|
الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات التفسير في السياقات الوطنية والاقليمية والدولية (الجزء الأول)
خليل إبراهيم كاظم الحمداني
الحوار المتمدن-العدد: 8173 - 2024 / 11 / 26 - 01:31
المحور:
حقوق الانسان
- قد يبدو لكلمة "الديمقراطية" وقعاً مهيباً، بل مخيفاً لدى الكثيرين، يكاد يستفز المشاعر ويشعل حروباً داخل العقول والقلوب. إنها كلمة تتأرجح بين أن تكون حلمًا مستحيلاً للبعض وكابوسًا مرعبًا للآخرين. كثيرون لا يكتفون بكرهها، بل يذهبون إلى حد تكفيرها وتكفير من ينطق بها أو يدعو إليها. وعندما أدرك أعداؤها أنها أشبه بالشمس، لا يمكن حجبها بغربال مهما أتقنوا صنعه، قرروا الدخول من باب آخر: باب التشويه والتضليل. عباقرة الحيلة ابتكروا مفاهيم تبدو مألوفة لكنها زائفة، فظهرت مصطلحات مثل "ديمقراطية تناسب خصوصياتنا" أو "ديمقراطية خاصة بنا"، لتصبح الكلمة كسجادة عتيقة يُعاد تفصيلها وفق أهواء الطغاة ورؤى المتسلطين. - والحق أن هذه "الخصوصيات" ليست سوى عباءة فضفاضة تُرتدى لإخفاء الفجوات، والتهرب من مواجهة الواقع. فهل يعقل أن تكون الديمقراطية، التي تقوم على مبادئ الحرية والعدل والمساواة، قابلة للتفصيل حسب رغبات من يرغبون في الاستمرار في الهيمنة؟ بل إن البعض يتعامل معها وكأنها مرض معدٍ يجب عزله، أو عدو متربص ينبغي أن نضع له ألف قيد. كيف يُعقل أن يتم تقديمها كهدية مشروطة؟ أو تقليصها لتناسب "المقاس الوطني" كما يدّعون؟ - لكن السؤال الأهم، وربما الأكثر استفزازًا، هو: لماذا تخيفهم الديمقراطية إلى هذا الحد؟ أهي مرآة تكشف عيوبهم؟ أم شعاع يفضح زيفهم؟ أم أنها ببساطة تقف عائقًا أمام طموحاتهم السلطوية؟ في كل الأحوال، فإن ما يجري ليس إلا محاولة يائسة لترويض فكرة لا يمكن ترويضها، تماماً كما لا يمكن إجبار الشمس على الإشراق في غير وقتها. الديمقراطية ليست سلعة تُصنع حسب الطلب، وليست شعاراً يُرفع عند الحاجة. إنها حقيقة متجاوزة للأزمان والحدود، ولمن يخافها، نقول ببساطة: الخوف منها لن يحجب ضياءها، والتلاعب بها لن يغيّر جوهرها. - عبارة "حقوق الإنسان" عانت بدورها من المصير ذاته الذي واجهته "الديمقراطية"، إذ وجدت و تجد نفسها في مواجهة سيل من الاتهامات والتهجمات، وكأنها تُجرّم لمجرد وجودها. يبدأ الأمر عادةً بخطوة مألوفة: تخوين كل من يدعو إليها أو يتبناها، قبل أن يتطور الهجوم إلى اتهامها ومن ينادون بها بالعمالة، وكأن من ابتكر هذه الحقوق جلس في برج عاجي لا علاقة له بالإنسانية أو تاريخها الممتد. إنهم يتجاهلون، أو ربما يتناسون عمدًا، أن حقوق الإنسان ليست اختراعًا حديثًا، بل هي جزء لا يتجزأ من العمق التاريخي للبشرية، متجذرة في صلب التجربة الإنسانية منذ فجرها الأول. - وحين فشلت هذه المحاولات المستميتة في تشويهها، انتقلت الحملة إلى مرحلة جديدة: إنكارها بزعم عدم صلاحيتها "لنا"، أو الأسوأ، زعم عدم صلاحيتنا "لها". وكأن حقوق الإنسان مفصلة على مقاسات محددة، وكأن شعوبنا ليست من البشر أو لا تستحق ما يستحقه غيرها. هنا تظهر تلك "العصي" التي يضعونها في دواليب الحقوق لمنع عجلاتها من التقدم. وهذه العصي غالبًا ما تحمل أسماء رنانة: الخصوصيات الوطنية، الخصائص الثقافية، أو التعارض المزعوم مع الأديان. - ولكن، لنتوقف قليلاً عند هذه النقطة. أليس في الأديان، بكل تنوعها وثرائها، انحياز واضح للإنسان وكرامته؟ أليست النصوص الدينية نداءً أزليًا لحماية الضعيف، وإنصاف المظلوم، وإعلاء شأن الحق والعدل؟ كيف إذًا تُحوّل حقوق الإنسان، التي تحمل جوهر هذه القيم، إلى عدوٍ يُتهم بمعاداة الأديان؟ إنها ببساطة محاولة يائسة للالتفاف على المعنى الحقيقي للحقوق، عبر تكييف المصطلح ليناسب إنسانًا بمواصفات خاصة، إنسانًا يُراد له أن يبقى خاضعًا، مقيدًا، فاقدًا لكرامته، تحت ذريعة أنه "ليس كغيره". - في الواقع، لا يكشف هذا الموقف سوى عن عمق الخوف من حقوق الإنسان، ذلك الخوف الذي ينبع من إدراك أن هذه الحقوق تكشف المستور وتفضح الظلم المتأصل. حقوق الإنسان ليست موضة عابرة أو فكرة مستوردة، بل هي ضرورة إنسانية، ضوء يبدد ظلمات القهر، وهي حقيقة تتجاوز الخصوصيات المزعومة لتؤكد أن الإنسان، كل إنسان، يستحق الكرامة، الحرية، والعدل، بلا أعذار أو استثناءات. - كذلك، فإن التنمية كمصطلح لم تسلم من ذات المصير الذي واجهته الديمقراطية وحقوق الإنسان. بدأت الرحلة بمحاولة الإنكار والاستنكار، وكأن مجرد الاعتراف بها تهديد للنظم القائمة. ثم انتقلوا إلى مرحلة الاستصغار والاستهانة، بتصويرها كترف فكري لا حاجة له في مواجهة "الحقائق الصلبة". ولكن مع مرور الوقت، ومع الوصول إلى المناطق الحرجة حيث يصبح التجاهل ضربًا من المستحيل، لجأوا إلى حيلة جديدة: