|
المفكّر نصر حامد أبو زيد -عراقيّا-
نصير عواد
الحوار المتمدن-العدد: 8176 - 2024 / 11 / 29 - 00:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
في مصادفةٍ قد لا تحدث لغير المنفيّين، ألتقينا في المقهى المقابل لجامعة لايدن الهولندية: المفكّر نصر حامد أبو زيد أستاذ الدراسات الشرقيّة في الجامعة، الدكتورة آمنة نصيّر أستاذ الفلسفة الإسلاميّة بجامعة الازهر، الناقد العراقي ياسين النصيّر، وكاتب السطور. وكعادة المنفيّين دارت حوارات وذكريات واشواق لمدن خلف البحار، انتهت إلى سؤال مرير عن أسباب شيوع مفردة "النصر" في اسمائنا، ونحن إمّا مُطارد أو متهم او حالم بقبر في بلده. كنّا نعزّي أنفسنا بتكرار مفردة "النصر" في الكتب المقدسة، وأن لقاؤنا بالمقهى يُعدّ ضرباً من ضروب الانتصارات الصغيرة، في بلدانٍ لا يحقق النصر فيها سوى الحاكم الأوحد وحزبه العظيم. في مقالنا لا نسعى لترتيب حكاية صحفية عن حياة الدكتور "نصر حامد أبو زيد" ولا نحفر عميقا في ابحاثه وظروف محاكمته ونفيه، وسنحاول فيه التركيزعلى تأثيره الثقافي والإنساني على المنفيّين الذين غادروا بلدانهم إكراها، وبالذات الجالية العراقيّة. فلقد كان من غير المنصف يومذاك انتقال "أبو زيد" من مناخ مصريّ معادي له ولعائلته ولأفكاره، إلى وسطٍ يُهيمن عليه منفيون جاؤوا من جهات مختلفة وتجارب متباينة: سياسي معارض لديكتاتورية صدام حسين، مقاتل من كوردستان فقد عائلته بالسلاح الكيمياوي، جندي هارب من جحيم الحروب، فنان غادر بغداد بعد نصف قرن من الوقوف على خشبة المسرح، متشاطر يبحث له عن مكان بين هذا الخليط... وكان على "أبو زيد" ان يتعامل مع هذا الطيف الواسع من المثقفين والسياسيّين والمقاتلين الذين تركوا سلاحهم توا. بسبب تجربته كان أبو زيد يكره القمع بكل اشكاله، ويكره الحرب أكثر، وكان يمطرنا بأسئلته عن معاناة الحصار الذي حل بالعراقيّين بعد احتلال الكويت، يسألنا عن عوائلنا التي لم نسمع شيئا عن اخبارها طوال اعوام، يسألنا عن رفاقنا الذين لم نجد الوقت الكافي لدفنهم، ثم يأخذنا إلى التاريخ وتجارب الشعوب لغرض مواساتنا ورش الماء على ذكرياتنا القاسية. كان يحاول التخفيف من قسوة لغتنا ومصطلحاتنا التي جلبناها معنا من خلف المتاريس والسجون، ولكنه غالبا ما يصطدم بعنادنا وتطرفنا، حتى قال مرّة (بهولندا لا أظن جالية تخلو من الاعتدال أكثر من العراقيين) فمن بين مشاكل العراقيّين المزمنة ان السياسة عندهم مواقف مبدئية ثابتة كما لو انها مربوطة لعمود في رؤوسهم، ولا تتغير كثيرا بتغير الأحوال والحكام. صحيح هم لا يعودون للماضي البعيد في اسناد وتبرير مواقفهم تلك، كما يفعل رجال الدين، ولكنهم على أية حال لا يخلون من مسحة قداسة للماضي القريب الذي شهدوا فيه خراب بلدهم ومجتمعهم. كانت الجالية العراقية تلتقي كثيرا بالدكتور نصر حامد أبو زيد في الامسيات والندوات الثقافيّة التي تطول فيها الحوارات، وغالبا ما يبادر نشطائها إلى تحضير كل شيء. العراقيون يعرفون جيدا انهم يثقلون على أبو زيد، ولكنهم كانوا بحاجة إلى تلك اللقاءات المتباعدة، حتى ان