|
ابن خلدون: أعجوبة مازال تأثيرها حاضرا
بهجت العبيدي البيبة
الحوار المتمدن-العدد: 8178 - 2024 / 12 / 1 - 22:47
المحور:
الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع
ابن خلدون، ذلك المفكر العربي العبقري، وأحد أبرز مؤسسي علم الاجتماع، قدم للعالم رؤية تحليلية دقيقة للمجتمعات الإنسانية تتسم بالعمق والشمولية. كان ابن خلدون يدرك أن التاريخ ليس مجرد سرد للأحداث، بل هو علم قائم بذاته يسبر أغوار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي تحكم حركة الشعوب والحضارات. وبينما وُلدت أفكاره في سياق تاريخي وثقافي معين، إلا أنها تحمل في طياتها مرونة تسمح بتطبيقها على المجتمعات الحديثة، كما أنها شكلت مصدر إلهام للعديد من العلماء والمفكرين، سواء في العالم الغربي أو العربي. ومن هنا، فإن استكشاف تطبيقات أفكار ابن خلدون اليوم يتطلب ربطها بمقاربات معاصرة، بالإضافة إلى استعراض تأثيره على مفكرين مثل إميل دوركايم وعلي الوردي، وتسليط الضوء على دور طه حسين في إعادة إحياء إرثه.
فهم العصبية كمفهوم اجتماعي
حين نتأمل مفهوم العصبية الذي طرحه ابن خلدون، نجد أنه يمثل الأساس الذي تقوم عليه المجتمعات. العصبية، وفق رؤيته، ليست مجرد ولاء عشائري أو قبلي، بل هي رابطة اجتماعية تمنح الجماعات قوة وتماسكاً في مواجهة التحديات. هذا المفهوم يمكننا إسقاطه على المجتمعات الحديثة لفهم كيفية تشكيل الهويات الجمعية وتأثيرها في تحقيق الوحدة الوطنية أو في تأجيج الصراعات الداخلية. مثلاً، في عالمنا الحالي، تلعب العصبيات العرقية والدينية والثقافية دوراً مزدوجاً؛ فهي تساهم في تعزيز التماسك الاجتماعي في بعض السياقات، لكنها قد تتحول أيضاً إلى عامل تفكيك في ظل النزاعات السياسية والاجتماعية. ابن خلدون يقدم هنا أداة تحليلية مهمة لصانعي القرار لفهم هذه الديناميكيات والعمل على توظيف العصبية بشكل إيجابي لتعزيز الاستقرار الاجتماعي.
الدورة الحضارية وتفسير التاريخ
واحدة من أكثر أفكار ابن خلدون عمقاً هي نظريته عن الدورة الحضارية، التي يرى من خلالها أن المجتمعات تمر بمراحل من النمو والازدهار، ثم تصل إلى ذروة استقرارها قبل أن تبدأ في الانحدار. هذه الرؤية ليست مجرد انعكاس لتاريخ الحضارات القديمة، بل هي نموذج يمكن تطبيقه لفهم التغيرات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في العالم الحديث. في عصر العولمة، نجد أن هذه النظرية توفر إطاراً لفهم تأثير التحولات السياسية والتكنولوجية على المجتمعات. مثلاً، يمكننا استخدامها لتفسير الصعود السريع لبعض الاقتصادات الحديثة، مثل الصين، مقابل التراجع الملحوظ في اقتصادات أخرى نتيجة صراعات داخلية أو أزمات اقتصادية عالمية.
البيئة والاقتصاد: رؤية استباقية
ابن خلدون كان سابقاً لعصره في إدراكه للعلاقة الوثيقة بين البيئة والاقتصاد. كان يرى أن الموارد الطبيعية والمناخ والبيئة تؤثر بشكل مباشر على شكل المجتمعات واستقرارها. هذه الرؤية تكتسب أهمية جديدة في عصرنا الحالي، حيث يواجه العالم أزمات بيئية كبرى مثل تغير المناخ واستنزاف الموارد. اليوم، يمكن لأفكار ابن خلدون أن تساعد في تحليل تأثير هذه القضايا على الهجرة والنزاعات الدولية، وكيفية صياغة سياسات مستدامة تراعي التحديات البيئية المتزايدة.
