|
الفضاء الرقمي كساحة جديدة للعنف ضد النساء قراءة تحليلية في الأسباب والآليات
خليل إبراهيم كاظم الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 8175 - 2024 / 11 / 28 - 20:11
المحور:
حقوق الانسان
مقدمة - يُشكّل العنف الرقمي ضد النساء ظاهرةً مُقلقةً ومتناميةً في عالمنا المعاصر، حيث أصبح الفضاء الإلكتروني ساحة جديدة للتّمييز والاعتداء على النساء والفتيات. فالتكنولوجيا، التي تُعدّ أداةً للاتصال والاتصال بالآخرين، أصبحت أحياناً وسيلةً مُرتقبةً لتعزيز وتكريس علاقات القوة غير المتكافئة القائمة على الجندر. تُبيّن البيانات العالمية والمحلية معدلاتٍ مرتفعةً بشكلٍ مثيرٍ للقلق من التحرش، والاعتداءات، والتشهير، والتهديد، والابتزاز المُوجه ضد النساء في الفضاء الرقمي، مُهددةً سلامتهنّ وقدرتهنّ على المشاركة في المجتمع. - يُظهر بيان المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان، الدكتورة نتاليا كانيم، في اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة 2023، مدى خطورة هذه الظاهرة، إذ لا تقتصر على عالمٍ افتراضيٍّ، بل تُهدد النساء في منازلهن، ومدارسهن، وأماكن عملهنّ، لتنتشر في فضائهنّ الرقميّ. فهو يتجسّد عبر المُحتوى المُسيء، والتعليقات السّاخرة، والتحرش الجنسيّ عبر الإنترنت، والتشهير المُتعمّد، وتزييف الصور، والهجمات الإلكترونية المُنظمّة التي تهدف إلى إضعاف قدرتهنّ على المشاركة في الحياة العامة. يتزامن هذا العنف مع عدم وجود تعريفٍ مُوحّدٍ عالميٍّ، ما يُعرقل جهود جمع بياناتٍ قابلة للمقارنة، مع تزايد التقارير الإقليمية والقطرية التي تكشف عن حجم هذه الظاهرة المُخيفة. - تشير البيانات إلى أنّ نحو 60% من النساء حول العالم قد تعرضنّ لشكلٍ من أشكال العنف الرقمي، بما في ذلك التحرش الرقمي، والتشهير، وحملات التشويه المُنظمّة، والعنف النفسي والتلاعب الرقمي. ويكشف هذا العنف عن حقيقة أنه لا يقتصر على بعض المناطق أو الثقافات، بل هو ظاهرةٌ عالميةٌ تحتاجُ إلى معالجةٍ مُتكاملةٍ. ففي الاتحاد الأوروبي، أفادت واحدة من كل عشر نساء عن تعرضها للتحرش الإلكتروني منذ سن الخامسة عشرة، بينما في دول عربية تُقدّر نسبة النساء اللواتي تعرضن للعنف الرقمي بـ60% في العام الماضي، وتجاوزت نسبة الضحايا 50% في دول غرب البلقان وأوروبا الشرقية. في أوغندا، شهدت النسبة 49%، وفي كوريا الجنوبية، بلغت نسبة التعرض لخطاب الكراهية الرقمي 85%. - تُشكّل هذه البيانات مُعلماً واضحاً على ضرورة التّعامل مع العنف الرقمي ضد النساء كتهديدٍ جادٍّ للحريات والحقوق، وكمُعوّقٍ للتنمية المُستدامة. فذلك يتطلب نهجاً مُتكاملاً، يُشارك فيه كافة الأطراف، من الحكومات والمنظمات غير الحكومية إلى الشركات التقنية، لتطوير سياساتٍ وقوانينٍ فعّالةٍ، وإقامة