الانتقاء. وكأن التنمية تحولت إلى متجر بقالة، يُنتقى منه الهدف والمؤشر والميدان حسب المزاج، مع إغماض العين عن مساحات الفشل الكبرى. فجأة، لم تعد التنمية مشروعًا شاملًا يستهدف بناء الإنسان والمجتمع، بل باتت عملية تجزئة انتقائية تُختار منها ما يناسب المصالح الضيقة، تاركة وراءها المعضلات الحقيقية بلا حلول. - هذه الانتقائية ليست مجرد عَرَض جانبي، بل هي جزء من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تفريغ المصطلح من جوهره. فبدلاً من أن تكون التنمية نهجًا شاملًا يعالج الأسباب الجذرية للتأخر والفقر والتفاوت، أصبحت أداةً للتغطية على الفشل ولإظهار إنجازات زائفة. ومن خلال هذا التشويه المتعمد، لم تُفقد التنمية معناها فحسب، بل حُرمت من دورها في إعادة بناء المجتمعات على أسس مستدامة وعدالة شاملة. - وفي خضم هذا المشهد المضطرب، يأتي هذا البحث البسيط محاولةً للتنقل بين تلك المساحات الشائكة، رغم وعورتها ورغم صعوبة توقع ردود الأفعال عليه. لم يكن الهدف استعراض الحلول الجاهزة أو تقديم إجابات نهائية، بل السعي إلى تسليط الضوء على الفجوات، والعودة إلى الجذور لفهم السياقات التي أُعيد فيها تشكيل المفاهيم وتشويهها. لهذا الغرض، وُضعت عناوين فرعية هنا وهناك كعلامات على طريق ملغّم، وكأسلوب يرمي إلى إعادة تأثيث الفوضى بفكر جديد ونظرة أعمق. - إن إعادة تأثيث الفوضى لا تعني تزيين المشهد أو تجميل الواقع، بل تتطلب إعادة ترتيب الأولويات، وطرح الأسئلة الصعبة التي طالما هرب منها الكثيرون. ما معنى التنمية حقًا في سياقنا؟ وكيف يمكن أن تكون أداة للتحرر وليس وسيلة للخضوع؟ وما السبيل لتجاوز الانتقاء واستعادة المشروع التنموي بكليته؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تمارين فكرية، بل هي دعوة ملحة لمواجهة الواقع بشجاعة، والتفكير في بناء مستقبل أكثر شمولاً وعدلاً، واخترت ان ابدأ بفك الاشتباك من خلال البوح بطبيعة العلاقة بين هذا الثلاثي المستفز (حقوق الانسان والديمقراطية والتنمية) ..الجدلية الوجودية التي تتسم بها هذه العلاقة . الإشكالية - في زمن يتسم بتحديات معقدة ومتزايدة، بدءًا من الأزمات الاقتصادية وصولًا إلى التغيرات المناخية والصراعات السياسية، تتعاظم التساؤلات حول قدرة الديمقراطية على تعزيز حقوق الإنسان وتحقيق التنمية المستدامة. ثمّة تساؤل محوري يدور حول مدى توافق قيم الديمقراطية مع المعايير الإنسانية في عالم يشهد تغيرات جوهرية. تتمثل الإشكالية في أن هذه العلاقة التفاعلية بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية ليست دائمًا واضحة أو متفقًا عليها، إذ تختلف الظروف الوطنية والدولية اختلافًا كبيرًا، مما يؤدي إلى تداخل القيم الثقافية والاعتبارات السياسية بطرق معقدة. - علاوة على ذلك، تُعتبر القضية في سياق معقد، حيث تُظهر الدراسات أن الديمقراطيات تميل إلى تقديم مستوى أعلى من الحماية لحقوق الإنسان، ولكن هذا لا يتحقق دائمًا، خاصة في حالات ما بعد الصراع أو في الأنظمة التي تدعي الديمقراطية لكن تمارس قيودًا على الحريات. فالتحديات التي تنشأ في هذه السياقات قد تقوض حقوق الإنسان باسم الأمن والاستقرار. إذا تقدمت الضغوط الأمنية على الحقوق الأساسية، فقد يؤدي ذلك إلى تفاقم المشكلات وتحويل الديمقراطية إلى مجرد أداة لتكريس السلطة. - الإشكالية هنا تكمن أيضًا في تحدي فهم هذه العلاقة المعقدة، وتحديد كيفية تحقيق التوازن بين قيم الديمقراطية ومتطلبات التنمية وحقوق الإنسان. في هذا السياق، تشير الدعوات إلى تعزيز الشفافية والمساءلة ضمن الإدارة العامة، إلى أهمية الفهم الثقافي والنقدي للتفاعل بين هذه القيم والضغوط التي قد تواجهها بشدة. وأخيرًا، تبرز ضرورة توفير المعلومات والموارد المتعلقة بالانتخابات وحقوق الأفراد، بما في ذلك حق الترشيح والتصويت، كأساس لضمان فعالية الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان. - من هنا، يُعد البحث في هذه الإشكالية خطوة أساسية نحو تعزيز الفهم الشامل لمكانة حقوق الإنسان في إطار الديمقراطية والتنمية ونحو تحقيق التوازنات اللازمة في مواجهة التحديات المعاصرة.. الأهداف البحثية 1. تحليل العلاقة التكاملية بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية من زاوية تطبيقية: تسعى هذه الدراسة إلى الخروج من حدود التنظير المجرد، لتقديم مقاربة عملية تفصّل كيف يمكن للديمقراطية أن تُعزز آليات حماية حقوق الإنسان وتحفز التنمية الشاملة. سنستكشف الطرق التي تتفاعل بها هذه العناصر الثلاثة وكيف يمكن للديمقراطية أن تكون بمثابة المحرك الذي يقود نحو تحسين الأوضاع الحقوقية والاجتماعية. 