أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية العسكرية: قراءة نقدية في مشروع التحديث القسري في العالم العربي















المزيد.....

العلمانية العسكرية: قراءة نقدية في مشروع التحديث القسري في العالم العربي


حمدي سيد محمد محمود

الحوار المتمدن-العدد: 8173 - 2024 / 11 / 26 - 11:32
المحور: مواضيع وابحاث سياسية
    


تُعدُّ العلمانية العسكرية واحدة من أكثر الظواهر السياسية تعقيدًا في تاريخ العالم العربي الحديث، حيث تشكلت عبر امتزاج قسري بين الأيديولوجيا السياسية والقوة العسكرية، لترسم ملامح أنظمة حكم أثرت بشكل جذري على مسار الدولة والمجتمع. منذ منتصف القرن العشرين، بزغت هذه الظاهرة كجزء من موجة التحديث القسري التي قادها ضباط عسكريون، أتوا إلى السلطة عبر انقلابات أُلبست ثوب "الثورات"، متبنين شعارات التحرر الوطني، والتقدم، وبناء الدولة الحديثة. غير أن هذه الأنظمة، التي رفعت لواء العلمانية، سرعان ما تحولت إلى أدوات لإعادة إنتاج الاستبداد تحت غطاء الحداثة، مما عمّق أزمات الهوية الوطنية وزاد من حدة الانقسامات داخل المجتمعات العربية.

العلمانية العسكرية في العالم العربي ليست مجرد مشروع سياسي، بل هي نموذج سلطوي حاول إعادة تشكيل علاقة الدولة بالدين، وإعادة تعريف المواطنة من منظور قومي يتجاوز الحدود الطائفية والقبلية. إلا أن هذا المشروع غالبًا ما اصطدم بواقع معقد تحكمه بنى اجتماعية ودينية راسخة، مما أدى إلى صدامات دامية مع الحركات الإسلامية والقوى التقليدية. وبينما كانت هذه الأنظمة تُبرر تدخلها العسكري في السياسة بحجة حماية العلمانية والوحدة الوطنية، فإن ممارساتها عززت الاستبداد وأضعفت المؤسسات المدنية، تاركة المجتمعات في حالة من الاستقطاب بين توجهين متناقضين: علماني عسكري متسلط، وديني سياسي يطالب بالشرعية الشعبية.

إن هذه الظاهرة تثير أسئلة جوهرية حول مستقبل الدولة العربية: هل يمكن للمؤسسة العسكرية أن تكون حاميًا للعلمانية دون أن تتحول إلى ديكتاتورية؟ وكيف يمكن تحقيق توازن بين الحداثة السياسية واحترام الهويات الدينية؟ وفي ظل التحديات المتصاعدة من تهديدات التطرف الديني وتداعيات الثورات الشعبية، تبرز الحاجة إلى إعادة قراءة التجربة التاريخية للعلمانية العسكرية، ليس فقط لفهم أوجه فشلها ونجاحها، بل لاستشراف إمكانيات صياغة نموذج جديد يحقق المصالحة بين الدولة والمجتمع، بين الدين والسياسة، وبين الحداثة والتقاليد.

إن تناول العلمانية العسكرية في السياق العربي يُحتم علينا الخوض في تفاصيلها من زوايا متعددة: جذورها التاريخية، أدواتها في إدارة السلطة، تأثيراتها على بنية الدولة والمجتمع، والصراعات التي أثارتها مع التيارات الأخرى. وفي النهاية، يقف العالم العربي أمام سؤال محوري: هل يمكن أن تكون العلمانية أداة لتحرير المجتمعات من القيود الطائفية والمذهبية دون أن تصبح أداة استبداد بيد النخب العسكرية؟ وهل هناك أفق لتحول هذه النظم نحو مسارات أكثر انفتاحًا ودمقرطة؟ هذه الأسئلة تستدعي نقاشًا عميقًا يتجاوز الشعارات، ليصل إلى لبّ المشكلة ويضع أسسًا لمستقبل مختلف.