منصّاتٍ رقميةٍ آمنةٍ، وزيادة التوعية المُستدامة لدى النساء والفتيات. ستُشكّل هذه المُقدمة أساساً لدراستنا التي ستُسلّط الضوء على أبعاد هذه الظاهرة، وتُحدد استراتيجياتٍ مُتينة لمواجهتها. - العنف الرقمي هو عبارة عن وجه جديد لعنف قديم، يتمثل في استخدام الإنترنت والمواقع الإلكترونية للتعنيف والتحكم والإساءة. إنه يتجاوز الضرب والاعتداء الجسدي، ليتجلى في أشكال متعددة من التهديدات، والتنمر، والاعتداءات الجنسية الافتراضية، وصولًا إلى نشر المعلومات الشخصية دون إذن. هذا العنف لا يقتصر على الشاشات، بل يمتد ليكون جزءًا من الحياة اليومية للضحايا، حيث تتعقد الطرق التي يمكن أن تُمارَس بها الإساءة في فضاء رقمي لا يعترف بالحدود. - وعندما نقوم بتحليل هذا الظاهرة، يتضح أن العنف الرقمي ليس مجرد تصرفات فردية، بل هو نتاج بنى اجتماعية واقتصادية وسياسية عميقة تُعيد إنتاج نفسها عبر الزمن. في مجتمع تسوده التفاوتات الجندرية، تُستغل التكنولوجيا لتجديد أساليب الهيمنة التقليدية، حيث تُعتبر النساء ضحايا بطرائق تتخطى مجرد الكلام المسيء إلى شبحٍ مستمر يمكن أن يطاردهن في كل زاوية من حياتهن. إذًا، كيف يمكن أن نفهم هذه الظاهرة في سياق التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي تشهدها المجتمعات، خصوصًا في العالم العربي؟ - سنسلط الضوء في هذا البحث على الأنماط المتنوعة للعنف الرقمي، وسنستعرض كيفية تداخلها مع المعايير الثقافية والاجتماعية السائدة. سنحاول تفكيك العلاقة بين التكنولوجيا والعنف، ونناقش كيف يمكن أن يُعاد تشكيل الأساليب القديمة للتهميش والإساءة تحت غطاء الحداثة. لنستعد معًا للغوص في عمق هذا الواقع المزعج، ونُسلط الضوء على التحديات التي تواجهها النساء في عالم تحكمه القواعد الرقمية، ونسعى لإيجاد سبل لفهم هذه الظاهرة وفكّ طلاسمها. أنماط العنف الرقمي ضد النساء: أشكال مُخادعة للسيطرة - يُعدّ العنف الرقمي ضد النساء ظاهرة مُعقدة ومتنوعة الأشكال، تُستغل فيها التكنولوجيا لتعزيز وتكريس السيطرة والتمييز ضد النساء. فهو ليس مجرد سلوك فردي مُنعزل، بل هو نظام مُتداخل من الأساليب التي تستهدف النساء في الفضاء الرقمي، و تُعزز علاقات القوة غير المتكافئة المُستندة إلى الجندر. أ) التحرش الرقمي: التهديدات والهجمات الرقمية المُوجهة - يُمثّل التحرش الرقمي شكلًا مُباشرًا من أشكال العنف الرقمي، حيث تُستخدم الرسائل المُهددة، والتعليقات المسيئة، والهجمات المُستهدفة بالهوية الجندرية، كأسلحة للسيطرة والترهيب. لا يقتصر الأمر على النساء اللواتي ينتقدن أو يُعبّرن عن رأيهن، بل يستهدف أي امرأة تُمثّل تهديدًا للنمط الاجتماعي المُتّبع.