما نشاهده هذه الأيام فيما يطلق عليه الإعجاز العلمي للقرآن خير دليل، نقول يسعى بعض المؤرخين إلى ربط كل إنجاز علمي أو حضاري في التاريخ الإسلامي بالدين وحده، متجاهلين السياقات الاجتماعية والسياسية التي لعبت دورًا كبيرًا في تحقيق هذه الإنجازات. إن مثل هذه الدراسات قد تكون مفيدة في ترسيخ العقيدة بشكل ما في نفوس ضعاف الإيمان والذين هم في حاجة إلى دليل على صحة دينهم، لكنها لا تخدم البحث التاريخي بوصفه علمًا يبحث عن الحقيقة.
في المقابل، حينما يتحرر المؤرخ من قيود الأيديولوجيا والعقيدة، تأتي النتائج مبهرة ومثيرة للإعجاب. خذ على سبيل المثال عمل المؤرخ البريطاني أرنولد توينبي وهو مؤرخ بريطاني ولد في 14 أبريل 1889 في لندن وتوفي في 22 أكتوبر 1975 ". فعلى الرغم من كونه مسيحيًا متدينًا، إلا أن توينبي لم يسمح لعقيدته بالتأثير على تحليله للحضارات. ففي كتابه الشهير دراسة للتاريخ، قدم رؤية شاملة عن نشوء وازدهار وسقوط الحضارات، مستندًا إلى مقارنات منهجية بين الثقافات المختلفة، دون تحيز لأي منها.
كما يُعد عمل المؤرخ الأمريكي هوارد زين (بالإنجليزية: Howard Zinn) (24 أغسطس 1922 - 27 يناير 2010) مؤرخ أمريكي، ناقد اجتماعي وسياسي عالمي. ولد لأبوين يهوديين. نقول يعد مثالًا آخر على التجرد من الأيديولوجيا المهيمنة. ففي كتابه تاريخ الشعب الأمريكي، تحدى زين الرواية التقليدية لتاريخ الولايات المتحدة التي كانت تمجد الشخصيات السياسية والعسكرية الكبرى. وبدلاً من ذلك، ركز على قصص الشعوب المهمشة مثل العمال والأقليات العرقية والنساء، مقدّمًا رؤية مختلفة وأكثر شمولية عن تاريخ البلاد.
وهناك أيضًا الاكتشافات التي حققها المؤرخون الذين استعانوا بالعلوم الحديثة بعيدًا عن التأثيرات الأيديولوجية أو العقائدية. فعلى سبيل المثال، استطاع علماء التاريخ والجينات في السنوات الأخيرة تتبع حركات البشر عبر القارات باستخدام تحليل الحمض النووي. هذا النهج العلمي أكد العديد من النظريات التاريخية حول هجرة البشر، ونسف أخرى كانت تُعتبر حقائق ثابتة، مثل بعض الادعاءات القومية التي تنسب نشأة شعوب معينة إلى أراضٍ بعينها.
ولعل أبرز مثال معاصر يُبرز أهمية الحياد العلمي هو دراسة تاريخ الأندلس. بينما يروج البعض سرديات تمجد تلك الفترة بوصفها العصر الذهبي للإسلام فقط، ويركز آخرون على صراعاتها الدينية بين المسلمين والمسيحيين، نجد باحثين موضوعيين مثل ماريا روزا مينوكال (9 أبريل 1953 - 15 أكتوبر 2012) باحثة كوبية المولد في الثقافة والتاريخ في العصور الوسطى وأستاذة ستيرلينج للعلوم الإنسانية في جامعة ييل يقدمون قراءة شاملة لهذه الحقبة، تسلط الضوء على التعايش الثقافي والإنجازات المشتركة بين المسلمين والمسيحيين واليهود، مما يكشف عن تعقيد هذا التاريخ بعيدًا عن التبسيط والتحيز.
