|
من الحق الإلهي إلى العقد الاجتماعي نظريات الحكم في العصور الوسطى الأوروبية
حمدي سيد محمد محمود
الحوار المتمدن-العدد: 8175 - 2024 / 11 / 28 - 08:26
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
في القرون الوسطى، التي امتدت من سقوط الإمبراطورية الرومانية الغربية حتى بداية عصر النهضة، كانت أوروبا تشهد تحولًا جذريًا في بنيتها السياسية والاجتماعية، حيث سيطرت على الأفق أنماط متنوعة من نظم الحكم التي تأثرت بقوة بالدين، الفلسفة، والمفاهيم الاجتماعية السائدة آنذاك. هذه الحقبة، التي غلب عليها التداخل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، شهدت تطورًا عميقًا في كيفية فهم الحكام والشعوب للعلاقات بين السلطة والشرعية، وبين الحاكم والمحكوم.
كانت النظريات السياسية في العصور الوسطى نتاجًا لفكر معمق يبحث في أسس الشرعية والتفاعل بين الإنسان ومرجعيته الدينية، في وقت كانت فيه الكنيسة الكاثوليكية تلعب دورًا محوريًا في كل جوانب الحياة، بما في ذلك السياسة والحكم. من جهة أخرى، نشأت صراعات مريرة حول السيادة بين الكنيسة والملوك، حيث تمحورت بعض النظريات حول مفهوم الحق الإلهي للملوك، وهو الذي كان يعتقد أن الملك لا يحصل على سلطته من الشعب أو من النظام الاجتماعي، بل من الله مباشرة، مما يعزز من فكرة أن سلطته فوق المحاسبة. على النقيض، تطور فكر فلسفي آخر يحاول التوفيق بين السلطة الإلهية والعقل البشري، بل وحتى في بعض الحالات الدفع نحو فكر جمهوري أو دستوري يحد من استبداد الملك ويعطي الشعب دورًا في تحديد شرعية الحاكم.
كانت هذه النظريات بمثابة مرآة لتحديات اجتماعية وسياسية معقدة، في زمن شهد نزاعات دموية، مثل الحروب الصليبية، والخلافات بين الإمبراطوريات الكنسية والإمبراطوريات الدنيوية. كذلك، أدت هذه النظرية إلى تطور الأنظمة السياسية الإقطاعية التي ميزت المجتمعات الأوروبية، حيث كانت العلاقة بين الملك والنبلاء والفلاحين قائمة على الولاء المتبادل، وأصبح حكم الملك ليس مجرد تسلط فردي، بل ارتبط بالقيم الاجتماعية والأخلاقية السائدة، إضافة إلى التقاليد الكنسية.
مع مرور الزمن، تطور الفكر السياسي في أوروبا خلال القرون الوسطى ليبدأ في وضع أسس لأفكار جديدة حول العلاقة بين الحاكم والمحكوم، والشرعية، وحقوق الأفراد، وكان أبرز تجسيد لهذه التحولات السياسية "الميثاق الأعظم" (الماجنا كارتا) في إنجلترا، الذي أرسى مبادئ لملكية دستورية كانت بمثابة حجر الأساس لفكر حقوق الإنسان في العصور الحديثة.
إن فهم نظريات الحكم في أوروبا في القرون الوسطى ليس مجرد دراسة لفترة تاريخية، بل هو مدخل لفهم الصراع المستمر بين الدين والسياسة، وبين الفلسفة والعلم، وبين الفرد والدولة. تلك الصراعات الفكرية والسياسية كانت أساسية في تشكيل أوروبا الحديثة، من خلال بحثها في مواضيع مثل السلطة، والشرعية، والسيادة، التي ستظل تشكل محورًا حيويًا في الفكر السياسي المعاصر.
أهم وأبرز نظريات الحكم في أوروبا في القرون الوسطى
في القرون الوسطى، كانت أوروبا تشهد تطورًا معقدًا في مفهوم ونظريات الحكم، التي تأثرت بشكل كبير بالعوامل السياسية، الاجتماعية، والدينية السائدة في تلك الفترة. يمكن تقسيم النظريات الرئيسية التي سادت في تلك الحقبة إلى عدة مدارس أو مفاهيم رئيسية، والتي تعكس التفاعلات بين الكنيسة والملوك، وتطورات النظم السياسية في مجتمعات تلك الحقبة.