ويأخذ هذا النمط اشكالاً عدة و من ذلك : أ) الحملات المُستهدفة للصحفيات اللواتي يكتبن عن قضايا حساسة، تُحاول إسكاتهن أو إرهابهم من خلال التهديدات والتحرش عبر وسائل التواصل. ب) الهجمات المُوجهة للناشطات السياسيات اللواتي ينتقدن سياسات معينة، حيث يتم استخدام التعليقات المسيئة والمتحيزة ضدّهن. ج) حملات التحرش المُوجهة للنساء اللواتي يُشاركن على منصات التواصل الرقمية. - هناك العديد من الدراسات الدولية التي أشارت إلى وجود نمط مُتكرّر من التحرش المُستهدف للنساء عبر الإنترنت، مُستخدِمين أدوات مُتقدّمة للترويج للأفكار المُحرضة على الكراهية، مثل استخدام روبوتات الدردشة أو الحسابات المُزيفة، لضخ حملات تحرشية. كما أشارت دراسات أخرى إلى آلية استخدام التحرش الرقمي لتحقيق هدف استبدادي على مختلف المستويات. ب) التشهير ونشر المعلومات الشخصية: الاعتداء على سمعة النساء - يُمثّل التشهير ونشر المعلومات الشخصية شكلًا مُؤذياً من العنف، حيث تُستغل المعلومات الشخصية الحساسة لتشويه سمعة النساء أو ابتزازهن. هذا الشكل من العنف يؤدي لأذى نفسي واجتماعي مُتعمّد ومن ذلك: • نشر صور أو مقاطع فيديو مُتخصصة لإهانة شخصيات نسائية محددة. • نشر أخبار كاذبة أو شائعات تُسيء للنساء، عبر حسابات مُزيفة أو مجموعات مُتخصصة. • استخدام المعلومات الشخصية للابتزاز أو التهديد، من أجل فرض السيطرة على النساء. ج) حملات التشويه المنهجية: هجمات منظمة على النساء - لا تقتصر هذه الهجمات على هجمات عارضة، بل هي حملات مُنظمّة تستهدف النساء لزعزعة مكانتهن في المجال العام. فهي تتضمن حملات تشويه منظّمة، مُوجهة لنساء يُمثّلن تهديدًا للوضع الراهن المُحدد بما في ذلك : • حملات تشويه سمعة صحفية تناقش مشاكل مُعينة. • حملات مُتواصلة لتشويه سمعة الناشطات السياسيات. د) العنف النفسي والتلاعب الرقمي: التحريض على الكراهية والتهميش - يُعد العنف النفسي والتلاعب الرقمي شكلًا مُعقدًا، حيث تُستخدم منصات التواصل الاجتماعي لنشر محتوى مُحرض على الكراهية، مُهين، مُسيء، مُستهدف للنساء. الهدف هو تهميشهن رقميًا واجتماعيًا ومن ذلك أ) نشر مُحتوى يُسخّر من النساء أو يُحرض ضدهن، بهدف تهميشهم وإبعادهم عن المجال العام. ب) استخدام الرسائل المُتكررة، والتعليقات المُتكرّرة، والرسائل المُضلّلة لإرهاق وتشويه صورة الناشطة المُستهدفة. يُمثّل تحليل هذه الأشكال المُتنوّعة للعنف الرقمي ضد النساء ضرورة حتمية لوضع استراتيجيات مُتكاملة لمعالجتها من جذورها. الإطار النظري: التحليل البنيوي للعنف الرقمي مقدمة - يقدم التحليل البنيوي أداة فعالة لاستكشاف العنف الرقمي ضد النساء كظاهرة ليست معزولة، بل تنبثق من تفاعلات اقتصادية واجتماعية وثقافية معقدة. يتميز هذا النهج بقدرته على كشف الديناميكيات الخفية التي تساهم في إدامة الظاهرة، وتوضيح كيفية اندماج التكنولوجيا في البنى القائمة لتعيد إنتاج الهيمنة والتمييز بوسائل جديدة.
