|
المؤرخ والأديب أحمد أمين.. من رواد التنوير الإسلامي
فهد المضحكي
الحوار المتمدن-العدد: 8184 - 2024 / 12 / 7 - 12:01
المحور:
سيرة ذاتية
كان أحمد أمين واحدًا من الموسوعيين الكبار الذين اثروا في حياة مصر الثقافية في النصف الأول من القرن العشرين. تنحدر عائلته من قرية «سمخراط» التابعة لمديرية البحيرة، لكن والده ترك القرية مع شقيقه الأكبر إلى القاهرة بحثًا عن عمل، ونزلا بحي المنشية وهو أكثر أحياء القاهرة عددًا وأقلها مالاً وأسوؤها حالاً، ويسكنها العمال والصناع والباعة الجوالون ونسبة لا بأس بها من الطبقة الوسطى وقليل من العاليا وذلك في منتصف القرن التاسع عشر.
وننقل عن رابطة دباء الشام، كتب الباحث المصري حسين علي محمد حسنين، لقد أولى أحمد أمين (-1954) مراحله التعليمية في الكتاب، ولبث بها نحو خمس سنوات حفظ فيها القرآن وتعلم القراءة والكتابة. بعد مرحلة الكتاب إنتقل إلى مدرسة أم عباس الإبتدائية، لكن والده الأزهري قرر إخراجه من المدرسة الإبتدائية ليدخله الأزهر بعد أن قضى في المدرسة المدنية الحديثة عدة سنوات. ويلبس أحمد أمين لباس الأزهر المكون من القباء والجبة والعمة والمركوب بدل البدلة والطربوش والحذاء. وهنا يقول أحمد أمين: «كان منظري غريبًا على كل من رآني في الحارة أو الشارع... كانوا كثيرًا ما يتضاحكون علي إذا رأوني بالعمة، وكثيرًا ما أرى الأولاد في الشارع يتغامزون علي فأحس ضيقًا أو خجلاً، لذلك كنت أتلمس الحارات الخالية من الناس لأمر بها.. والمصيبة الكبرى كانت حين يراني من كان معي في مدرسة أم عباس، فقد كان يظن أني مسخت مسخًا وتبدلت بعد الحضارة، لذلك نفروا مني مع حنيني إليهم، وسرعان ما انقطعت الصلة بيني وبينهم، فانقبض صدري كثيرًا لأني فقدت اصدقائي القدامى، ولم استعض عنهم أصدقاء جددًا، وتضرعت إلى أبي أن يعيدني إلى مدرستي فلم يسمع، وأن يعفيني من العمة فلم يقبل، ومما ألمني أني أحسست العمامة تقيدني فلا أستطيع أن أجري كما يجري الأطفال ولا أمرح كما يمرح الفتيان، فشخت قبل الآوان، والطفل إذا تشايخ كالشيخ ثم عاد وتصابى فكلا المنظرين ثقيل بغيض، ولم يكن أمامي إلا أن أحتمل على مضض».
لم يكن أحمد أمين راضيًا عن دراسته في الأزهر، وظهر ذلك واضحًا عندما رأى بعض زملائه يقدمون طلبًا للدراسة بمدرسة دار العلوم، فقدم مثلهم، ورأى الأمر سهلاً عليه، فهم يمتحنون في حفظ القرآن وهو يحفظه، ويمتحنون في حفظ الألفية وفهمها وهو يحفظها، كان يحلم بالتعلم في مدرسة نظامية واضحة الحدود والمعالم، مفهومة الغاية، يدخل فيها الطالب فيقضي أربع سنوات يتعلم فيها على خير الأساتذة، ثم يخرج مدرسًا في المدارس الأميرية. لكن قبل امتحانه بمدرسة دار العلوم كان لابد من توقيع الكشف الطبي، رسب الفتى في الامتحان الطبي، وحز في نفسه كثيرًا بعد أن رأى زملائه ينجحون وهو لا ينجح، ويدخلون دار العلوم، بينما هو يعود إلى الأزهر.