1. النظرية الإلهية للحكم (الحق الإلهي للملوك)
تعتبر هذه النظرية من أبرز وأهم نظريات الحكم في العصور الوسطى، وقد سادت في أوروبا لفترة طويلة. تقوم على مبدأ أن الملك أو الحاكم هو ممثل لله على الأرض، وأن سلطته تأتي من الله بشكل مباشر، ولا يجوز للناس أو حتى الكنيسة أن تعترض عليها. وبناءً على ذلك، كان الحاكم يُعتبر فوق المحاسبة، ومن غير المقبول تحدي سلطته.
مؤسس النظرية: يمكن إرجاع هذه النظرية إلى الفكر المسيحي في العصور الوسطى، حيث كان الملوك يُعتقد أنهم يتمتعون بسلطة إلهية مستمدة من الله. هذه الفكرة دعمتها الكنيسة الكاثوليكية في معظم الأحيان، وفرضت بذلك هيمنة الكنيسة على الشؤون السياسية.
تطبيقاتها: كانت الكنيسة تعتبر أن الملوك الذين يحكمون وفقًا لمرضاة الله في موقعهم، وبالتالي كان الملك يشرف على الحوكمة وكان يتمتع بسلطات واسعة. قد تتضمن هذه السلطة حق إصدار القوانين، تنظيم الجيوش، وتوزيع الأراضي.
أثرها: رغم قوتها، إلا أن هذه النظرية كانت أيضًا تبريرًا للكثير من الصراعات بين الملك والكنيسة، كما حدث في صراع البابا غريغوري السابع والإمبراطور هنري الرابع.
2. نظريات الحكم العرفي (الحكم حسب العرف) في العديد من الحالات، كانت أنظمة الحكم في العصور الوسطى تعتمد على العرف والتقاليد المحلية بدلاً من القوانين المكتوبة. في هذه الأنظمة، كانت القرارات تُتخذ من خلال الممارسات التقليدية التي كانت تمثل رغبة الشعب أو النخبة المحلية.
الخصائص: يتميز الحكم العرفي بمرونته وارتباطه الوثيق بالواقع المحلي، حيث كانت القوانين والعادات تتغير بناءً على الظروف الاجتماعية والسياسية.
تأثيرات العرف: في بعض الحالات، كانت هذه الأنظمة تعتبر أكثر ديمقراطية في الممارسة، لأن القرارات كانت تتخذ بناءً على ما يراه المجتمع مناسبًا. ولكن في الغالب، كان هذا النموذج يؤدي إلى تمركز السلطة في أيدي فئات قليلة من النبلاء.
3. النظرية الهرمية (النظام الإقطاعي)
النظام الإقطاعي كان أحد الأنظمة السائدة في أوروبا خلال القرون الوسطى، وتبنى فكرة تقسيم السلطة على عدة مستويات، بدءًا من الملك وصولاً إلى الفلاحين. يقوم هذا النظام على تبادل الولاء بين الطبقات الاجتماعية.
الهيكل الإقطاعي: الملك في قمة الهرم يوزع الأراضي على النبلاء، الذين بدورهم يقومون بتوزيعها على الفرسان والعمال، وهكذا. وكان الفلاحون يعملون في الأراضي لصالح النبلاء مقابل الحماية.
نظريات متعلقة بالنظام الإقطاعي: هذا النموذج كان يعتمد على مبدأ الولاء المتبادل، حيث كان الملك يقدم الحماية للنبلاء مقابل ولائهم، وكان النبلاء يقدمون الحماية للفلاحين في مقابل العمل على الأرض.
أثر النظام: أدى النظام الإقطاعي إلى تقسيم المجتمع إلى طبقات مغلقة، مما جعل التغيير الاجتماعي محدودًا. وفي ذات الوقت، كان هذا النظام سببًا في تقوية سلطة الكنيسة والنبلاء.
4. النظرية الجمهورية (الفكر الجمهوري في المدن( في بعض المناطق الأوروبية، مثل المدن الإيطالية في العصور الوسطى، ظهرت أفكار تتعلق بالحكم الجمهوري، حيث كان يتم انتخاب القادة من قبل المواطنين.
الخصائص: في هذه المدن، مثل فلورنسا و البندقية، كانت المجالس المنتخبة تمارس السلطة السياسية، وكانت هناك نوع من المشاركة الشعبية، حتى لو كانت محدودة.