بعضهم يجدها أفضل من دزينة تجارب كانوا قد قضوها في السياسة والمنفى والقتال في الجبال وعلى سواتر الحرب العراقيّة الإيرانيّة. فهو لم يمسد على الأفكار ولم يبحث في أحاديثه عن كلمات المناسبات ولم يعطِ نصيحة او يقترح حلا جاهزا، فالأحداث كانت سريعة ومدمرة بعد انتهاء الحرب العراقية الإيرانية واجتياح الكويت. كان أبو زيد تلقائيا وبسيطا وعميقا في حواره مع المنفيّين، وكانت فيها الكثير من الأفكار التي يمر عليها سريعا لها أهمية كبيرة عندهم. أحبوا فيه تواضعه وعدم جلوسه في الكراسي الامامية أو طموحه للسير على السجادة الحمراء، على الرغم من تهافت بعض السفراء على الجلوس قربه ودعوته لبيوتهم بعد انتهاء الندوة. كنا نتهامس بيننا، نحن الناجون بأنفسنا من حروب الديكتاتور، ان أبو زيد يمتلك جرأة فكرية في مواجهة السائد تشبه جرأتنا في الخروج على الدكتاتور، وانه يطرح أسئلة جديدة على مخيلتنا السياسيّة (لماذا دين الدولة الإسلام؟ فهل الدولة تصلي وتصوم وتزكي وتحج أم انها مجموعات مؤسسات خدمية واقتصادية لتسيير حياة الناس) عندما أُجبرنا على الخروج من بلدنا نهاية السبعينيّات كنّا قد توجهنا بقوة صوب القراءة والبحث في أسباب عثراتنا السياسية، البحث بين الآيات القرآنية والأحاديث النبوية والصراعات القديمة القريبة من مفاهيمنا اليسارية، ونحاول جاهدين جر "أبو زيد" إلى جهتنا، تأسيسا على ربطه بين سلطة النص والسلطة السياسية، ولكن الرجل رغم قربه منّا لم يفقد قط وضعية المفكّر صاحب المشروع، وكان يتحدث بشكل دائم عن النص القرآني وعن معضلة التراث التفسيري الذي أصبح نصا مساويا للنص الأصلي، يتحدث عن ضرورة الاتفاق العام على تفسير القرآن وتأويله بعيدا عن المفهوم الأيديولوجي، ثم فجأة يتذكر بأن الذين يحدثهم جاؤوا من عراق هو الاول عربيا بالقمع، وأن رائحة زيت السلاح ما زالت على أيديهم، فيعدنا ضاحكا بأنه (سيدعي الأستاذ حسن حنفي إلى هولندا في قادم الأيام، وستجدون عنده ما تبحثون من أفكار يساريّة إسلاميّة) وهذا ما حدث لاحقا. في الحقيقة كنّا، كمناضلين ثوريين نعرف أشياء كثيرة ليس من بينها ما ينقصنا، وكان "أبو زيد" قد أدرك اسباب انشغالنا الحاد والعميق بالسياسة، وامتلاء مكتباتنا بتلك الكراريس المعنية بالصراعات الطبقية. كان يريد تحويل توجهنا للقراءة فرصة لفهم أوسع وألا نكتفي فقط بتجاربنا وقناعاتنا. كان ينشر حوله مساحة من الأمل، ويشير علينا من بعيد، بأدب جم، بقراءة الجيد وغير الجيد، اليساري واليميني، الممتع وغير الممتع، وذلك ليس فقط من باب الاتفاق او الاختلاف، بل كذلك من باب تعميق الأفكار وتوسيع المخيلة وتنويع المائدة. في المنفى لم تكن حياة نصر حامد أبو زيد سهلة، على الرغم من تلك الابتسامة التي لا تفارق وجهه. أغلب أيامه كانت تدور بين البيت والجامعة والنشاطات الثقافية في عطلة نهاية الأسبوع لحين اقتراح الناقد "ياسين النصيّر" أن نغير في برنامج حياتنا قليلا، أن نتصعلك نحن الثلاثة يوما واحدا في الشهر، نقتطعه من عوائلنا، ونترك خلفنا هموم الثقافة والسياسة. نسرح في متاحف وازقة لايدن القديمة. يومذاك