2. دراسة السياق الوطني والدولي كإطارين محددين لتفسير العلاقة: نظراً لتنوع البيئات السياسية والاجتماعية وتأثيرها على كل من الديمقراطية وحقوق الإنسان، يركز هذا البحث على دراسة هذه العلاقة ضمن إطارين متكاملين: السياق الوطني، الذي يشمل الخصوصيات الثقافية والسياسية الضرورية لفهم كيفية تطبيق الحقوق، والسياق الدولي الذي يتأثر بالعولمة والتغيرات الجيوسياسية ويتطلب أيضًا هويته الثابتة. 3. تسليط الضوء على التحديات العملية التي تواجه هذه العلاقة في ظل الأنظمة السلطوية أو المفاهيم المختلفة للديمقراطية: - تتعرض الدراسة للتحديات التي تعيق تحقيق التفاعل المثمر بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية، وخاصةً في البيئات التحليلية التي لا تستوعب مفهوم الديمقراطية بالشكل الصحيح أو تعيد تفسيره طبقًا لمصالح ضيقة، مما يؤدي إلى تآكل الحقوق الأساسية وازدواجية المعايير. نطاق البحث أ) التحديد: في عالم يشهد تنوعًا هائلًا في الأنظمة السياسية والسياقات الاجتماعية، يأتي هذا البحث ليركز على دراسة العلاقة الديناميكية والمعقدة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية، مستهدفًا بيئات مختارة مثل العالم العربي والدول الناشئة. تبرز في هذه البيئات تحديات فريدة تشكل عقبات أمام العملية التغييرية، حيث تلعب الخصوصيات الثقافية والسياسية دورًا محوريًا في تشكيل كيفية فهم وتطبيق هذه القيم. في ظل ذلك، فإن استكشاف البُنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المحلية يصبح أمرًا حيويًا من أجل فهم كيف يمكن أن تتفاعل هذه العناصر معًا لتعزيز أطر العدالة والحرية الأساسية. ب) التوضيح: يركز هذا البحث على فهم المعاني العميقة وعلى جوانب التطبيق العملي لهذه المفاهيم في سياقاتها الملموسة، بدلاً من الاقتصر على تحليلها بشكل منفصل دون ربط. يتناول البحث التحديات العملية المختلفة التي تعترض سبيل تعزيز هذه العلاقة التكاملية، مثل الفجوات في التشريعات، عدم توافر الآليات اللازمة لحماية حقوق الإنسان، وكذلك الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية التي تؤثر سلبًا على جهود التنمية. من خلال هذه الدراسة، نستكشف الأساليب والحلول الممكنة التي يمكن أن تسهم في صياغة نتائج إيجابية تسهم في تعزيز الديمقراطية وحقوق الإنسان، وتقديم مسارات مبتكرة لترقية التنمية المستدامة بكل أبعادها. ج) الإسقاط العملي: لتعزيز الفهم العميق للعلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية، يعتمد البحث على دراسات حالة مستندة إلى أمثلة واقعية من بيئات مختارة. من خلال تحليل تجارب الدول المختلفة، يمكننا استيضاح كيف يمكن للديمقراطية أن تُوظف كأداة فعالة في تعزيز حقوق الإنسان وتمكين المجتمعات من تحقيق التنمية المستدامة. في المقابل، نسلط الضوء أيضًا على السيناريوهات التي يمكن أن تؤدي فيها التحديات المعقدة، مثل النزاعات السياسية والاقتصادية أو الأنظمة السلطوية، إلى تقويض هذه الأهداف الأساسية. هدفنا هو تحديد العناصر الرئيسية التي تلعب دورًا في هذه الديناميكيات، وكيفية تجاوز العراقيل لضمان تحقيق العدالة والمساءلة، مما يمهد الطريق نحو عالم يتمتع فيه كل فرد بحقوقه وكرامته.نطاق البحث المقدمة - تُعَدّ الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية من القضايا المحورية التي تكتسي أهمية كبيرة في السياقات المختلفة، سواء على الصعيد الوطني أو الدولي. فقد أصبحت هذه المفاهيم ثلاثية الأبعاد تشكّل أساس النقاشات الفكرية والسياسية في عصرنا الحديث. فالديمقراطية، بوصفها نظامًا سياسيًا يتيح للمواطنين المشاركة الفعالة في صنع القرار، تُعزز من إمكانية تحقق حقوق الإنسان، مما يسهم في تحقيق التنمية الشاملة. في هذا السياق، تعتبر العلاقة بين هذه العناصر الثلاثة جدلية ومعقدة، حيث يطرح سؤالٌ جوهريٌّ عن كيفية فهم هذه العلاقة وتجاوز التحديات العملية التي تواجهها. - تُعَدّ الديمقراطية عاملًا محوريًا في تعزيز حقوق الإنسان والتنمية، إذ تُحسن من ظروف الحياة وتعزّز من مشاركة الأفراد في المجتمع. عندما تُتاح الفرصة للمواطنين للإدلاء بأصواتهم، والمساهمة في صنع السياسات العامة، تتعزز قيم الحرية والمساواة، مما يُفضي إلى فرصٍ أفضل لتحقيق التنمية المستدامة. ومع ذلك، فإن تجارب الدول تشير إلى أن التحول إلى الديمقراطية لا يضمن بالضرورة حماية حقوق الإنسان أو تحقيق التنمية، مما يُبرز ضرورة استكشاف الجوانب المختلفة للعلاقة بين هذه المفاهيم. - تطرح هذه الدراسة إشكالية محددة تهدف إلى فهم العلاقة المعقدة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية. كيف يمكننا تجاوز التحديات العملية التي تعيق هذا التكامل المثالي؟ قد تظهر العديد من الصعوبات التي تواجه الدول في هذا الإطار، بدءًا من الأنظمة السياسية القمعية، مرورًا بالفساد، وصولاً إلى الهياكل الاقتصادية غير المتوازنة التي تُعيق التنمية المستدامة. لذلك، يجب علينا تناول هذه الإشكالية بطرق تحليلية شاملة تضمن استكشاف آثار كل عامل من هذه العوامل في السياقات المختلفة، لتقديم رؤية متكاملة تعكس الحقيقية المعقدة لهذه العلاقة. تتطلب معالجة هذه المسائل الدقة والعمق، حيث يجب أن نبحث في مدى تأثير الديمقراطية على تعزيز حقوق الإنسان في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية السائدة. وكذلك، يجب أن نُحاكي التجارب العالمية المختلفة، من الدول التي نجحت في تحقيق هذا التوازن إلى تلك التي خاضت تجارب صعبة في السعي إلى الديمقراطية والتنمية. هل أن الديمقراطية، رغم كل العوائق، هي السبيل الأمثل لبلوغ أهداف حقوق الإنسان والتنمية المستدامة؟ أم أن هناك نماذج أخرى يمكن أن تسهم في تحقيق هذه الأهداف بشكل أكثر فاعلية؟ ستتناول هذه الدراسة، مدعومةً بالأدبيات الحديثة والأبحاث العلمية، الأبعاد المتعددة للديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية. من خلال تحليل التجارب العالمية والمحلية، سنتطرق إلى الأسس النظرية التي تدعم هذه العلاقة، ونستعرض العقبات التي قد تعترض سبيلها. كما سنبحث في الآليات التي يمكن من خلالها تعزيز هذه الجوانب المتداخلة، لتحقيق التقدم المنشود في المجتمعات. في ختام هذه المقدمة، يُمكن القول إن المساعي الرامية إلى تعزيز الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان وتحقيق التنمية تشكل مجتمعةً تحديًا معقدًا، يتطلب تعاونًا مثمرًا بين جميع الفاعلين في المجتمع الدولي. وبذلك، تُعتبر هذه الدراسة محاولتنا للغوص في أعماق هذه القضايا والاستفادة من الدروس المستفادة من التجارب السابقة، سعيًا لتحقيق رؤية أفضل لمستقبل يكرّس قيم الديمقراطية وحقوق الإنسان ويعزز التنمية الشاملة. الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للعلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية مقدمة تمهيدية - تتعلق ديمقراطية اليوم بمفاهيم متعددة تتداخل فيما بينها، حيث تُعَدّ الإطار الحاكم الذي يتشكل في ظله النظام السياسي في معظم بلدان العالم. وتتجلى أهمية الديمقراطية في كونها لا تقتصر على مجرد نظم انتخابية، بل تمثل مجموعة من المبادئ الأساسية التي تُصيغ العلاقة بين الأفراد والدولة. في هذا السياق، تُعتبر حقوق الإنسان أحد الأهداف الجوهرية التي تسعى جميع المجتمعات لتحقيقها، حيث تُشكّل جزءًا لا يتجزأ من تاريخ البشرية وتطورها. وفي إطار هذه المفاهيم، تلعب التنمية دورًا حيويًا كمؤشر على الفاعلية والنجاح في تحقيق الأهداف الديمقراطية وحقوق الإنسان. في هذه السطور، سنتناول هذه المحاور الأساسية بالتفصيل والاستفاضة، مع التركيز على كيف تتداخل وتأثر كل منها بالأخرى.وقبل ذلك اود ان استعرض وبشكل مختصر أفكار ومساهمات فلسفية معاصرة لمفكرين اثروا هذا الموضوع علاقة الديمقراطية وحقوق الإنسان: أفكار ومساهمات فلسفية معاصرة - في عالم متشابك حيث تتقاطع الأفكار الكبرى وتتفاعل الأيديولوجيات، تبرز العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان كأحد المحاور المركزية في الفكر الفلسفي والسياسي المعاصر. هذه العلاقة، التي تتأرجح بين التكامل والصراع، تمثل اختبارًا حقيقيًا لقيم العدالة والمساواة والحرية. فإذا كانت الديمقراطية تُجسد الإرادة الشعبية وآلية تحقيق الحكم الرشيد، فإن حقوق الإنسان تعكس الأساس الأخلاقي الذي يحدد الحدود والضوابط لتلك الإرادة. من هنا، ينبع التساؤل الفلسفي: هل يمكن للديمقراطية أن تزدهر دون الالتزام بحقوق الإنسان؟ أم أن حقوق الإنسان تحتاج إلى ديمقراطية لتتحقق؟ وسنحاول هنا استعراض ابرز الرؤى المعاصرة : أ) أمارتيا سن: الديمقراطية كشرط لتحقيق الحريات والتنمية أمارتيا سن، الاقتصادي والفيلسوف الهندي، يعتبر الديمقراطية شرطًا أساسيًا لتحقيق العدالة الاجتماعية والحريات الفردية. في كتابه "التنمية كحرية"، يرى أن الديمقراطية ليست فقط نظامًا سياسيًا، بل هي أداة للتنمية الإنسانية الشاملة. يناقش سن أن حقوق الإنسان، بما في ذلك الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، لا يمكن تحقيقها إلا في بيئة ديمقراطية تشجع المشاركة الشعبية وتضمن حرية التعبير. - رؤيته الفريدة: الديمقراطية ليست هدفًا بحد ذاته، بل وسيلة لتعزيز قدرات الأفراد لتحقيق الحياة التي يختارونها. - إسقاطاته العملية: يشير إلى أن غياب الديمقراطية يؤدي إلى الكوارث الإنسانية مثل المجاعات، مؤكدًا أن الحكومات الديمقراطية أقل عرضة لتجاهل أزمات شعوبها. ب) يورغن هابرماس: الديمقراطية كحوار أخلاقي