التحديات: في معظم الأحيان، كانت هذه الأنظمة تقتصر على النخبة الحضرية، ولم تشمل الشعب بشكل عام. كما كان هذا النظام ضعيفًا أمام تأثير القوى الخارجية مثل الكنيسة أو الممالك القوية.
5. نظرية الملكية الدستورية (القوانين المكتوبة(
ظهرت فكرة الملكية الدستورية في العصور الوسطى، وإن كان ذلك بشكل متواضع في بداياته. كان هذا النوع من الحكم يعتمد على وجود قواعد مكتوبة تُحدد حقوق الحاكم وواجباته، وكذلك حقوق الشعب.
أبرز مثال: ربما أبرز مثال على هذه النظرية هو الميثاق الأعظم (الماجنا كارتا) في إنجلترا عام 1215، الذي فرضه النبلاء على الملك جون. من خلال هذا الميثاق، تم تحديد حقوق النبلاء والحد من سلطات الملك، وهو ما يعد بداية لفكرة الدستور في التاريخ الأوروبي.
التطور: على الرغم من أن الملكية الدستورية كانت في بداياتها، إلا أن هذا الفكر بدأ يتطور بمرور الوقت ليؤثر على النظم السياسية في أوروبا، خصوصًا في فترة لاحقة من العصور الحديثة.
6. النظرية العقدية (الملكية القائمة على العقد الاجتماعي(
في نهاية العصور الوسطى وبداية العصر الحديث، بدأ الفكر الفلسفي والسياسي في أوروبا يتحول تدريجيًا نحو نظرية العقد الاجتماعي، التي اقترحها فلاسفة مثل توماس هوبز و جون لوك.
المفهوم الأساسي: تقوم هذه النظرية على مبدأ أن الحكومة تُؤسس من خلال اتفاق بين الحاكم والمحكومين. وهذا الاتفاق يحدد الحقوق والواجبات بين الطرفين، بحيث يوافق الشعب على أن يكونوا خاضعين للسلطة في مقابل توفير الأمن والرفاهية.
أثرها: هذه النظرية كانت بداية لفكر الثورة الديمقراطية، وكانت تشكل تحديًا لنظرية الحق الإلهي للملوك، حيث بدأ الناس يرون أن السلطات يجب أن تأتي من الشعب وأن الحاكم يجب أن يُحاسب على تصرفاته.
7. النظريات الكنائسية (دور الكنيسة في الحكم(
من الجدير بالذكر أن الكنيسة كانت تلعب دورًا مهمًا في نظرية الحكم خلال القرون الوسطى. كانت الكنيسة تحدد بشكل كبير نوع العلاقة بين الحكام والرعية.
السلطة الكنسية: في العديد من الحالات، كان البابا أو رجال الدين يمتلكون سلطة أكبر من الحكام في بعض الدول الأوروبية، وكانت الكنيسة تُقدّم نفسها كسلطة روحية تُشرعن حكم الملوك والنبلاء.
التداخل مع السياسة: كانت الكنيسة تؤثر بشكل قوي في السياسة من خلال تعيين القادة الكنسيين، وإصدار الأوامر التي تحدد كيفية حكم الدول.
و يمكن القول إن نظريات الحكم في العصور الوسطى في أوروبا كانت متباينة ومعقدة، حيث تداخلت الدوافع الدينية والسياسية والاجتماعية لتشكيل النظم التي سادت خلال تلك الحقبة. النظريات الإلهية والهرمية كانت سائدة لفترة طويلة، لكن مع مرور الوقت بدأت أفكار جديدة تتشكل، مثل النظرية العقدية والجمهورية، مما مهد الطريق لتطور الأنظمة السياسية في العصور الحديثة.
كيف عالجت الفلسفة السياسية موضوع نظريات الحكم في أوروبا في القرون الوسطى؟ عالجت الفلسفة السياسية موضوع نظريات الحكم في أوروبا في القرون الوسطى من خلال مزيج من التأثيرات الدينية، الفلسفية، والسياسية التي كانت سائدة في تلك الحقبة. الفلسفة السياسية في العصور الوسطى كانت تستند بشكل أساسي إلى مفاهيم دينية، وكان لها تأثير كبير في تفسير دور الحاكم، العلاقة بين السلطة الدنيوية والسلطة الدينية، وعلاقة الحكام بالرعية. يمكن تلخيص كيفية معالجة الفلسفة السياسية لهذا الموضوع في عدة محاور رئيسية:
1. تأثير الكنيسة على الفلسفة السياسية في العصور الوسطى، كانت الكنيسة الكاثوليكية القوة المهيمنة في أوروبا، وقد كان تأثيرها على الفكر السياسي كبيرًا، خصوصًا من خلال مفهوم الحق الإلهي للملوك. الفلسفة السياسية في تلك الفترة تأثرت بشكل مباشر بالكتاب المقدس وكتابات الآباء الكنسيين، مثل أوغسطين و توما الأكويني.