أضفنا شيئا صغيرا لحريتنا، واحسسنا بمتعة لم تكن متوفرة في الأيام الاعتيادية. اثناء التصعلك كنّا كــ"عراقيّين" نختلف معه على أمور كثيرة، أحيانا تعلو اصواتنا وضحكاتنا، ثم نطلق الألقاب على بعضنا البعض، مستعينين بالتراث وبالصراعات الجارية في بلداننا. أحب أبو زيد لقب "الشينات الثلاث": شيعة، شيوعيين، شراگوة، الذي أُطلق على شرائح اجتماعيّة معادية لسلطة البعث. قد تكون أجمل الأمسيات هي تلك التي كان يلتقي فيها "أبو زيد" بشيخ المسرح العراقي الفنان "خليل شوقي" الذي ترك بلده العراق بعمر ناهز السبعين. تبدأ الامسية بحوار جاد عن مشكلات عالمنا العربي، تتخلله نكات سود مضحكات، ثم تنتهي الامسية بأغنية محمد عبد الوهاب "الكرنك" التي يحب ترديدها "خليل شوقي" يغنيها بيديه وعيونه وحركات جسده التي صقلتها أعوام المسرح. وعندما تنتهي الامسية نحار كيف نعود لبيوتنا وكيف يوصل بعضنا البعض لأقرب محطة قطار، فلقد كان أبو زيد يسكن بيتا بالإيجار على أطراف المدينة، ولا يملك وسيلة نقل خاصة. في تلك التسعينات كانت الصحافة الصفراء قد رسمت صورة مشوهة للمفكّر نصر حامد أبو زيد، صوّرته كافرا يكره الإسلام، وقوّلته ان القرآن أرضيّا لا سماويّا، وأنه باع نفسه للغرب بأن اعطوه بيتا فارها وسائقا خاصا... في حين كان الرجل يعيش حياة متواضعة في بيت للإيجار، بسيط الأثاث مثل مَن يريد العودة سريعا لبلده. كان يذهب من بيته إلى مكان عمله بواسطة النقل العام، وفي ساعات الاستراحة يتناول طعامه في مطعم الطلاب المقابل لقسم الدراسات الشرقية، الذي يعمل فيه. وحتى الضيوف الذين كانوا يأتون لزيارته من دول أوربية وعربية، مثقفين ومفكرين عرب، كان يلتقي بهم في مطعم الطلبة، قبل ان يستضيفهم في بيته بتلك الروح المصرية الميالة للنكتة، يترك فيها رسائل ترحيب في جميع أنحاء المنزل، في غرفة الاستقبال وفي المطبخ. كان قليل الاكل على الرغم من ان بدانته تعطي انطباعا مختلفا. في البيت ينفق وقته بالاستماع لضيوفه والوقوف في المطبخ لتقطيع الخضراوات وعمل السَلَطة بيديه، فهو يحب ذلك. وفي حال غياب أيا من مكونات السَلَطة سيتحوّل إلى موضوع تحضر فيه قرية قحافة والقاهرة والغلابة الذين صبروا على هموم الدنيا. في الحقيقة كان يؤلمه حضور الغلابة على لسانه وذاكرته، فهو يميل إليهم ويتفهم انشغالهم بلقمة العيش عن كتاباته. وكان عندما يتذكر الصورة المشوهة التي رُسمت له في الشارع المصري تجمد نظرته ويشرد قليلا، ثم تقفز بين كلماته شذرات عما حصل له ولزوجته، فهناك جروح لا تلتئم ابدا. كان نصر حامد أبو زيد" يتحدث عن ان الخلافات انصبت على منهجه، مثلما حدث لطه حسين في كتابه "الشعر الجاهلي" وأن بعض المتضررين من كتاباته عن الهيئة المالية هي التي اشعلت الصراع وأدت إلى ما أدت إليه. فلقد كان يتابع أخبار مصر وأحوال المصريّين يوم بيوم، وأحيانا يرد على بعض ما ينشر في الصحافة المصرية. ومع ان تلك المتابعة تشغله عن مشروعه وتأخذ الكثير من وقته كأستاذ جامعي لديه طلبة والتزامات، ولكنه لم يستطع عبورها، فلقد أحب بلده مثل أي مواطن مصري. واللافت انه