النظم السياسية وديناميكيات الحكم
في تحليله للنظم السياسية، كان ابن خلدون يرى أن العصبية تلعب دوراً جوهرياً في بناء الدول واستقرارها. يمكننا إسقاط هذا المفهوم على سياقات معاصرة لفهم كيفية تأثير الهويات الاجتماعية والثقافية على تشكيل الأنظمة السياسية. على سبيل المثال، تتجلى أهمية هذا التحليل في العالم العربي، حيث تستمر الهويات الطائفية والقبلية في لعب دور محوري في تشكيل النظم السياسية. فهم هذا الجانب من فكر ابن خلدون يمكن أن يساعد على تصميم سياسات تعزز من الوحدة الوطنية وتقوض النزعات الانقسامية.
مقارنة ابن خلدون بدوركايم
حين نقارن بين ابن خلدون وإميل دوركايم، مؤسس علم الاجتماع الحديث، نجد تشابهاً مثيراً في منهجيهما رغم الفارق الزمني والثقافي بينهما. ابن خلدون ركز على العصبية كعامل أساسي للتماسك الاجتماعي، بينما درس دوركايم التضامن الاجتماعي، سواء في صيغته التقليدية (التضامن الآلي) أو الحديثة (التضامن العضوي). ورغم اختلاف المصطلحات، إلا أن كليهما اهتم بفكرة الرابط الاجتماعي ودوره في استقرار المجتمعات. بينما انصب اهتمام دوركايم على المجتمعات الصناعية الحديثة، كانت رؤية ابن خلدون أقرب إلى المجتمعات التقليدية. ومع ذلك، فإن أفكارهما تقدم إطاراً تحليلياً متكاملاً لفهم العلاقات الاجتماعية في مختلف الأزمنة.
تأثير ابن خلدون على علي الوردي
تأثير ابن خلدون امتد إلى عالم الاجتماع العراقي علي الوردي، الذي أعاد صياغة أفكار ابن خلدون في ضوء واقع المجتمع العراقي الحديث. الوردي استفاد من نظرية العصبية لفهم التحديات التي تواجه المجتمع العراقي، مثل الانقسامات الطائفية والقبلية، وأضاف إليها تحليلاً للآثار الاجتماعية للعولمة والتحولات الاقتصادية. يمكن القول إن علي الوردي أعاد إحياء الفكر الخلدوني بأسلوب معاصر، مما جعله أكثر قرباً لفهم المجتمعات العربية الحديثة.
طه حسين وإحياء ابن خلدون
وسط هذه التحولات الفكرية، يبرز دور طه حسين، عميد الأدب العربي، في إعادة إحياء فكر ابن خلدون وتسليط الضوء عليه. رأى طه حسين في ابن خلدون مفكراً سبق عصره، ليس فقط كمؤرخ، بل كفيلسوف اجتماعي قدم رؤية متكاملة لتحليل المجتمعات. طه حسين عمل على إبراز البعد النقدي في فكر ابن خلدون، وكيف كان قادراً على تجاوز النزعة السطحية في الكتابة التاريخية إلى تحليل علمي دقيق. هذا الدور الذي لعبه طه حسين ساعد على تقديم ابن خلدون كمرجع عالمي في الدراسات الاجتماعية.
التفاعل بين الثقافة والاقتصاد
أخيراً، يبقى فهم العلاقة بين الثقافة والاقتصاد من أبرز الإسهامات الفكرية لابن خلدون. هذه العلاقة تبرز بوضوح في عالمنا الحديث، حيث تؤثر القيم الثقافية بشكل كبير على السلوكيات الاقتصادية. فهم هذا التفاعل يمكن أن يساعد صانعي السياسات على تصميم استراتيجيات تنموية تأخذ في الاعتبار الجوانب الثقافية والاجتماعية، مما يساهم في تعزيز النمو الاقتصادي وتحقيق التنمية المستدامة.