1. البعد البنيوي الاقتصادي يؤكد التحليل البنيوي على أن التكنولوجيا الرقمية ليست مجرد أداة محايدة، بل هي انعكاس للعلاقات الاقتصادية السائدة والتي تتحكم فيها القوى المهيمنة. أ) التكنولوجيا كأداة للسيطرة: تحت سيطرة الطبقات الاقتصادية المهيمنة، تصبح التكنولوجيا وسيلة لتكريس الفجوات الطبقية والجندرية. المنصات الرقمية، المملوكة في الغالب لرؤوس الأموال الكبرى، تُستخدم لتسليع المحتوى وإعادة إنتاج صور نمطية تُضعف الفئات المستضعفة، وخصوصًا النساء. ب) تأثير الفجوة الرقمية: تعمق الفجوة بين من يملكون أدوات التكنولوجيا ويستفيدون منها اقتصاديًا وبين الفئات المهمشة، حيث تصبح النساء أكثر عرضة للتهميش والاضطهاد في الفضاء الرقمي نتيجة غياب القوانين الداعمة وضعف البنية التحتية للحماية. ج) العنف الرقمي كامتداد للهيمنة الاقتصادية: يُظهر هذا البعد كيف يتحول العنف الرقمي إلى أداة للتحكم، حيث تستغل الطبقات المهيمنة المنصات الرقمية للترويج لمحتوى يعزز من اللامساواة، مثل حملات التشويه ضد الناشطات أو تهميش المحتوى النسوي التقدمي. 2. البعد الاجتماعي والجندري يعكس العنف الرقمي تعقيدات اجتماعية ترتبط بالعلاقات الجندرية التقليدية. أ) التكنولوجيا كمجال لإعادة إنتاج التمييز: يُظهر التحليل البنيوي كيف يتم استغلال التكنولوجيا لتعزيز الهياكل الاجتماعية القائمة على التمييز الجندري. يُترجم هذا في أشكال عدة مثل التحرش الإلكتروني، والتشهير، والتنمر الرقمي. ب) الصور النمطية وإدامة العنف: يُسهم الفضاء الرقمي في ترسيخ الصور النمطية التي تُصور النساء كأهداف سهلة أو ككائنات خاضعة، مما يجعل التحرش أو التهديد عبر الإنترنت سلوكًا يبدو مقبولًا في بعض السياقات الاجتماعية. ج) الممارسات الاجتماعية الموجهة: العنف الرقمي ليس تصرفًا فرديًا منعزلًا، بل هو نتاج ممارسات اجتماعية متجذرة تُعيد إنتاج علاقات القوة بين الجنسين، حيث تُستخدم التكنولوجيا لتقييد حرية النساء في التعبير أو المشاركة في الشأن العام. 3. البعد الثقافي - يعتبر العنف الرقمي ظاهرة متشابكة بعمق مع القيم الثقافية السائدة، التي غالبًا ما تعزز من السلطة الأبوية وتكرّس الأدوار التقليدية في المجتمع. في العديد من المجتمعات، تعمل هذه القيم على تعزيز طبقية واضحة بين الجنسين، حيث تتجلى مظاهر القوة والسيطرة من خلال استخدام التكنولوجيا كوسيلة لتكريس الأدوار الاجتماعية التقليدية التي تُضعف من مكانة النساء وتعيق تقدمهن. أ) تأثير الثقافة الأبوية - يُعتبر تأثير الثقافة الأبوية أحد العوامل الرئيسية التي تُظهر كيف تُستخدم التكنولوجيا لتدعيم سلطات الرجال واستخدامها كأداة للتخويف والترهيب. في سياقات عدة، يتم تبرير سلوكيات العنف الرقمي، مثل تهديد النساء بنشر صورهن الخاصة أو استغلال البيانات الشخصية، من خلال أعراف ثقافية تعزز من مفهوم العيب والخجل، مما يُفضل الصمت والخضوع على المقاومة. هذه الثقافة السائدة ليست مجرد أفكار فردية، بل هي أنظمة متجذرة تُعيد إنتاج نفسها عبر الأجيال، مما يجعل من الصعب على النساء تحدي هذه السلوكيات أو الانعتاق من قيودها. ب) إعادة إنتاج القيم التقليدية - يمثل الفضاء الرقمي مرآة تعكس القيم الاجتماعية والثقافية السائدة في المجتمعات. فعندما تتجاوز