أياد الزهيري
الحوار المتمدن-العدد: 8188 - 2024 / 12 / 11 - 21:55
المحور:
قضايا ثقافية
هناك دعوات لدى البعض ، تدعو الى عدم الحاجة والأكتراث الى الاجتهاد، بدعوى إن الموروث يغطي الحاجة ، ويُلبي متطلبات الواقع ، فهو يدعو الى تجميده ، والاكتفاء بما أنتجه الأقدمون من الفقهاء ، فقد أقفلوا باب الاجتهاد وَحَجروا النص وَجَمَدوه ، مما قولبوا المجتمع بقالب تراثي متجمد ، عجز عن تلبية حاجات الأمة ،وَشَكلَ عائق أمام تطورها ، بل وَشكلَ حجر عثرة أمام نهضتها ، وقال أصحاب هذه المدرسة ، بأن ما أنتجته قرائح السلف يكفينا مؤنة لكل الأزمان والدهور ، وما كان نتيجة ذلك إلا تجميد لأفكار وتعويق لقابليات هذه الأمة . موقف هذه المدرسة أفرز لنا أفكار سلفية غاية بالأنحطاط من أحكام متخشبة ،وفتاوي غاية بالتوحش ، وأفكار غاية بالسأم والتحجر. ومن ناحية أخرى , هناك من يقول لا حاجة لعلماء دين يفتوا لنا , وهذا الرأي يقول به الكثير من ذوي الأتجاه العلماني ، وبالتالي ، لا نحتاج الى تقليد أحد . طبعاً هناك دوافع مختلفة في رسم هذا الأتجاه ، منها ذات أهداف مشبوهة ، وقد وضحنا في مقالات ومنشورات سابقة عن هذه الأهداف ،ومنهم من يقول إن الإسلام واضح النصوص (إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون)(يوسف:٢) ،وبالتالي لا حاجة لنا بهذا العدد الهائل من المجتهدين ، الذين تحول الكثير منهم الى وعاظ سلاطين . طبعاً لايمكنني التغافل ولا نكران وجود وعاظ سلاطين ، بل هم أحد أركان الأنظمة الفاسدة والظالمة ، بل بعضهم يشكل عقبة كأداء أمام تقدم وقيام النهضة الإسلامية الحقيقية ، والبعض الآخر تحول إلى أداة بيد الأجنبي ، ولكن هل كل هذه الأسباب كافية لأهمال الاجتهاد بالإسلام ، وألغاء دور المجتهدين، طبعاً لا وألف لا ، وقد يسأل البعض ، من أين جاءت هذه الضرورة ، وقبل تبيان هذه الضرورة , نود وبشكل موجز أن نُعَرف للقاريء الكريم عن مفهوم الأجتهاد , فالأجتهاد لغةً : (بذل قصارى الجهد والوسع في أمر ما) , أما أصطلاحاً فهو : (بذل الجهد في أستخراج الأحكام الشرعية) . (الحلي :معارج الأصول ص180 ) .ويقول الشيخ المفيد : (هو أستفراغ الوسع في طلب تحصيل الظنّ بالأحكام الشرعية الفرعية من أدلتها المعتبرة من كتاب وسنة , أو مايثبت أعتباره من الكتاب والسنة)(المفيد: أوائل المقالات:ص227 ) . لانُريد هنا التطرق الى مواصفات المجتهد , فهنا ليس مقامه , ولكن نجد في القرآن ما يُشير بالرجوع لمن يتمتع بملكة الأجتهاد والحائز على مواصفاته التي حددها أصحاب الأختصاص , والتي عبر عنهم القرآن بأهل الذكر , والذي وَجه بضرورة الرجوع أليهم في معرفة أحكام الدين (فأسألوا أهل الذكر أن كنتم لا تعلمون)(النحل:43 ) , وهناك آية تُشير بشكل أوضح ( وما كان المؤمنون لينفروا كافةً فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رَجعوا إليهم لعلهم يحذرون)(التوبة:122 ) , والأجتهاد كلما كان حيوياً كلما أنعكس على الحياة العامة , ويصبغها بنفس الدرجة من الحيوية , فهو يساهم في البناء الفكري , وهو يقود الى بناء الذات لمنتميه كمفوم ذاتي لحركة تكاملية في مسيرة حياتهم , وهي الصيرورة التي يحرص عليها الإسلام في تطوير الذات على مستوى الفرد , وبالتالي المجتمع , فالأجتهاد كلما كان متقدماً وناضجاً , كلما أصبح المجتمع أكثر حيوية ونشاط , ويجعل من الساحة الأجتماعية والأقتصادية وحتى السياسية