إن التجربة الإنسانية لا يمكن أن تُختزل في رؤية واحدة أو تفسير واحد. فالتاريخ مليء بالتنوع والتناقض، ومليء بالقصص التي تكشف عن عبقرية الإنسان، وعن ضعفه أيضًا. إن هذا التعدد هو ما يجعل دراسة التاريخ فنًا أكثر من كونها مجرد علم. فالمؤرخ الحقيقي هو من يستطيع أن يلتقط هذا التنوع، وأن ينسج منه صورةً شاملة ودقيقة للوجود الإنساني. ولكي نصل إلى هذا المستوى من الفهم، علينا أن نُخلص نوايانا، وأن نجعل من البحث عن الحقيقة هدفًا نُكرس له كل طاقتنا.
إن التاريخ هو ميراث البشرية جمعاء، وهو ليس حكرًا على أمةٍ دون أخرى، أو ثقافةٍ دون أخرى. وكل محاولة لاختطافه أو تحريفه هي خيانةٌ لهذا الميراث المشترك. ولذا، فإن التعليم التاريخي يجب أن يُوجه نحو تعليم الأجيال قيمة النقد والتحليل، بدلاً من التلقين والإيمان الأعمى بالسرديات القائمة. وعلينا، إن أردنا دراسة موضوعية وحقيقية للتاريخ - أن نُربي أجيالًا ترى في دراسة التاريخ وسيلة لفهم ذاتها والعالم، لا مجرد أداة لتعزيز انتمائها القومي أو الديني.
وفي النهاية، يُعد التاريخ جسرًا يصل الماضي بالحاضر، ويُضيء الطريق نحو المستقبل. لكن هذا الجسر لا يمكن أن يكون صلبًا إذا ما بنيناه على أساساتٍ من الأكاذيب أو الأوهام
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الحب.. بوابة العروج إلى السماء
-
حرية العقل وبوصلة الفكر: التعليم في مواجهة الفوضى الكبرى
-
قراءة في قرارات القيادة العامة السورية: رؤية شاملة لمستقبل ج
...
-
سوريا بعد سقوط الأسد: تحديات ومطامع
-
سوريا بعد سقوط النظام: تحديات المرحلة المقبلة بين مطامع الخا
...
-
وهم هاتف تسلا الرخيص ومعاناة الفقراء
-
اهتمامات الشعوب بين العالم العربي والغرب: قراءة في أولويات ث
...
-
في أسر الأسطورة: العقل العربي والإسلامي بين الماضي وتحديات ا
...
-
في العالم المتقدم: الحسد خرافة تم تفكيك أسطورتها
-
العقول التي صنعت المجد: العلماء والفلاسفة والأدباء قادة الحض
...
-
إنترنت الأشياء: عصر جديد من الترابط الذكي في حياتنا اليومية
-
ابن خلدون: أعجوبة مازال تأثيرها حاضرا
-
المطبعة التي لم تصل: انغلاق رجال الدين يعيق تقدم المجتمع
-
في الحب نكتب: سر الحياة وملاذ القلوب
-
التعليم في مصر والعالم العربي: يجب نسف أسلوب التلقين
-
كهف أفلاطون ومأساة المستنير في كل العصور
-
في الحداثة .. مساهمة شرقية قديمة
-
لا أوْلويّة تسبق أولوية التعليم والبحث العلمي
-
العقل المحرر يرفض الأوهام والخرافات!
-
على هامش مباراة السوبر.. من شعب مصر: شكرا دولة الإمارات
المزيد.....
-
يالــــولــو فيه نــونـو.. تردد قناة طيور الجنة الجديد 2025
...
-
بعد نحو 500 عام.. اكتشاف سر في لوحة مايكل أنجلو في كنيسة بال
...
-
استقبلها الآن بأعلى جودة .. تردد قناة طيور الجنة 2025 الجديد
...
-
اللواء سلامي: أضطررنا لحشد طاقات العالم الاسلامي لمنع انتشار
...
-
سلامي: ايران وبتصديها للتيارات التكفيرية قدمت خدمة عظيمة للإ
...
-
اللواء سلامي:التصدي للتيارات التكفيرية خدمة عظيمة قدمتها اير
...
-
اللواء سلامي: التكفيريون في الواقع نموذج غربي لردع النفوذ ال
...
-
اللواء سلامي: التكفيريون في الواقع نموذج غربي لردع النفوذ ال
...
-
لوباريزيان: سجن 3 طلاب أرادوا إنشاء دولة إسلامية بفرنسا
-
“هالصيصان شو حلوين”.. اضبط تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|