أوغسطين (354-430م): كان له دور كبير في التأصيل لفكرة أن السلطات الدنيوية هي نتاج خطة إلهية. في عمله "مدينة الله"، رأى أوغسطين أن الحكام يجب أن يعملوا على تحقيق السلام والعدالة وفقًا لإرادة الله، وأن الحكومات الشرعية هي تلك التي تسعى لتحقيق الصالح العام وفقًا للتعاليم المسيحية.
توما الأكويني (1225-1274م): كان له تأثير فلسفي كبير في القرون الوسطى، حيث ناقش في كتابه "سومَا ثيولوجيكا" العلاقة بين الشريعة الإلهية والشريعة الطبيعية. طبقًا للأكويني، فإن الحكومة يجب أن تقوم على أسس عقلانية وأن الحاكم يمكن أن يكون خاضعًا لشريعة الله، ما يدعم فكرة أن السلطة تأتي من الله ولكنها لا تتناقض مع العقل البشري. بهذا الشكل، كانت فلسفته توازن بين الشرعية الإلهية والشرعية العقلانية، ما جعل لها تأثيرًا طويل الأمد في الفكر السياسي الغربي.
2. نظرية الحق الإلهي للملوك نظرية الحق الإلهي كانت الفكرة الرئيسية التي تفسر كيف يتمتع الحكام بسلطة مطلقة. كانت هذه النظرية تعتمد على المعتقد بأن السلطة الملكية مستمدة من الله مباشرة، ومن ثم فإن الملوك كانوا يعتبرون أنفسهم ممثلين لله على الأرض. هذا المفهوم كان له دعم قوي من الكنيسة، التي ساعدت في تعزيز فكرة أن الحاكم لا يجوز عزله أو معارضته لأن سلطته غير قابلة للحدود البشرية.
فلسفة الحق الإلهي: انطلق العديد من المفكرين في العصور الوسطى، مثل جون من سالزبوري وجيوردانو دي بروجيا، من هذه النظرية، معتقدين أن السلطة الإلهية للملك تجعل من الممكن فرض النظام على العالم الأرضي. وكان الهدف هو تحقيق النظام الكوني الذي يدعمه الله.
النقد لهذه الفكرة: في الوقت ذاته، كانت هناك انتقادات لهذه الفكرة، خصوصًا من فلاسفة مثل جون من سالزبوري الذي رأى أن السلطة لا تأتي من الله مباشرة، بل من الشعب، معتبرًا أن الملك يجب أن يخضع للعدالة، وأن عزل الحاكم يجب أن يكون ممكنًا إذا كان جائرًا.
3. النظريات العرفية والاجتماعية
بالإضافة إلى النظريات الدينية، كانت هناك أيضًا تأثيرات من الفلسفات السياسية العرفية والاجتماعية. هذه النظريات حاولت التوازن بين سيادة الملك من جهة، وحقوق الشعب من جهة أخرى. كان أحد أبرز هذه الأفكار هو النظام الإقطاعي الذي شهدته العديد من الدول الأوروبية في تلك الفترة.
النظام الإقطاعي: في هذا النظام، كانت السلطة السياسية تتوزع بين الملك والنبلاء والفلاحين، حيث كانت الأرض تُمنح من الملك إلى النبلاء الذين يقدمون ولاءً مقابل حماية السلطة الملكية. كانت هذه العلاقات قائمة على العرف، وليس على أساس القوانين الدستورية الحديثة.
4. الملكية الدستورية والنظريات الجمهورية
مع مرور الوقت، بدأت بعض المدن الأوروبية، خصوصًا في إيطاليا وفرنسا، تنشأ فيها أفكار متعلقة بالملكية الدستورية والنظم الجمهورية. هذه الأفكار كانت في البداية تتمثل في إدارة المدن المستقلة مثل فلورنسا و البندقية، حيث كانت هناك نوع من المشاركة الشعبية في الحكم، ولكنها كانت محدودة بالطبقات العليا.