وتشاركي يورغن هابرماس، الفيلسوف الألماني البارز، ينظر إلى الديمقراطية كعملية تواصلية تهدف إلى تحقيق التوافق بين المواطنين. في كتابه "بين الوقائع والمعايير"، يؤكد أن الديمقراطية وحقوق الإنسان مرتبطان ارتباطًا لا ينفصل، حيث تعمل الديمقراطية كإطار قانوني لضمان الحقوق، فيما تُعد حقوق الإنسان المعيار الأخلاقي الذي يضبط الديمقراطية. - إسهاماته المركزية: الديمقراطية تحتاج إلى حوار مفتوح بين المواطنين لضمان الشفافية والتوافق الأخلاقي. - النقد والتحديات: يرى أن النظم الديمقراطية المعاصرة غالبًا ما تعاني من نقص في التشاركية الحقيقية، حيث يتم اختزال الديمقراطية في الانتخابات فقط. ج) جاك رانسيير: الديمقراطية كتمرد مستمر :يرى الفيلسوف الفرنسي جاك رانسيير أن الديمقراطية الحقيقية تتجاوز المؤسسات الرسمية وتقوم على المساواة الجذرية بين المواطنين. في كتابه "كراهية الديمقراطية"، ينتقد الأنظمة التي تستخدم الديمقراطية كشعار لتبرير الهيمنة السياسية. - رؤيته الجذرية: الديمقراطية هي حالة من الصراع المستمر لضمان الحقوق، وليست نظامًا ثابتًا أو مكتملًا. - أطروحاته: يعتبر أن الديمقراطية لا تتحقق إلا عندما يتمكن الأفراد من تحدي الأنظمة القائمة وإعادة تعريف الحقوق. د) مارثا نوسباوم: حقوق الإنسان كركيزة للديمقراطية الشاملة : مارثا نوسباوم، الفيلسوفة الأمريكية، تشتهر بتطويرها "نهج القدرات" الذي يربط بين الديمقراطية وحقوق الإنسان. في كتابها "خلق القدرات"، ترى أن الديمقراطية الحقيقية هي تلك التي تضمن المساواة في الفرص وتلبي احتياجات الأفراد الأساسية لتحقيق حياة كريمة. أ) إسهاماتها: تركز على الأبعاد الإنسانية للديمقراطية، مثل تمكين المرأة، وحماية الفئات المهمشة. ب) الدروس العملية: تؤكد أن الديمقراطية لا تُقاس بعدد القوانين، بل بمدى قدرتها على تحسين حياة الأفراد وتعزيز كرامتهم. ه) ديفيد هيلد: الديمقراطية العالمية وحقوق الإنسان في عصر العولمة ركز ديفيد هيلد، الفيلسوف البريطاني، على مفهوم الديمقراطية العالمية كوسيلة لضمان حقوق الإنسان في ظل تحديات العولمة. في كتابه "نماذج الديمقراطية"، يعرض كيف يمكن تطوير أنظمة ديمقراطية جديدة تتجاوز الحدود الوطنية لمواجهة التحديات العالمية مثل التفاوت الاقتصادي والأزمات البيئية. - إسهاماته: يدعو إلى إنشاء مؤسسات دولية ديمقراطية تحمي حقوق الإنسان على مستوى عالمي. - أفكاره التطبيقية: يرى أن تحقيق الديمقراطية العالمية يحتاج إلى إعادة التفكير في مفهوم السيادة الوطنية، وتوسيع المشاركة الشعبية على المستوى الدولي. و) سلاڤوي جيجيك: نقد الديمقراطية الليبرالية:سلاڤوي جيجيك، الفيلسوف السلوفيني، يركز على التناقضات في الديمقراطية الليبرالية. في كتابه "العيش في أزمنة النهاية"، ينتقد الأنظمة التي تروج للديمقراطية كواجهة بينما تنتهك حقوق الإنسان. - إسهاماته الفكرية: الديمقراطية الليبرالية غالبًا ما تُستغل لتعزيز المصالح الرأسمالية، مما يؤدي إلى تهميش حقوق الفئات الضعيفة. - رؤيته النقدية: يدعو إلى إعادة صياغة الديمقراطية لتكون أكثر عدالة وشمولية، مع التركيز على مواجهة الأيديولوجيات المسيطرة. ختام - تُظهر أفكار هؤلاء المفكرين التنوع في تناول العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان، حيث تراوحت أطروحاتهم بين التحليل النظري والنقد العملي. تسلط أعمالهم الضوء على أهمية الديمقراطية كإطار لتعزيز حقوق الإنسان وتحقيق التنمية، لكنها تشير أيضًا إلى التحديات التي تواجهها الديمقراطية في السياقات الوطنية والدولية. علاقة لابد منها : - تعد العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد أعقد وأهم الموضوعات في الفلسفة السياسية المعاصرة. إذ تشكل الديمقراطية الإطار السياسي الذي يضمن احترام حقوق الإنسان، بينما تمثل حقوق الإنسان المعيار الأخلاقي الذي يعطي الديمقراطية قيمتها الحقيقية. هذه العلاقة ليست مجرد علاقة نظرية، بل تلامس جوهر كيفية تنظيم المجتمعات وتوزيع السلطة والموارد. ومع ذلك، فإن تحقيق هذا التكامل في الواقع العملي يواجه تحديات متعددة، منها اختلاف السياقات الثقافية والسياسية، والتفاوت بين الخطاب النظري والممارسات الفعلية. في هذا السياق، استحوذ الموضوع على اهتمام العديد من الفلاسفة والمفكرين المعاصرين، الذين سعوا لتحليل هذه العلاقة من زوايا مختلفة، تمتد من نقد الديمقراطية الليبرالية إلى استكشاف إمكاناتها كوسيلة لتحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية. في هذا العرض، نستعرض إسهامات ستة من أبرز المفكرين المعاصرين الذين قدموا رؤى عميقة حول كيفية تفعيل العلاقة بين الديمقراطية وحقوق الإنسان في عالم يزداد تعقيدًا وتغيرًا. الديمقراطية