خاتمة
إن المزج بين أفكار ابن خلدون وإسهامات علماء مثل دوركايم وعلي الوردي، مع تسليط الضوء على دور طه حسين، يبرز الأهمية المستمرة للفكر الخلدوني. أفكاره ليست مجرد إرث تاريخي، بل أدوات تحليلية قوية لفهم التغيرات الاجتماعية والاقتصادية في العالم المعاصر. إذا استطعنا أن نستلهم هذه الأفكار ونطبقها بشكل فعّال، فإننا سنكون قادرين على مواجهة تحديات العصر وبناء مجتمعات أكثر استقراراً وتماسكاً، مستفيدين من حكمة الماضي ورؤية ابن خلدون الخالدة.
#بهجت_العبيدي_البيبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
المطبعة التي لم تصل: انغلاق رجال الدين يعيق تقدم المجتمع
-
في الحب نكتب: سر الحياة وملاذ القلوب
-
التعليم في مصر والعالم العربي: يجب نسف أسلوب التلقين
-
كهف أفلاطون ومأساة المستنير في كل العصور
-
في الحداثة .. مساهمة شرقية قديمة
-
لا أوْلويّة تسبق أولوية التعليم والبحث العلمي
-
العقل المحرر يرفض الأوهام والخرافات!
-
على هامش مباراة السوبر.. من شعب مصر: شكرا دولة الإمارات
-
عن منتخب مصر.. الخسارة المحزنة والفوز المفرح.. نظرة تحليلية!
-
هل يشهد مطار القاهرة قداس صلاة!؟
-
قداس صلاة بمطار القاهرة الدولي!
-
أزمة الدولار في مصر ومبادرة النائبة غادة عجمي
-
النادي المصري بفيينا يستعيد القمة!!
-
عبر الحوار المتمدن ... دعوة لنواب المصريين بالخارج للم الشمل
...
-
حول مستشفى مجدي يعقوي .. سؤال يعكس عمق الأزمة!!
-
-فصل- النهضة التونسية
-
بمصر ...أزمة نقابة الصحفيين تكشف أزمة أعمق
-
الجزيرة والقرضاوي ومجازر حلب
-
دلالات رفع علم السعودية في ذكرى تحرير سيناء! !
-
بالنمسا ..- تيران وصنافير - تركية سورية
المزيد.....
-
هل مفهوم -صفر نفايات- أمر قابل للتحقيق في مشهد الطعام حقًا؟
...
-
بوتين يوافق على ميزانية دفاعية قياسية لروسيا.. كم تبلغ؟
-
ستراسبورغ تتألق في موسم عيد الميلاد وتحتضن الزوار في أقدم أس
...
-
غارات جوية للجيش السوري على إدلب تخلف 25 قتيلًا وروسيا تقيل
...
-
صفقات الأسلحة تزدهر في جميع أنحاء العالم - خاصة في روسيا
-
مادة ربما تغير حياة البشر.. ما هو -مسحوق الكربون-؟
-
ماسك يعلق على قرار الرئيس الأمريكي العفو عن نجله هانتر
-
-واينت-: الظروف مثالية للتوصل إلى اتفاق بشأن غزة
-
كرات نانوية للحماية من الإشعاع!
-
عواقب نمط الحياة الخامل على الصحة
المزيد.....
-
كتاب رينيه ديكارت، خطاب حول المنهج
/ زهير الخويلدي
-
معالجة القضايا الاجتماعية بواسطة المقاربات العلمية
/ زهير الخويلدي
-
الثقافة تحجب المعنى أومعضلة الترجمة في البلاد العربية الإسلا
...
/ قاسم المحبشي
-
الفلسفة القديمة وفلسفة العصور الوسطى ( الاقطاعية )والفلسفة ا
...
/ غازي الصوراني
-
حقوق الإنسان من سقراط إلى ماركس
/ محمد الهلالي
-
حقوق الإنسان من منظور نقدي
/ محمد الهلالي وخديجة رياضي
-
فلسفات تسائل حياتنا
/ محمد الهلالي
-
المُعاناة، المَعنى، العِناية/ مقالة ضد تبرير الشر
/ ياسين الحاج صالح
-
الحلم جنين الواقع -الجزء التاسع
/ كريمة سلام
-
سيغموند فرويد ، يهودية الأنوار : وفاء - مبهم - و - جوهري -
/ الحسن علاج
المزيد.....
|