ومرة ثانية يقرأ بإحدى الجرائد عن إعلان لوزارة المعارف تطلب فيه مدرسين للغة العربية، يقومون بالتدريس في مدارسها بأربعة جنيهات شهريًا، ويدخل أحمد الإمتحان وينجح هذه المرة ويعين بمدرسة تابعة لأوقاف أهلية وخاضعة لتفتيش وزارة المعارف، وهي مدرسة راتب باشا بالإسكندرية وذهب الشاب إلى الإسكندرية للعمل مدرسًا للغة العربية بالصف الرابع الابتدائي. وبالإسكندرية تعرف أحمد أمين على صديق كان يعمل استاذًا للغة العربية بمدرسة رأس التين الثانوية تخرج من دار العلوم هو الشيخ عبدالحكيم بن محمد، وكان يلتقي به دائمًا بمحل أحمد الشربتلي الذي كان مجمعًا للأدباء والظرفاء في ذلك الوقت وقد تعرف على بعضهم.
في سنة تقرر فتح مدرسة القضاء الشرعي، ويرجع ذلك إلى جهد شاق قام به الشيخ محمد عبده، واحتضن فكرتها سعد باشا زغلول، إذ كان ناظرًا (وزيرًا) في للمعارف في ذلك الوقت، وأمينًا على أفكار الشيخ محمد عبده. وكان الخديوي عباس حلمي الثاني معارضًا لهذا المشروع معتقدُا أنه يسلب الأزهر أعز شيء لديه، وهو الإعداد للقضاء الشرعي، ويأتي ذلك بعد أن سلب من قبل إعداد مدرسي اللغة العربية عندما تم إنشاء مدرسة دار العلوم خاصة وأن الأزهر وديوان الأوقاف هما المصلحتان اللتان أطلقت فيهما يد الخديوي، والأهم من كل ذلك أن فكرة مدرسة القضاء نبعت من فكر الشيخ محمد عبده،واحتضنها صديقه سعد زغلول. وعلى أثر ذلك الخلاف طلب الطرفان دعوة مجلس الوزراء للاجتماع في فبراير ورأسه الخديوي، الذي أوضح اعتراضاته على المشروع، واقتراح إرجاء النظر فيه، لكن سعد زغلول أصر على تأييد المشروع، ودافع عن الفكرة، ثم أخذت الأصوات في النهاية، فانضم جميع الوزراء إلى سعد زغلول، ما عدا وزير الأشغال، فلم يسع الخديوي عباس حلمي الثاني إلا أن وافق على رأيهم ومضى القانون.
ويذكر في هذا الخصوص أن الحادثة دلت على احترام الخديوي للديمقراطية التي لم تعرف سابقة مثلها من قبل حيث يخالف فيها أكثر الوزراء الخديوي، فينزل عن رأيه إستجابة لرأي الأغلبية وهو ما يؤكد مدى النضج الديمقراطي الذي كانت تمر به البلاد في ذلك الوقت. وهكذا أعلن طلبات الالتحاق بمدرسة القضاء وشروط القبول ومواعيد الامتحان، وتقدم أحمد أمين، وكانت خشيته من الكشف الطبي أكبر من خشيته من الامتحان، فرسب في الكشف الطبي، لكن حدث ما ليس في الحسبان فقد رأى عاطف بك بركات ناظر المدرسة كثرة الساقطين في النظر، فأرجأ البت فيمن يقبل ومن لا يقبل إلى ما بعد الامتحان، وتقدم لهذا الامتحان أكثر من مئتين. رسب في الامتحان كل المتقدمين ألا خمسة، ولأن ترتيب أحمد أمين الثالث فشفع له عند ناظر المدرسة في قصر نظره طبيًا، ثم ضم إليهم تسعة من أحسن الراسبين، وبعض هؤلاء التسعة تم اختيارهم لأنهم من أبناء كبار علماء الأزهر.
أنهى أحمد أمين دراسته بمدرسة القضاء، وعلى الرغم من أن ترتيبه كان السادس، إلا أن ناظر مدرسة القضاء لم يعبأ بالترتب، فعينه مع الثلاثة الأوائل مدرسًا بالمدرسة بعد شهرين من تخرجه. وبعد تعينه شعر بحاجة إلى دراسة لغة أجنبية خاصة، فقرر تعلم الإنجليزية.