العلمانية العسكرية في العالم العربي

العلمانية العسكرية في العالم العربي تمثل ظاهرة سياسية واجتماعية مثيرة للجدل، حيث تتداخل فيها عناصر العلمانية مع الهيمنة العسكرية على الدولة والمجتمع. يتجلى هذا النموذج في الأنظمة التي يديرها العسكريون والتي تعتمد على خطاب علماني يبرر تدخلهم في السياسة والإدارة العامة باسم التحديث، والاستقرار، وحماية الوحدة الوطنية. يمكن تقسيم هذه الظاهرة إلى عدة جوانب رئيسية:

1. الجذور التاريخية للعلمانية العسكرية في العالم العربي

- الإرث الاستعماري: تأثرت بعض الدول العربية بالفكر العلماني خلال الحقبة الاستعمارية، حيث حاول الاستعمار الفرنسي والبريطاني نشر العلمانية في مؤسسات الدولة، مما ساهم في إدخال هذه الأفكار إلى الجيوش الحديثة.
- الحركات القومية: في منتصف القرن العشرين، برزت الأنظمة العسكرية في العالم العربي كقوة سياسية عبر انقلابات عسكرية، كما في مصر (1952)، والعراق (1958)، وسوريا (1963)، حيث تبنّت شعارات علمانية لتقويض الهويات الطائفية والقبلية، والتركيز على القومية العربية.

2. دور المؤسسة العسكرية في نشر العلمانية
- السيطرة على التعليم والإعلام: استخدمت الأنظمة العسكرية وسائل الإعلام والمناهج التعليمية لنشر قيم علمانية تعزز الولاء للدولة بدلًا من الطوائف أو القبائل.
- إضعاف المؤسسات الدينية: عملت الأنظمة العسكرية على تحجيم دور المؤسسات الدينية، إما عبر دمجها في الدولة (كما في مصر مع الأزهر)، أو عبر قمعها (كما حدث في تركيا خلال حكم أتاتورك).

3. العلمانية العسكرية وأزمة الشرعية
- تناقض الخطاب: بالرغم من تبني هذه الأنظمة خطابًا علمانيًا، فإنها لم تتخلَّ عن توظيف الدين كأداة شرعية لتثبيت سلطتها، مما أدى إلى ظهور تناقض بين الشعارات والممارسات.
- القمع السياسي: تبرر الأنظمة العسكرية استخدام القوة ضد المعارضة بحجة حماية العلمانية والاستقرار، مما أدى إلى إقصاء القوى الإسلامية وحتى العلمانية المدنية.
4. انعكاسات العلمانية العسكرية على المجتمعات العربية

- تفتيت النسيج الاجتماعي: أدى قمع المعارضة الدينية والعلمانية إلى تعميق الاستقطاب داخل المجتمعات العربية.
- ظهور الحركات الإسلامية: كرد فعل على العلمانية العسكرية، برزت حركات إسلامية مثل الإخوان المسلمين في مصر والجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر، مطالبة بإعادة صياغة الهوية الوطنية على أسس دينية.
- الانتقال إلى الديكتاتورية: في العديد من الحالات، أدى المزج بين العلمانية والهيمنة العسكرية إلى تكريس أنظمة ديكتاتورية، حيث أُضعفت الديمقراطية باسم حماية العلمانية.

5. نماذج عربية للعلمانية العسكرية

- مصر: يعد نظام جمال عبد الناصر من أبرز الأمثلة على العلمانية العسكرية، حيث تبنى خطابًا علمانيًا مع قمع الحركات الإسلامية.
- الجزائر: شهدت الجزائر صراعًا حادًا بين النظام العسكري والجبهة الإسلامية للإنقاذ في التسعينيات، مما عكس الصدام بين العلمانية العسكرية والقوى الإسلامية.
- سوريا والعراق: تبنى البعث في سوريا والعراق نموذجًا علمانيًا تحت قيادة عسكرية قوية، لكنه لم يمنع من استخدام الطائفية كأداة سياسية.