عندما كان يسهب بالحديث عن مصر والمصريّين فإن الذين تسببوا له بالضرر وأبعدوه عن بلده هم الجانب الأخير في حديثه، فلقد كان يركز على مشروعه الفكري وعلى المجتمع مصري أكثر من أي موضوع آخر. قد يكون المنفى ساهم في توسيع علاقاته ومساحة حريته ونشر كتبه، ولكن الرجل غادر بلده مفكرا صاحب مشروع، ولم يجعله المنفى هكذا. جاء المنفى مصبوبة منسجمة من الوطنية والاعتزال والزهد والعلوم الحديثة، يفضل موته على تراجعه عن أفكاره، وكان قد أسر لنا مرّة أنه أبلغ زوجته بذلك. واعتقد ان هذه الخصيصة الأخيرة هي من بين الخصائص التي كان الشيوعيّين العراقيّين يتحلون بها، ولذلك كان من الصعوبة عليهم تخيّل أستاذ جامعي أُخرج من بلده بهذه الصورة المؤلمة دون أن يصرخ ويحرض من منفاه ضد المسؤولين عن ذلك. فلقد كان "نصر حامد أبو زيد" كريما عزيز النفس، لم يتوقف عند سقط الاخبار، ولم يتعاطَ بشكل شخصي حين يأتي الحدث عن الذين "اجتهدوا" بتكفيره وطالبوا بإخراجه من بلده، ولم يشمت بتزاحم الازهريّين على فتات الدنيا، كان همه مصر، كل مصر.
#نصير_عواد (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
الكاتب-ة لايسمح
بالتعليق على هذا
الموضوع
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
سماع الكلام أولى من رؤية العمامة
-
التشوّهات الطبقية في العراق
-
عندما يخسر التلْفاز موقعه
-
في تحوّل المنضمات المسلّحة إلى -الجريمة المنظمة-
-
لماذا نردّد كلمات دون غيرها؟
-
الدعوة لانتخاب -ترامب-
-
لن يمروا، باقٍ ويتمدد، وحدة الساحات..
-
هل الغرب الامبريالي فقط هو سبب مشاكلنا؟
-
الاغلبية العراقيّة بين السكوت والصمت
-
ديموقراطية الفوضى، خمسمائة حزب عراقي
-
في انتصار الأحزاب على العراق
-
السلاح الموازي متعدّد الاستعمالات
-
الاغنية -السبعينيّة- سيدة الشجن العراقيّ
-
حضور الجنس وغياب الحب في رواية (الحُلْو الهارب إلى مصيره)
-
النّاس هم الأغنية
-
خبراء خارج قائمة المطلوبين
-
ثلاث روايات عراقيّة تُصّور جحيم تجربة الثوار في الجبل
-
دور العزلة في التشدّد الإيرانيّ
-
محترفو المعارضة
-
معتدلو -الشيعة- بالعراق
المزيد.....
-
متحدث الخارجية الايرانية يحذر من تنشيط الزمر الارهابية التكف
...
-
قائد حرس الثورة الاسلامية اللواء سلامي: حزب الله فخر العالم
...
-
تونس.. وفاة أستاذ تربية إسلامية أضرم النار في جسده (صورة)
-
هشام العلوي: أية ديمقراطية في المجتمعات الإسلامية ؟
-
تعداد خال من القومية والمذهب.. كيف سيعالج العراق غياب أرقامه
...
-
وفد الجامعة العربية لدى الأمم المتحدة يدعو لحماية المنشآت ال
...
-
ولد في اليمن.. وفاة اليهودي شالوم نجار الذي أعدم -مهندس المح
...
-
ماما جابت بيبي..أضبطها الآن تردد قناة طيور الجنة بيبي على ال
...
-
ماما جابت بيبي.. متع أولادك بأجمل الاغاني والاناشيد على قناة
...
-
مرشح جمهوري يهودي: على رشيدة طليب وإلهان عمر التفكير بمغادر
...
المزيد.....
-
شهداء الحرف والكلمة في الإسلام
/ المستنير الحازمي
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
المزيد.....
|