فيما يتعلق بأصدقاء أحمد أمين، فقد كان له مجموعة من الأصدقاء يطلقون على أنفسهم جمعية ذوي الثقافة الأنجليزية، وجماعة أخرى تطلق على نفسها جمعية أصدقاء الثقافة الفرنسية وكان عميدها الشيخ مصطفي عبدالرزاق، ومن بينهم الدكتور منصور فهمي وعزيز مرهم ومحمد كامل البنداري، والدكتور محمد عزمي وغيرهم. وأكثر أعضائها من خريجي الجامعات الفرنسية، ومما ألف بينهم إقامتهم في فرنسا وتعلمهم بها. وإذا كان يكثر في جمعية الثقافة الأنجليزية ذكر شكسبير وديكنز وماكولي وبرناردشو غلب عليهم المحافظة والاعتدال، فقد كان يكثر في الجمعية الفرنسية ذكر جان جاك روسو وفولتير وراسين وموليير ودركهايم، يغلب عليهم التحرر والثورة على القديم، ويكون الحديث مزيجًا بين حرية فرنسية واعتدال إنجليزي ومحافظة أزهرية، ويتحدث الجميع في السياسة وحرية المرأة، وفي المقارنة بين فرنسا ومصر. وكان أحد أعضاء هذه النخبة يصدر جريدة أسمها «السفور» يدافع فيها عن رأي قاسم أمين ويدعو إليه، وطلب منهم المساهمة معه في إخراجها وتولى تحريرها فقبلت مجموعة منهم وتألفت لجنة من الجمعيتين، كان من بين هذه اللجنة المشرفة على تحرير السفور الأساتذة مصطفى عبدالرازق ومحمد تيمور وكامل سليم والدكتور أحمد زكي، وكان ذلك في سنة .
جاءت الحرب العالمية الأولى ، وكانت أحداثها وقودًا لإلهاب الشعور الوطني، خاصة بعد أن تآمر الإنجليز لخلع الخديوي عباس حلمي الثاني نصير الثقافة والتنوير في مصر، ثم قيام بريطانيا بإعلان الحماية على مصر، وتولى حسين كامل سلطانًا على مصر من قبل الإنجليز، فآثر ذلك في المصريين. وفي نفس الوقت كانت مصر تعاني ويلات الحرب من سوء الحالة الاقتصادية ومن اعتداء الإنجليز على الأهالي، وتشغيل العمال المصريين رغم أنوفهم، واعتقال الزعماء المصريين وعلى رأسهم سعد باشا زغلول، وعاقب الإنجليز الأهالي عقابًا شديدًا بإطلاق الرصاص على المتظاهرين. وهنا قرر أحمد أمين المساهمة في الثورة، وفي هذا الشأن النضالي يقول أحمد أمين:«اختارني عبدالرحمن فهمي فهمي سكرتير حزب الوفد للإشراف على عملين: الأول إلقاء الخطب السياسية في المساجد عقب صلاة الجمعة، فكنت أجتمع مع بعض الزملاء وأنظم معهم إلقاء هذه الخطب، والأمر الثاني كتابة المنشورات التي نذكر فيها أهم الأحداث. ويضيف أمين: «وانغمست في السياسة واشتركت في المظاهرات وبخاصة في المظاهرات التي ترمي إلى التقريب بين الأقباط والمسلمين، وكنت أتلمس المظاهرة، فأركب عربة وأنا بعمامتي وأصطحب فيها قسيسًا بملابس الكهنوتية ونحمل علمًا فيه الصليب والهلال ونحو ذلك من أعمال».
وحول وجوده في الجامعة يقول أمين: «تعلمت من هذا الوسط أن ميزة الجامعة عن المدرسة هي البحث، فالمدرسة تعلم ما في الكتب، والجامعة تقرأ الكتب لتستخرج منها جديدًا، والمدرسة تعلم آخر ما وصل إليه العلم، والجامعة تحاول أن تكشف المجهول من العلم، فهي تنقد ما وصل إليه العلم وتعدله وتحل جديدًا محل قديم، وتهدم رأيًا وتبني مكانة رأيًا آخر، وهكذا هذه الوظيفة الأولى والأخيرة، فإن لم تقم بها كانت مدرسة ولا جامعة. وأخذني ذلك التفكير إلى التمهيد لمشروع واسع في البحث وضعته مع كل من: الدكتور طه حسين والأستاذ عبدالحميد العباد وأنا، وخلاصته أن ندرس الحياة الإسلامية من نواحيها الثلاث في العصور المتعاقبة من أول ظهور الإسلام، فيختص د. طه حسين بالحياة الأدبية والأستاذ العبادي بالحياة التاريخية وأختص أنا بالحياة العقلية... فأخذت أحضر الجزء الأول الذي سمي بـ«فجر الإسلام»، وصرفت فيه ما يقارب من سنتين فرسمت منهجه ورتبت موضوعاته، ثم أكتبه مستدلاً بالنصوص، وأنتقل إلى الموضوع الذي بعده وهكذا... وقد تم هذا الجزء من فجر الإسلام في آخر سنة ». وحول دور طه حسين وعبدالحميد العبادي، قال: «لقد عاقت زميلي عوائق عن إخراج نصيبهما، فواصلت أنا في إخراج فجر الإسلام وضحى الإسلام في ثلاثة أجزاء وظهر الإسلام في أربعة أجزاء». وهو، كما كتب عبدالله الرشيد، مشروع مهم وموسوعة فريدة من نوعها، قدم فيها تاريخًا ثقافيًا للحضارة الإسلامية، وهو بهذا يُعد من أوائل المؤرخين الذين اعتنوا بدراسة تاريخ الفكر والحياة العقلية عند المسلمين.