6. التحديات المستقبلية

- إعادة التوازن بين الدولة والدين: تحتاج المجتمعات العربية إلى إيجاد صيغة تضمن احترام الدين دون السماح له بالهيمنة على السياسة.
- تحقيق ديمقراطية حقيقية: إن تجاوز العلمانية العسكرية يتطلب تطوير مؤسسات مدنية ديمقراطية قادرة على إدارة التنوع السياسي والاجتماعي.

وفي المجمل، فإن العلمانية العسكرية في العالم العربي هي نتيجة تفاعل معقد بين التاريخ، والسياسة، والدين. وقد أثارت تساؤلات حول دور الدولة في إدارة التنوع الديني والعرقي، وكيفية تحقيق توازن بين الحداثة واحترام الخصوصيات الثقافية والدينية.

في ختام هذا النقاش حول العلمانية العسكرية في العالم العربي، يتضح أنها لم تكن مجرد ظاهرة سياسية عابرة أو خيارًا استراتيجيًا مؤقتًا، بل شكلت مرحلة فارقة في مسيرة الدولة العربية الحديثة. لقد حاولت هذه الأنظمة تقديم نفسها كقوة حداثية تنويرية، تهدف إلى تحرير المجتمعات من قيود الطائفية والقبلية، وتعزيز مفهوم الدولة الوطنية الحديثة. إلا أن هذا المشروع، ورغم ما قدّمه من إنجازات في مجالات التعليم، والصناعة، والبنية التحتية، لم يستطع تجاوز أزماته البنيوية، إذ ترافق مع استبداد سياسي، وإقصاء فكري، وقمع ممنهج للحريات، مما أدى إلى تكريس أنظمة حكم مركزية، هشّة أمام التحديات المجتمعية والدينية.

لقد كشفت التجربة عن محدودية العلمانية العسكرية كنهج لإدارة التنوع في المجتمعات العربية، حيث عمّقت الهوة بين الدولة ومجتمعاتها، وأنتجت استقطابًا حادًا بين التيارات العلمانية والدينية. كما أنها أظهرت عجز هذه الأنظمة عن تقديم نموذج ديمقراطي شامل يحترم الحريات، ويوازن بين الدين والسياسة، ويعزز مفهوم المواطنة الجامعة. وبدلاً من ذلك، ساهمت في تأجيج الصراعات الداخلية، وخلقت فراغًا سياسيًا أفسح المجال لصعود تيارات دينية راديكالية وأخرى معارضة، وجعلت من التحول الديمقراطي حلمًا بعيد المنال.

إن الإشكالية الكبرى التي طرحتها العلمانية العسكرية تكمن في محاولتها فرض نموذج أحادي للهوية الوطنية، دون الاعتراف بتعددية المجتمع، أو فهم الدين بوصفه جزءًا من النسيج الثقافي والسياسي للأمة. ومع التحولات الكبرى التي يشهدها العالم العربي اليوم، من انتفاضات شعبية وثورات اجتماعية إلى صراعات إقليمية، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: هل يمكننا تجاوز إخفاقات العلمانية العسكرية نحو نموذج مدني ديمقراطي يعيد بناء العلاقة بين الدولة والمجتمع على أسس عادلة وشاملة؟

إن الإجابة عن هذا السؤال تتطلب إرادة سياسية حقيقية لتجاوز الأطر التقليدية، والاعتراف بأن الحل يكمن في المصالحة بين الحداثة والخصوصية، بين الديمقراطية والقيم الثقافية. وحده هذا المسار قادر على تفكيك إرث الاستبداد، وإرساء دعائم دولة مدنية تحترم حقوق الأفراد، وتُعلي من شأن المواطنة، وتكون قادرة على مواجهة التحديات المعاصرة. وختامًا، فإن التاريخ يعلّمنا أن أي مشروع سياسي يتجاهل خصوصيات مجتمعه محكوم عليه بالفشل، وأن بناء مستقبل أفضل للعالم العربي يبدأ بالاستماع لصوت الشعوب، واحترام إرادتها في اختيار مسارها بعيدًا عن هيمنة العسكر أو احتكار الدين.