النساء حدودهن المرسومة مسبقًا، أو ترفض الخضوع للأدوار الجندرية التقليدية، تُعتبر ممارساتهن تلك تهديدًا للقيم الثقافية السائدة. في بعض المجتمعات، يُنظر إلى النساء اللواتي يرتدين ملابس غير تقليدية، أو يعبّرن عن آرائهن بحرية، كأشخاص يستحقون الاستهداف والمراقبة. هنا تلعب التكنولوجيا دورًا مركزيًا، حيث تُستخدم كأداة للتجسس والتهديد، مما يؤدي إلى تعزيز صورة معينة عن النساء تُعيد إنتاج الهيمنة الثقافية وتُرسخ مفاهيم السيطرة الذكورية. ج) تعزيز قبول العنف - تُسهم مجموعة من العادات والتقاليد، مثل التركيز على مفهوم "الشرف"، في تطبيع العنف الرقمي ضد النساء. في كثير من الأحيان، يُستخدم العنف الرقمي كسلاح لإعادة النساء إلى "حدودهن الاجتماعية" المقبولة، حيث يعتبر أي انحراف عن المعايير الثقافية تهديدًا يجب معاقبته. هذا النوع من العنف لا يُفهم على أنه مجرد سلوك فردي، بل يُعتبر جزءًا من نظام ثقافي أكبر يُشرعن هذه الممارسات. وبالتالي، فإن الاعتداءات الإلكترونية تُصبح وسيلة مُعترف بها اجتماعيًا لضبط سلوك النساء وإحياء القيم التقليدية التي تفضل الخضوع على الاستقلالية. - ان البعد الثقافي للعنف الرقمي لا يتضح فقط من خلال الأفعال الممارسة، بل يتجلى أيضًا في كيفية قبول المجتمع لهذه الأفعال وتبريرها ضمن الأطر الثقافية والسياسية. لذا تأتي أهمية البحث في هذا المجال، لنكشف الستار عن الأنماط السائدة وكيفية التغلب عليها، بما يساهم في تعزيز وعي اجتماعي، وفتح نقاش حول القيم التي تحتاج إلى إعادة تقييم في سياق العصر الرقمي. التكامل بين الأبعاد البنيوية للعنف الرقمي: تحليل شامل - في عصر يتسارع فيه التطور التكنولوجي بشكل غير مسبوق، أصبح العنف الرقمي ظاهرة معقدة ومتعددة الأبعاد. فهو ليس مجرد انعكاس لسلوكيات فردية معزولة، بل يمثل امتدادًا لأنماط هيكلية متجذرة في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية. إن فهم هذه الأبعاد المتداخلة يقدم رؤية أعمق للعنف الرقمي، ويتيح تحليلًا بنيويًا شاملًا يربط بين جذور هذه الظاهرة وآليات استمرارها. التفاعل بين العوامل البنيوية - تشير الأبحاث إلى أن العنف الرقمي ينشأ من تقاطع عوامل اقتصادية واجتماعية وثقافية، تعمل كشبكة مترابطة تعيد إنتاج أنماط الهيمنة والقمع. 1. العنف الرقمي كاستمرار لعلاقات القوة التقليدية: - يُظهر التحليل أن التكنولوجيا الرقمية تُستخدم كأداة لاستمرار علاقات السيطرة، حيث تُوظف لتعزيز الفجوات الجندرية والطبقية القائمة. - في المجتمعات التي تسودها القيم الذكورية، تصبح الوسائل الرقمية أدوات جديدة تُستخدم لتقييم النساء، تهديدهن، وحتى تجريمهن. هذه الديناميكيات ليست وليدة العصر الرقمي، بل هي امتداد لأنماط قديمة من الهيمنة والقمع. 2. الاقتصاد الرقمي وتأثيراته الجندرية: - المنصات الرقمية التي تخضع لسيطرة رأس المال الكبير تُصمم غالبًا لخدمة الأغراض التجارية على حساب العدالة الاجتماعية والجندرية. تُستغل هذه المنصات لنشر الصور النمطية عن النساء أو لاستهدافهن في حملات موجهة، مما يجعل الفضاء الرقمي بيئة تُكرس الهيمنة بدلاً من أن تكون مساحة تحررية. 