ومن مؤلفاته أيضًا، فيض الخاطر ( أجزاء)، زعماء الإصلاح، الشرق والغرب، يوم الإسلام، مبادئ الفلسفة، الأخلاق، النقد الأدبي (جزءان)، قصة الفلسفة اليونانية، قصة الفلسفة الحديثة (جزءان).
#فهد_المضحكي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
فوز ترامب.. انتصار للشعبوية الأمريكية
-
وداعًا النقابي محمد المرباطي
-
سيد درويش... رائد الأغنية الوطنية
-
مأزق المشروع الحضاري العربي
-
العرب والفكر النقدي
-
قيم قابلة للتبديل بحسب الحاجة
-
المنهج النقدي عند محمد مندور
-
لماذا لا تزال أوروبا تدور في الفلك الأمريكي؟
-
الكتابة والحرية
-
هل تراجعت الهيمنة الأمريكية؟
-
يوسف سلامة.. فيلسوف العقل والتغيير
-
كتاب «وجهة نظر»
-
الدولة العميقة في الولايات المتحدة
-
المفكّر برهان غليون وحديث عن الطائفية
-
الدولة الفلسطينية والانقسام الأوروبي
-
الأنانية تقتل الليبرالية
-
المفكر الكبير لويس عوض
-
الصراع الروسي الأمريكي أكبر من أوكرانيا
-
حديث عن تغييب العقل وغياب الوعي
-
52 عامًا على اغتيال الأديب غسان كنفاني
المزيد.....
-
عارضة الأزياء باميلا أندرسون بإطلالة يغيب عنها المكياج..ما ا
...
-
محلل لـCNN: الدبابات الإسرائيلية على بعد 30 كيلومتر من دمشق
...
-
احتجاجات طلابية تشل التعليم في صربيا
-
ترامب: هذا يوم عظيم لأمريكا
-
الصين تخطط لإطلاق قطار -أسرع من الطائرات-!
-
روسيا.. إصدار كتب حول الذكاء الاصطناعي لطلاب المدارس
-
حمية غذائية تساعد على تخفيف الألم المزمن
-
اغتيال حسن نصر الله أم سقوط بشار الأسد؟.. إيران تكشف أي الحد
...
-
تقارير غربية: حماس تبدي مرونة بشأن اتفاق وقف النار وتوافق عل
...
-
-منصة القاهرة- للمعارضة السورية تعلن موقفها من حكومة البشير
...
المزيد.....
-
سيرة القيد والقلم
/ نبهان خريشة
-
سيرة الضوء... صفحات من حياة الشيخ خطاب صالح الضامن
/ خطاب عمران الضامن
-
على أطلال جيلنا - وأيام كانت معهم
/ سعيد العليمى
-
الجاسوسية بنكهة مغربية
/ جدو جبريل
-
رواية سيدي قنصل بابل
/ نبيل نوري لگزار موحان
-
الناس في صعيد مصر: ذكريات الطفولة
/ أيمن زهري
-
يوميات الحرب والحب والخوف
/ حسين علي الحمداني
-
ادمان السياسة - سيرة من القومية للماركسية للديمقراطية
/ جورج كتن
-
بصراحة.. لا غير..
/ وديع العبيدي
-
تروبادورالثورة الدائمة بشير السباعى - تشماويون وتروتسكيون
/ سعيد العليمى
المزيد.....
|