#حمدي_سيد_محمد_محمود (هاشتاغ)      



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الحداثة وما بعد الحداثة: تفكيك العقل وإعادة بناء المعنى
- التحولات في العلاقات المصرية الإسرائلية: من السلام إلى التعا ...
- مأزق الواقع العربي المعاصر: الأسباب، التداعيات، آفاق الحل
- مجتمع -ما بعد المعلومات- في السياق العربي: بين استثمار الفرص ...
- اقتصاد الانتباه: تحديات العصر الرقمي في عصر الهيمنة التقنية
- هل انتهى عصر النفوذ الفرنسي في أفريقيا؟ قراءة في التحديات وا ...
- القيادة السامة وأثرها: كيف يمكن للقيادة الإيجابية أن تعيد ال ...
- أزمة الحكم في العالم العربي: موروث الاستبداد وتحديات الشفافي ...
- حرب الرقائق الإلكترونية هل تستعد الدول العربية لدخول ميدان ا ...
- الصوفية السياسية: مسارات التكيف والتحدي بين تركيا والعالم ال ...
- الصهيونية العلمانية: جدلية الحداثة والهوية في المجتمع الإسرا ...
- شراء الصمت في العالم العربي: أداة لطمس الحقيقة وتعزيز الهيمن ...
- العلمانية والديمقراطية في العالم العربي: جدلية الحداثة والخص ...
- العلمانية: بين أفق التنوير وصراع الهوية الدينية
- الله خالق كل شيء: مقاربة فكرية لأحد أهم الإشكاليات الكلامية ...
- السينما النسوية المتطرفة: كسر الصمت وإعادة صياغة السرديات
- الخلود في الفضاء الرقمي: إعادة صياغة مفهوم الموت والذاكرة
- معضلة الشر: قراءة فلسفية في عدل الله وحريّة الإنسان
- أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال ...
- أزمة ما بعد الحداثة: بين سطوة الواقع الفائق وشبكات السلطة ال ...


المزيد.....




- الهند.. أعمال عنف وإغلاق مدراس في بلدة بسبب مزاعم بناء مسجد ...
- أديل تودع الجمهور بالدموع في حفلها الأخير بلاس فيغاس
- النائب اللبناني قاسم هاشم: الإعلان عن اتفاق مع إسرائيل قد لا ...
- -هذا أنا!-.. أربع قصص لأشخاص ولدوا مرتين!
- فوربس: أخت غيران- الصغرى تشكل تحديا للدفاعات الجوية الأوكران ...
- تركيا: نتخذ خطوات ملموسة بشأن مذكرتنا الأمنية مع العراق
- معاناة قطاع غزة تتفاقم والجدل السياسي حول وقف إطلاق النار مع ...
- احتجاجات أنصار عمران خان: مقتل ستة أشخاص وسط مواجهات عنيفة م ...
- بدون تعليق: الأضرار التي سببتها العاصفة بيرت في المملكة المت ...
- شيطنة المقاومة!!


المزيد.....

- المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021 / غازي الصوراني
- المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020 / غازي الصوراني
- المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و ... / غازي الصوراني
- دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد ... / غازي الصوراني
- تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ / غنية ولهي- - - سمية حملاوي
- دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية / سعيد الوجاني
- ، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال ... / ياسر جابر الجمَّال
- الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية / خالد فارس
- دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني / فلاح أمين الرهيمي
- .سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية . / فريد العليبي .


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - مواضيع وابحاث سياسية - حمدي سيد محمد محمود - العلمانية العسكرية: قراءة نقدية في مشروع التحديث القسري في العالم العربي