كإطار حاكم: المبادئ الأساسية ودورها في تحقيق حقوق الإنسان والتنمية المستدامة - تُعد الديمقراطية أكثر من مجرد نظام سياسي لتداول السلطة؛ فهي إطار شامل يضمن تحقيق العدالة، وتعزيز الحريات، وبناء مجتمعات مستدامة. إنها وسيلة لتنظيم العلاقات بين الدولة والمواطنين تقوم على أساس الحقوق المتساوية والواجبات المشتركة، مما يجعلها حافزًا للتنمية بجميع أشكالها. تعتمد الديمقراطية على مجموعة من المبادئ التي ترتبط جوهريًا بحقوق الإنسان والتنمية، وتُمثل حجر الزاوية لأي نظام حكم رشيد. وفيما يلي تحليل لهذه المبادئ الأساسية وأهميتها في تحقيق مجتمع متوازن ومتقدم. أ) سيادة القانون: أساس العدالة وضمان الحقوق : سيادة القانون هي الركيزة الأولى للديمقراطية، وتعني أن الجميع، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات، يخضعون للقوانين بشكل متساوٍ. هذا المبدأ ليس فقط أداة لتحقيق العدالة، بل أيضًا إطار يُعزز حقوق الإنسان عبر حمايتهم من الاستبداد أو التمييز. في السياقات الديمقراطية، يُسهم احترام القانون في استقرار المؤسسات وضمان الحريات، مما يُمكّن المواطنين من ممارسة أدوارهم المجتمعية بحرية. أما في السياق التنموي، فالقانون العادل والشفاف يُعد قاعدة أساسية لجذب الاستثمارات ودعم الاقتصادات المحلية، حيث يُطمئن المستثمرين بأن حقوقهم محمية. ب) فصل السلطات: آلية لضمان الشفافية والمساءلة: يُعتبر فصل السلطات بين التشريعية والتنفيذية والقضائية مبدأً حيويًا لمنع تركيز السلطة في يد جهة واحدة، مما يحمي الحقوق الفردية والجماعية. تُسهم هذه الآلية في تحقيق التوازن داخل النظام الديمقراطي، حيث تُراقب السلطات بعضها البعض، مما يُقلل من احتمالية الانتهاكات ويُعزز المساءلة. على مستوى التنمية، يخلق فصل السلطات بيئة مستقرة تضمن اتخاذ قرارات تخدم المصلحة العامة، مما يعزز ثقة المواطنين والمجتمع الدولي في النظام السياسي. - حماية الحقوق والحريات الأساسية: ركيزة الديمقراطية والتنمية : حقوق الإنسان هي الأساس الذي تُبنى عليه الأنظمة الديمقراطية. تشمل هذه الحقوق حرية التعبير، وحرية التجمع، وحقوق الأقليات، وغيرها من الحريات التي تُشكل حجر الزاوية لأي مجتمع عادل. تُمكن هذه الحقوق الأفراد من المشاركة الفعالة في صنع القرار، مما يؤدي إلى سياسات أكثر شمولية وعدالة. علاوة على ذلك، فإن ضمان هذه الحريات يُعتبر ضروريًا لتحقيق التنمية المستدامة، حيث يؤدي تمكين الأفراد والمجتمعات إلى إطلاق إمكاناتهم الكاملة في جميع المجالات. - المشاركة السياسية: تمكين المواطنين وبناء مجتمع فاعل : تُعد المشاركة السياسية مظهرًا رئيسيًا للديمقراطية، حيث يتمتع المواطنون بحقوقهم في التصويت، والترشح، والمشاركة في صنع القرارات التي تؤثر على حياتهم. لا تقتصر أهمية هذا المبدأ على تعزيز الشعور بالانتماء والمسؤولية بين المواطنين، بل تسهم أيضًا في تحسين جودة القرارات الحكومية من خلال تمثيل أوسع للفئات المختلفة. على مستوى التنمية، تُعتبر المشاركة السياسية أداة فعالة لتعزيز الشفافية وتحقيق الاستقرار المجتمعي، مما ينعكس إيجابيًا على النمو الاقتصادي والاجتماعي. - التنافسية والشفافية: ضمان نزاهة العملية الديمقراطية : تعتمد الديمقراطية على انتخابات حرة ونزيهة تُمكّن المواطنين من اختيار ممثليهم بشكل عادل. تُعد الشفافية في العملية الانتخابية أمرًا جوهريًا لبناء الثقة بين الدولة والمجتمع، وضمان تمثيل حقيقي لجميع فئات الشعب. ترتبط الشفافية أيضًا بالحوكمة الرشيدة، حيث تعزز المساءلة وتحد من الفساد، مما يُعتبر أمرًا أساسيًا لتحقيق التنمية المستدامة. - تعزيز التعليم والتوعية بالديمقراطية وحقوق الإنسان : لا يمكن تحقيق ديمقراطية قوية بدون وعي مجتمعي واسع بمبادئها وقيمها. يُسهم التعليم في نشر ثقافة الديمقراطية وحقوق الإنسان، مما يُمكّن الأفراد من فهم حقوقهم وواجباتهم والمشاركة الفعالة في الحياة العامة. - إن الديمقراطية ليست فقط إطارًا للحكم، بل هي نظام يُعيد تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطنين على أسس العدل والحرية والمساواة. تُعزز المبادئ الأساسية للديمقراطية حقوق الإنسان وتُمهد الطريق لتحقيق التنمية المستدامة. يتطلب تعزيز هذه المبادئ التزامًا جماعيًا من الحكومات والمجتمع المدني والمؤسسات التعليمية لضمان نظام يُلبي تطلعات جميع أفراد المجتمع، ويُواجه التحديات المحلية والعالمية بمرونة وكفاءة. حقوق الإنسان كهدف مشترك: تكامل جوهري مع الديمقراطية - تُمثّل حقوق الإنسان هدفًا مشتركًا يتجاوز حدود الثقافات والأمم، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالمبادئ الديمقراطية باعتبارهما وجهين لعملة واحدة. فبينما