الميثاق الأعظم (الماجنا كارتا) 1215: كان هذا الميثاق حدثًا هامًا في التاريخ السياسي الإنجليزي. في هذا الميثاق، تم تحديد حقوق النبلاء ضد تعسف الملك جون في إنجلترا، وكان يهدف إلى الحد من سلطات الملك، وهو ما يعد بمثابة بداية لفكرة الحكم الدستوري في أوروبا.
الفكر الجمهوري: بدأ يظهر في مدن إيطاليا فكر جمهوري يرى أن السلطة يجب أن تُوزع بين المواطنين المنتخبين بدلاً من أن تتركز في يد ملك واحد. هذه الفكرية كانت تطمح إلى إزالة أو تقليص سلطات الحكام الوراثيين.
5. الفلسفة السياسية والعقد الاجتماعي نظريات العقد الاجتماعي لم تظهر بشكل جلي في العصور الوسطى إلا في نهايتها مع فلاسفة مثل توماس هوبز و جون لوك في العصر الحديث. لكن بعض المفكرين في العصور الوسطى بدأوا يفكرون في فكرة أن الحكام يستمدون شرعيتهم من رضى الشعب أو من عهود وقعت معهم.
الفكر السياسي المبكر: بعض المفكرين مثل جيوردانو دي بروجيا، عارضوا الفكرة القائلة بأن السلطة الملكية تُعطى لله مباشرة، واقترحوا أن سلطة الحاكم يجب أن تكون قائمة على توافق الشعب وموافقته.
6. العلاقة بين الكنيسة والدولة
من الموضوعات الجوهرية في الفلسفة السياسية في العصور الوسطى كانت العلاقة بين الكنيسة والدولة، وهي مسألة تسببت في صراعات عديدة بين الباباوات والملوك. في حين أن بعض الفلاسفة مثل توما الأكويني حاولوا التوفيق بين السلطة الدينية والدنيوية، كان آخرون مثل جون من سالزبري يرون أن الكنيسة يجب أن تكون لها السلطة العليا في المسائل الدينية.
الكنيسة كسلطة أعلى: كان البابا في بعض الفترات يتدخل بشكل فعال في السياسة الأوروبية، ويتدخل في تعيين الحكام أو عزلهم، ما أثار الكثير من الجدل حول حدود السلطة الدينية والدنيوية.
وهكذا نرى أن الفلسفة السياسية في العصور الوسطى كانت معقدة ومتنوعة، حيث مزجت بين الفكر الديني والفكر الاجتماعي والسياسي. كانت النظريات السياسية ترتبط بشكل وثيق بالكنيسة والسلطة الإلهية، بينما كانت هناك محاولات من بعض المفكرين للخروج عن هذا الفهم التقليدي والتوجه نحو نظريات أكثر حداثة مثل العقد الاجتماعي والملكية الدستورية.
في ختام هذا العرض الشامل لنظريات الحكم في أوروبا خلال القرون الوسطى، يمكننا أن نرى بوضوح كيف كانت هذه الحقبة الزمنية مرحلة محورية في تطور الفكر السياسي الغربي، إذ شكلت مفاهيم السلطة والشرعية أبعادًا معقدة تعكس التفاعل المتوتر بين الدين والدولة، بين الملوك والكنيسة، وبين القيم الاجتماعية والنظم القانونية. كانت هذه النظريات تمثل صراعًا فكريًا بين مفهوم الحق الإلهي للملوك، الذي عزز سلطات الحكام وشرعها باسم الله، وبين محاولة البعض الآخر تحديد حدود تلك السلطة، سواء من خلال عقد اجتماعي أو ميثاق دستوري ينظم العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
لقد كانت القرون الوسطى مسرحًا لصراع مستمر من أجل فهم الطبيعة الإنسانية، وتحديد من يمتلك الحق في ممارسة السلطة وكيفية ممارستها، وتحديد حدودها. وفيما كانت النظريات السياسية في تلك الحقبة قد ساعدت في تعزيز سلطات بعض الحكام، إلا أن مفاهيم مثل العقد الاجتماعي والملكية الدستورية بدأت تفتح الأفق نحو فكر سياسي أكثر تقدميًا، يتعامل مع شرعية السلطة في سياق يراعي حقوق الأفراد وحرية الشعوب. إن أفكار مثل تلك التي ظهرت في الميثاق الأعظم (الماجنا كارتا) كانت نواة لبذور الثورة السياسية التي ستنمو في العصور الحديثة.