بكل أبعادها أكثر تألق وأنتاج , لأنه يساهم في فتح آفاق واسعة للعاملين فيهما , كما كلما كان الأجتهاد يعتمد على النصوص الأصلية والحقيقية , وذات منبع صافي , كلما كان أكثر أصالة وقوة وحيوية , لأن أي دخول لمصادر لاتمت له بصلة , هو عامل معوق له , وعبارة عن وضع مكابح لحيويته , وسد الطريق على طبيعته الأنفتاحية , بل ويكون سبباً ومنبعاً للخلاف والتشدد بين أتباعه , وخير مصداق لذلك هو مانسمعه ونراه من فتاوي ما أنزل الله بها من سلطان قادت الى خروج مجاميع شاذة وتكفيرية عاثت بالأمة الفساد , وكانت سبباً لتمزقها , وتشتتها , وتبعثر طاقاتها , وأنحراف الكثير من فصائلها عن الجادة الحقيقية للإسلام .فالأجتهاد الجامع لشرائطه الصحيحة يقدم الحلول الناجعة لجميع قضايانا الحياتية , ويساهم في الدفع بنا الى قفزات مدنية متقدمة , لأن من سمة الدين توليد دوافع ناهضة للفرد والمجتمع . طبعاً هذه الضرورة تعطي للشريعة الإسلامية ديمومتها , وتجعلها في حركة دؤوبة , وذات تأثير فعال بالحياة , وهنا نذكر بعض هذه الضرورات وأهميتها :
أولاً : من أجل التواصل بين الماضي والحاضر ،ففي الماضي كانت هناك مساحة معرفية محددة بحدود الواقع الثقافي ،وأدوات معرفية أيضاً محددة بحكم التطور العلمي المتواضع ، كما إن حاجة الناس ونشاطاتهم محدودة ، فأنتج هذا الوضع , حالة ذات نسق تفسيري معين يتميز بالمحدودية ، وطبيعة فتاوي تتعلق بطبيعة وحاجات ذلك المجتمع ، ولما تغير الحال ونهضت الأفاق المعرفية ، وتطورت آلاته المعرفية ، وتوسعت حاجات البشر ، بحكم كثرة نشاطاتهم ، وبالتالي كَثُرة أبتلاءاتهم ، دعت الحاجة الى عملية أستنطاق جديدة للنصوص المقدسة ، وأستنباط جديد لأحكامه ،وقراءة جديدة للنصوص الدينية بما يتناسب والتحولات والتغيرات المتسارعة والجديدة ، التي تستجيب لمتطلبات الفرد والمجتمع.
ثانياً: العمل على الربط بين الموروث والمتجدد . فالعطاء الفكري التفسيري والتأويلي لم يكن حالة مقدسة ، فقط النص القرآني وصحيح الحديث النبوي من يحمل عنوان القداسة ،لذا من حق الأجيال اللاحقة من المجتهدين أن يجتهدوا لعصرهم ، كما أجتهد السلف لعصرهم , ويجب أن لا يُنظر أليهم بأنهم يمثلون القمة في الأجتهاد , الذي لايدانيهم إليه أحد , وإن الزمان جاد بهم , ومن المستحيل أن يجود بغيرهم , ويقدموا ما يصلح شأن أمتهم ، ويوضحوا مقاصد دينهم ، فمقاصد الدين لا يفهمها أيٍّ كان ، وكيفما كان ، بل تحتاج من يتعمق بالنص ويفهم مكنونه ، ويدرك دَلالاته ، فالنص يمتلك قابلية كبيرة وتدفق غزير من المعاني ، لا يدركها عامة الناس ، لذا يكون الاجتهاد والتجديد حالة لا يمكن الاستغناء عنها ،وتجاهلها ، والتقليل من شأنها ، لأن من يحمل دعوى ألغاءها فهو لاشك جاهل بمهامها ، وضرورة وجودها ، أو هو يسعى لهدف عدائي خطير ، حيث يعتبر هذا الدين حجر عثرة أمام تحقيق غايته الخبيثة والخطيرة, ولأنتزاع أهم دوافع نهوضة , ومقومات صموده , وها نحن نعيش مايتعرض له عالم الأجتهاد والمجتهدين من حملات شعواء , مدروسة من قِبل مراكز بحثية , مرتبطة بمراكز قرارات سياسية , تسعى الى تدمير , أو على أقل تقدير تشويه البعد الأجتهادي في الإسلام ليحولوه الى مبدأ متخشب لا ينبض بالحياة , وبالتالي يدفع بالمنتمين له الى هجرانه , بأعتباره دين فقد صلاحيته , ومبررات وجوده. .
#أياد_الزهيري (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