3. التحولات الاجتماعية وتأثيرها على العنف الرقمي: - التغيرات الاجتماعية والاقتصادية تساهم في تزايد العنف الرقمي أو تخفيفه. على سبيل المثال، يمكن أن يؤدي صعود حركات نسوية رقمية إلى رد فعل عنيف يتمثل في زيادة التحرش أو التشهير الإلكتروني. - تبرز الفوارق الطبقية كعامل رئيسي في تشكيل تجارب الأفراد، حيث تواجه النساء من الفئات المهمشة تحديات مضاعفة في التعامل مع العنف الرقمي بسبب قلة الموارد أو ضعف الحماية القانونية. تحليل الظاهرة ككل متكامل - لا شك أن العنف الرقمي ظاهرة معقدة ومتشعبة، تتغلغل في منسوجة الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لا يمكن فهمها بشكل كامل إلا من خلال منظور بنيوي متكامل يسلط الضوء على التفاعلات الدقيقة بين هذه العناصر. 1. اقتصاد العنف الرقمي: لعبة الربح والخسارة - لا يقتصر العنف الرقمي على اعتداءات فردية، بل هو منتج ونتيجة مُصمَّمة بدقة في الاقتصاد الرقمي. تُعتبر النساء في هذا السياق أداة لتحقيق أرباح مالية، أو هدفاً لإسكات الأصوات النسائية. فشركات الإعلام الرقمي، مثلاً، تعتمد بشكل متزايد على المحتوى الجدلي، بما فيه الانتقادات والتحرشات المُوجهة للنساء، لجذب الانتباه والتفاعل، مما يُحول العنف الرقمي إلى مكون أساسي في صناعة المحتوى الرقمي. فالتفاعل مع هذه الإساءات، ولو من خلال التغاضي عنها، يشكل إقرارًا ضمنيًا بفاعليتها من منظور اقتصادي. فالمحتوى المسيء يولد حركة، والحركة تولد أرباحًا. لا يُعالج هذا الأمر في منفصله، بل يرتبط ارتباطًا وثيقًا بمؤسسات الاعلام والتسويق، وأساليب الربح الرقمية. 2. التكنولوجيا والسيطرة الجندرية: إعادة إنتاج التمييز في فضاءات افتراضية - لم تكن التكنولوجيا ساحة جديدة للتمييز، بل امتداد لتوجهات جندرية اجتماعية تقليدية. ففي حين تُمنح النساء، من خلال الفضاء الرقمي، فرصة أكبر للتواصل والتمكين، تُستخدم هذه الفضاءات أيضاً لتعزيز الصور النمطية، وتقييد الأدوار الجندرية المُلصقة بالمرأة. يزداد ذلك وضوحاً عندما نُلاحظ كيف يُستخدم العنف الرقمي لتكريس السيطرة الجندرية. فمثلاً، استخدام البيانات الشخصية للابتزاز أو التهديد هو استثمار واقعي للقوة المُتمثلة في التكنولوجيا، لإعادة إنتاج التمييز الجندري بطريقة مُخادعة. لا يتعلق الأمر فقط بانتقادات شخصية، بل بآليات مُنظمة لفرض السيطرة في ساحة افتراضية. 3. الثقافة والعنف الرقمي: تفسير وتبرير للعنف - في العديد من الثقافات، يُنظر للنساء اللواتي يتجاوزن القوالب الاجتماعية والثقافية على أنهن تهديد مباشر، مما يبرر العنف الرقمي بحجة "حماية الشرف" أو "إعادة التوازن الاجتماعي". هذه الحجج تُستخدم كغطاء لإضفاء الشرعية على العنف ضد المرأة، وجعل مقاومتها صعبة في سياق ثقافي يُبررها. فمثلاً، في بعض المجتمعات، تصبح انتقادات المرأة المباشرة للنظرة المجتمعية المحافظة مبرراً لاستهدافها رقميًا، على أساس "انتهاكها" لقواعد "الشرف" أو "التقاليد". فأُدوات العنف الرقمي، في هذه الحالة، تخدم كآلية لإعادة التأكيد على نمط اجتماعي مُحدد. في الختام، يُمثل العنف الرقمي ظاهرة مترابطة ومتداخلة، تتجاوز الفرد لتُظهر مدى تعقيد التفاعل بين العوامل الاقتصادية والاجتماعية والثقافية. لذا، لا يمكن معالجة هذه الظاهرة إلا من خلال نهج متعدد الأوجه يواجه جذورها العميقة. فهي تتطلب حوارات مفتوحة حول