لقد أظهرت هذه الفترة أن نظريات الحكم لا تُبنى فقط على المبادئ الثابتة، بل هي نتاج ظروف اجتماعية، دينية، وفكرية متغيرة. وكانت هذه النظريات بمثابة محركات رئيسية للتغيير الاجتماعي والسياسي الذي سيمتد تأثيره لعدة قرون بعد ذلك، إذ إنها ساعدت على تحديد وجهات النظر حول السلطة وحقوق الإنسان، وأثرت على تطور الأنظمة السياسية الحديثة في أوروبا والعالم.
وبذلك، تظل نظريات الحكم في القرون الوسطى مصدرًا حيويًا لفهم التاريخ السياسي الأوروبي، وتحليل مساراته المعقدة، وهي ليست مجرد مادة تاريخية، بل مرآة لتفكير الإنسان في تحديد سبل العيش المشترك والعدل والحرية، في وقت كان العالم يتلمس فيه طريقه نحو العصر الحديث.
#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عالم ما بعد الهيمنة: صعود القوى الجديدة وانحسار النفوذ الأمر
...
-
الطاعة السياسية في ضوء النصوص الشرعية: بين العدالة الإلهية و
...
-
إعادة بناء الهوية الوطنية: مقاربات شاملة لمعالجة أزمة الانتم
...
-
العلمانية العسكرية: قراءة نقدية في مشروع التحديث القسري في ا
...
-
الحداثة وما بعد الحداثة: تفكيك العقل وإعادة بناء المعنى
-
التحولات في العلاقات المصرية الإسرائلية: من السلام إلى التعا
...
-
مأزق الواقع العربي المعاصر: الأسباب، التداعيات، آفاق الحل
-
مجتمع -ما بعد المعلومات- في السياق العربي: بين استثمار الفرص
...
-
اقتصاد الانتباه: تحديات العصر الرقمي في عصر الهيمنة التقنية
-
هل انتهى عصر النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟ قراءة في التحديات وا
...
-
القيادة السامة وأثرها: كيف يمكن للقيادة الإيجابية أن تعيد ال
...
-
أزمة الحكم في العالم العربي: موروث الاستبداد وتحديات الشفافي
...
-
حرب الرقائق الإلكترونية هل تستعد الدول العربية لدخول ميدان ا
...
-
الصوفية السياسية: مسارات التكيف والتحدي بين تركيا والعالم ال
...
-
الصهيونية العلمانية: جدلية الحداثة والهوية في المجتمع الإسرا
...
-
شراء الصمت في العالم العربي: أداة لطمس الحقيقة وتعزيز الهيمن
...
-
العلمانية والديمقراطية في العالم العربي: جدلية الحداثة والخص
...
-
العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية
-
الله خالق كل شيء: مقاربة فكرية لأحد أهم الإشكاليات الكلامية
...
-
السينما النسوية المتطرفة: كسر الصمت وإعادة صياغة السرديات
المزيد.....
-
السعودية ترحّب بالتوصل لاتفاق هدنة في لبنان معبرة عن أملها ب
...
-
المعارضة الألبانية تغلق شوارع العاصمة وتطالب بحكومة مؤقتة حت
...
-
قائد الحرس الثوري الإيراني يبعث رسالة إلى الأمين العام لـ-حز
...
-
صحيفة أمريكية: -أوريشنيك- أبعد صاروخ استخدم في أوروبا
-
-معاريف-: أعضاء في الحكومة الإسرائيلية يحاولون استخدام اتفاق
...
-
طاقم توجيه مسيرات جوية أوكرانية يستسلم طوعا مع معداته للجيش
...
-
كشف المزيد من -الأثر الأوكراني- في المقابر الأمريكية (صور)
-
-سوبرمان- و-التعقيم الجنسي- وجها لوجه في الولايات المتحدة!
-
هواوي تعلن عن أفضل حواسبها اللوحية
-
الجيش الأوكراني يصدر إنذارا جويا بعد إطلاق صواريخ بالستية رو
...
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|