التغيرات الجندرية والثقافية، وتحدي النماذج الاقتصادية التي تُربح من إساءة معاملة النساء عبر الفضاء الرقمي. رسم استراتيجيات شاملة لمواجهة العنف الرقمي - يُعد العنف الرقمي ظاهرة مُعقدة و مُتطورة، تتشابك فيها الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بطريقة مُقلقة. لا يمكن مواجهتها بمحاولات مُبعثرة، بل بحلول شاملة تُعنى بالجذور الهيكلية لهذه المشكلة. يتطلب هذا الأمر تصميم استراتيجيات مُتكاملة تُشرك جميع الأطراف المعنية، من الحكومات والمُنظمات المُجتمعية إلى منصات التواصل الرقمية نفسها. أ) تعزيز الوعي: بناء جيل مُدرك لحقوقه الرقمية - لا تقتصر حماية النساء من العنف الرقمي على تشريعات قوية، بل تتطلب أيضاً توعية مُتواصلة تُسلّط الضوء على حقوقهن الرقمية وكيفية الدفاع عنها. هنا يأتي دورنا في بناء جيل مُدرك لمخاطر العنف الرقمي، مُجهز بكافة المهارات اللازمة للتعامل معه. - تثقيف النساء حول حقوقهن الرقمية: يجب أن تُقدم الدورات التدريبية والندوات والورش التي تُسلّط الضوء على قوانين الحماية الرقمية، وكيفية التعرف على سلوكيات التحرش والتهديد عبر الفضاءات الرقمية. هذا لا يُعتبر مُجرد تثقيف، بل هو امتلاك للمعرفة كأداة حماية فعّالة. - إدماج الأمن الرقمي في المناهج الدراسية: يجب أن تُصبح مواضيع الأمن الرقمي جزءًا أساسيًا من المناهج الدراسية، لا سيما في مرحلة الشباب، حيث تُمَكّنهم هذه المُعرفة من التعامل مع التحديات المُتوقعة في حياتهم الرقمية. يُمثل هذا التدريب مُركّزًا هامًا لردع العنف الرقمي من جذوره. - المواقع الإلكترونية المخصصة للتثقيف والتوعية: إنشاء منصات رقمية مُتخصصة مُصممة لعرض معلومات دقيقة وسهلة الفهم حول العنف الرقمي، وكيفية طلب المساعدة والتعامل مع المواقف المُعقدة. ب) تعزيز القوانين والسياسات: إنشاء بيئة رقمية آمنة للجميع - التوعية وحدها لا تكفي. تحتاج حماية النساء من العنف الرقمي إلى إطار قانوني مُحدد، يُجرم هذه السلوكيات ويحمي الضحايا. - إصدار تشريعات مُحكمة: يجب على الحكومات إصدار تشريعات مُحددة تُجرم العنف الرقمي بكافة أشكاله، مُعززةً بآليات تحقيقية فعّالة تُواجه مُتّبعيها. يجب أن تُحدد هذه التشريعات مسؤولية مُباشرة للمنصات الرقمية في حال توفيرها منصات مُفضّلة للعنف. - إلزام المنصات الرقمية بالحماية: على المنصات الرقمية أن تتبنى سياسات واضحة تُعالج العنف الرقمي، بما في ذلك توفير آليات مُبسّطة للإبلاغ عن الحالات المُحتملة، وتسهيل الوصول إلى المساعدة القانونية والاجتماعية. يجب أن تكون حماية الضحايا في مُقدمة أولويات هذه المنصات. - التعاون بين الحكومات والمنصات الرقمية: لا بد من وجود تعاون مُتواصل بين الحكومات والمنصات الرقمية لتبادل المعلومات والخبرات، والتعامل مع حالات العنف الرقمي بكفاءة مُتميّزة. ج) دعم المبادرات المجتمعية: تضافر الجهود ضد الظاهرة - يجب أن لا تكون الحكومات وحيدة في مواجهة هذه المشكلة. يُمكن أن تُساهم المبادرات المجتمعية، كمنظمات المُجتمع المدني والمنظمات النسوية، في تعزيز الوعي والتثقيف وتقديم الدعم للضحايا. - دعم المنظمات النسوية: من الضروري دعم المنظمات النسوية، وتقديم الدعم المادي واللوجستي لهم، لتحقيق أهدافهم في مُكافحة العنف الرقمي. - إطلاق حملات توعية رقمية مُبتكرة: على منظمات المجتمع المدني أن تبتكر حملات توعية رقمية مُبتكرة و مُتجدّدة، تُركّز على تحدّي القيم الاجتماعية المُلصقة بالعنف المُوجه ضد المرأة. الهدف هو تغيير السرديات. - تفعيل دور المجتمعات المحلية: لعب المجتمعات المحلية دوراً حيوياً في التثقيف، والمساندة، والمتابعة، من خلال نشر الوعي في بيئاتهم، ودعم جهود التوعية الحكومية. خاتمة في النهاية، تُبرز هذه الاستراتيجيات المُتكاملة مدى أهمية التكامل بين مختلف الأبعاد، من الوعي والتشريعات إلى دور المُجتمع المدني. يُمكن لمثل هذه الاستراتيجيات أن تُعزز بيئة رقمية آمنة وعادلة تُحرر النساء من العنف المُوجه ضدهن. هذا يتطلب رغبة مجتمعية حقيقية في بناء جيل يتبنّى قيم مُتسامحة مُستدامة، والتي ترفض العنف تحت أي شكل من الأشكال.
#خليل_إبراهيم_كاظم_الحمداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت
...
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت
...
-
المجال العام والحق في المدينة: قراءةٌ نقديةٌ لـ هايبرماس ولو
...
-
الهشاشة المتقاطعة: العنف ضد النساء من الأقليات والفئات المست
...
-
إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين
...
-
إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين
...
-
المثقفون في زمن الإلتباس : هل خانوا الكلمة أم خانتهم الكلمة؟
-
أنياب السياسة وقضم حقوق الإنسان
-
-انحدار تصنيف المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق: هل ست
...
-
“العالم بين الرؤية الاقتصادية ورؤية حقوق الإنسان- محاولة بنا
...
-
الارتداد العنيف ضدّ المساواة بين الجنسين دراسة في الديناميكي
...
-
العدالة المناخية: حقّ إنسانيّ في مواجهة تحديات القرن الحادي
...
-
-العدالة المعطوبة: لماذا تدمر انتهاكات حقوق الإنسان أساس الم
...
-
في محنة الفلسفة المعاصرة: -الدولة وحقوق الإنسان- من يحرس الح
...
-
هل اصبحت حقوق الإنسان... رفاهية لم تعد الدول تتحملها؟ ماذا ل
...
-
ثمار الظلم: كيف تؤثر انتهاكات حقوق الإنسان على مستقبلنا؟
-
-نهج حقوق الإنسان: هل هو الإطار المثالي لتحقيق العدالة الاجت
...
-
وعدٌ مُلزمٌ أم حبرٌ على ورق؟ دوافع انضمام الدول لمعاهدات حقو
...
-
الصوت العربي في تشكيل إطار حقوق الإنسان مساهمات في صياغة الإ
...
-
برئاسة عربية لمجلس حقوق الانسان .. قرارات استثنائية لقضايا ع
...
المزيد.....
-
صدمة النازحين اللبنانيين لدى عودتهم إلى قراهم المدمرة بمحافظ
...
-
رئيس البرلمان العربي يتلقى رسالة من البرلمان الأوروبي بشأن د
...
-
RT ترصد عودة النازحين من سوريا
-
المفوضية الأوروبية: دول الاتحاد ملزمة بتنفيذ أوامر اعتقال نت
...
-
بوريل يوجه نداء لجميع أعضاء المجتمع الدولي لاحترام قرارات ال
...
-
تغطية ميدانية: قوات الاحتلال تواصل قصف المربعات السكنية ومرا
...
-
الأونروا.. ظروف البقاء على قيد الحياة تتضاءل في غزة
-
خبير أممي يحذر من استغلال المهاجرين المؤقتين في أستراليا
-
اعتقال ومحاكمة.. هل ضاقت دائرة الحريات على الكتاب بالجزائر؟
...
-
بوريل: ما يجري في قطاع غزة انتهاك صارخ لحقوق الإنسان
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|