تسعى الديمقراطية إلى بناء نظام يضمن مشاركة الجميع في اتخاذ القرار، تُعنى حقوق الإنسان بحماية الكرامة الإنسانية وتعزيز الحرية والعدالة. هذه العلاقة ليست مجرد توافق نظري، بل تتجلى عمليًا في مسارات تكامل متعددة، أبرزها: أ) حماية الحقوق الفردية كركيزة للديمقراطية :الديمقراطية ليست مجرد آلية لانتخاب الحكام، بل هي إطار يضمن صون حقوق الأفراد وحرية التعبير والرأي. تُوفر الديمقراطية منصة قانونية وسياسية تُرسّخ حقوق الإنسان من خلال تشريعات قوية وآليات مستقلة. وعندما تُحترم هذه الحقوق، يصبح المواطنون قادرين على التعبير عن آرائهم بحرية، والمطالبة بحقوقهم، والدفاع عن كرامتهم دون خوف أو قمع. ب) المساءلة والشفافية كضمانة لحقوق الإنسان : في الديمقراطية، لا تُترك الحكومات لتتصرف دون رقيب، بل تُخضع لآليات شفافة ومساءلة دورية. الانتخابات الحرة، واستقلال الإعلام، ووجود مؤسسات رقابية فعالة، تُشكل جميعها أدوات أساسية لكشف أي انتهاك لحقوق الإنسان. هذا التفاعل بين الشفافية والمساءلة يُعزز من ثقة المواطنين ويمنحهم مساحة للتصدي للظلم والفساد، مما يجعل حقوق الإنسان ليست مجرد شعارات، بل واقعًا يوميًا يمكن الدفاع عنه. ج) الترابط بين الحريات الأساسية والسياسات العامة : حقوق الإنسان ليست مطالب فردية معزولة، بل هي قضايا محورية تمس السياسات العامة. في نظام ديمقراطي، تتحول الحقوق إلى قضايا عامة تُناقش في البرلمانات وتُدمج في السياسات الحكومية. على سبيل المثال، حق التعليم أو الرعاية الصحية ليس مجرد حق إنساني، بل هو أولوية سياسية تستوجب وضع استراتيجيات شاملة لتلبيتها. هنا، تُعزز الديمقراطية من فهم المجتمع بأن الدفاع عن الحقوق مسؤولية جماعية، وليست عبئًا على الأفراد وحدهم. د) التعليم والتوعية كأساس لتعزيز الوعي بالحقوق : في مجتمع ديمقراطي، تُعد التربية على حقوق الإنسان عملية محورية لبناء مواطنين واعين بحقوقهم وواجباتهم. تُساهم الديمقراطية في نشر الوعي عبر وسائل الإعلام الحرة، والنظام التعليمي المنفتح، والمنظمات المجتمعية الفاعلة. وبهذا، يتحول المواطن من متلقٍ سلبي إلى شريك فعّال في بناء مجتمع عادل يحترم الكرامة الإنسانية. الديمقراطية وحقوق الإنسان: رؤية مشتركة نحو المصلحة العامة - لا يمكن لأي نظام ديمقراطي أن يكون كاملاً دون احترام حقوق الإنسان، كما لا يمكن للحقوق أن تُصان دون وجود نظام ديمقراطي يضمنها. إنهما مساران متوازيان يهدفان إلى تحقيق مصلحة عامة شاملة، تتجلى في ضمان كرامة الفرد، وتعزيز العدالة الاجتماعية، وإرساء أسس الاستقرار السياسي. من هنا، فإن تكامل حقوق الإنسان مع الديمقراطية ليس رفاهية، بل ضرورة لبناء مجتمع حرّ ومستدام يُلبي طموحات أفراده ويحترم إنسانيتهم. التنمية كمؤشر للفاعلية: كيف تُقاس علاقتها بالديمقراطية وحقوق الإنسان؟ - التنمية، ذلك المصطلح الذي يزخر بوعود التغيير والتحول نحو مستقبل يحمل الخير والرخاء، لطالما كان محور نقاش عالمي يختبر قدرة الأنظمة السياسية على تحقيق تطلعات الشعوب. لكنها ليست مجرد وعد أجوف أو شعار براق؛ إنها اختبار حقيقي لمدى تماسك المجتمعات وقدرتها على صياغة مستقبلها. هنا يبرز السؤال الكبير: هل يمكن للتنمية أن تقف وحيدة كغاية مستقلة، أم أن طريقها محفوف بشراكة حتمية مع الديمقراطية وحقوق الإنسان؟ - العلاقة بين هذه العناصر تبدو أشبه بشبكة معقدة؛ كل خيط فيها يدعم الآخر، فإذا سقط أحدها اهتز البناء بأكمله. هل يمكننا تحقيق تنمية حقيقية في غياب احترام الحقوق الأساسية للإنسان؟ وهل الديمقراطية، بوصفها إطارًا للحكم الرشيد، قادرة وحدها على دفع عجلة التنمية دون رافعة حقوق الإنسان؟ أم أن هذه العلاقة تكشف، في جوهرها، عن فجوات تظهر عندما يغيب التوازن المطلوب بين هذه الركائز؟ - الأسئلة كثيرة، وكل إجابة تُشعل نقاشًا أعمق حول كيفية قياس هذا التكامل. كيف نميز بين التنمية الحقيقية وتلك التي تُصمم لتزييف الواقع؟ وما الذي يحدث عندما تتحول التنمية إلى أداة تُستخدم لتبرير انتهاك الحقوق، أو عندما تُفرغ الديمقراطية من محتواها وتصبح مجرد واجهة بلا روح؟ - دعونا نغوص في أعماق هذه العلاقة المترابطة، ونتناول جدلية التنمية والديمقراطية وحقوق الإنسان عبر محاور تُعيد صياغة الفهم التقليدي وتفتح الأفق لرؤية شاملة تُظهر كل الأبعاد الخفية لهذه الشراكة الحاسمة. أ) مؤشرات التنمية الشاملة: أين تتفوق الديمقراطية؟ : هل يمكن اعتبار الناتج المحلي الإجمالي أو نسب التعليم أو حتى معدلات الفقر أرقامًا محايدة؟ الحقيقة أن هذه المؤشرات ليست سوى انعكاس للسياسات التي تُنفذها الأنظمة. الأنظمة الديمقراطية تُظهر عادة تفوقًا في هذه المؤشرات، ليس فقط لأن الديمقراطية تُلزم الحكومات بالاستماع لمواطنيها، بل لأنها تُؤسس آليات تحاسب القادة عند التقصير. في المقابل، الأنظمة الاستبدادية قد تنجح في بعض المؤشرات، لكنها تُخفي تحت السطح فسادًا وهيمنة تؤدي إلى انعدام استدامة هذه التنمية. ب) رأس المال البشري: القوة الدافعة للتنمية : هل يمكن للتنمية أن تزدهر في غياب استثمار حقيقي في البشر؟ في الديمقراطيات، يتمتع المواطنون بحقوقهم الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية، مما يجعلهم أكثر قدرة على المساهمة في الاقتصاد والمجتمع. الأنظمة الديمقراطية، بفضل طبيعتها التشاركية، تُلزم نفسها بالاستثمار في الإنسان باعتباره عمود التنمية، بينما الأنظمة غير الديمقراطية قد ترى في البشر مجرد أدوات لتحقيق أهداف ضيقة. ج) المشاركة الاقتصادية والاجتماعية: هل الشمولية هي الحل؟ : في المجتمعات الديمقراطية، يتمتع الأفراد بفرص متساوية للمشاركة في صنع القرار وفي توزيع الثروة. لكن هل يمكن تحقيق ذلك في الأنظمة التي تُقصي فئات كبيرة من المجتمع؟ التنمية الحقيقية تتطلب شمولية تُتيح للجميع فرصة التعبير عن احتياجاتهم والمساهمة في صياغة السياسات. فهل يمكن لاقتصاد يقتصر على خدمة القلة أن يدّعي تحقيق التنمية؟ د) الشفافية ومكافحة الفساد: حجر الزاوية في التنمية : ما الذي يقتل التنمية في مهدها؟ الفساد وانعدام الشفافية هما الإجابة الواضحة. في الأنظمة الديمقراطية، تُوفر آليات رقابة فعّالة تُرغم الحكومات على استخدام الموارد بشكل عادل وشفاف. أما في الأنظمة الاستبدادية، فغياب المساءلة يجعل من التنمية مجرد شعار يُستخدم لتبرير استغلال الموارد. ذ) الاستقرار السياسي والاجتماعي: بيئة خصبة للتنمية هل يمكن للتنمية أن تزدهر في ظل الحروب أو القمع أو الصراعات السياسية؟ الديمقراطية تُوفر إطارًا يسمح بالتفاوض السلمي وحل النزاعات، مما يخلق بيئة مستقرة تُشجع على الاستثمار والتنمية. على العكس، الأنظمة غير الديمقراطية تُغذي الانقسامات، مما يجعل من المستحيل تحقيق تنمية حقيقية. ر) العدالة الاجتماعية: بين الطموح والواقع : كيف يمكن للتنمية أن تكون عادلة دون تحقيق المساواة والإنصاف؟ الديمقراطيات تُعزز العدالة الاجتماعية من خلال نظم قانونية تحمي الفئات المهمشة، بينما الأنظمة الاستبدادية غالبًا ما تترك هذه الفئات في الهامش، محرومة من حقوقها وفرصها في التنمية. ز) التنمية وحقوق الإنسان: شراكة ضرورية : كيف يمكن لفكرة حقوق الإنسان أن تُعزز التنمية؟ عندما تُحترم الحقوق، يُصبح الأفراد أكثر قدرة على المساهمة في المجتمع، سواء عبر التعليم أو العمل أو الابتكار. تشير الدراسات إلى أن الدول التي تُدمج حقوق الإنسان في سياساتها التنموية تُحقق نتائج أفضل في التنمية الشاملة. س) أمثلة وتجارب عملية: من أين نتعلم؟ النموذج الاسكندنافي يُقدّم مثالًا واضحًا على التكامل بين الديمقراطية والتنمية وحقوق الإنسان. هذه الدول حققت تقدمًا هائلًا في التنمية البشرية، مقارنة بدول أخرى تعتمد على نظم استبدادية، حيث الفقر والنزاعات هما السائد. فهل يمكن أن نتجاهل هذه الدروس؟ خاتمة : - هل يمكن للتنمية أن تكون عادلة دون ديمقراطية؟ وهل يمكن للديمقراطية أن تستمر دون احترام حقوق الإنسان؟ أم أن غياب أي من هذه العناصر يُحوّل التنمية إلى واجهة فارغة، تفتقر إلى جوهرها الحقيقي؟ هذه الأسئلة ليست مجرد تأملات نظرية، بل هي دعوة للتفكير في مستقبلٍ يربط بين الكرامة الإنسانية والتنمية الشاملة في سياق ديمقراطي عادل.
#خليل_إبراهيم_كاظم_الحمداني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الديمقراطية وحقوق الإنسان والتنمية جدلية العلاقة وتحديات الت
...
-
المجال العام والحق في المدينة: قراءةٌ نقديةٌ لـ هايبرماس ولو
...
-
الهشاشة المتقاطعة: العنف ضد النساء من الأقليات والفئات المست
...
-
إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين
...
-
إرث الأدوار: رحلة الجندر في مجتمع مأزوم ((حيرة الجندر الحزين
...
-
المثقفون في زمن الإلتباس : هل خانوا الكلمة أم خانتهم الكلمة؟
-
أنياب السياسة وقضم حقوق الإنسان
-
-انحدار تصنيف المفوضية العليا لحقوق الانسان في العراق: هل ست
...
-
“العالم بين الرؤية الاقتصادية ورؤية حقوق الإنسان- محاولة بنا
...
-
الارتداد العنيف ضدّ المساواة بين الجنسين دراسة في الديناميكي
...
-
العدالة المناخية: حقّ إنسانيّ في مواجهة تحديات القرن الحادي
...
-
-العدالة المعطوبة: لماذا تدمر انتهاكات حقوق الإنسان أساس الم
...
-
في محنة الفلسفة المعاصرة: -الدولة وحقوق الإنسان- من يحرس الح
...
-
هل اصبحت حقوق الإنسان... رفاهية لم تعد الدول تتحملها؟ ماذا ل
...
-
ثمار الظلم: كيف تؤثر انتهاكات حقوق الإنسان على مستقبلنا؟
-
-نهج حقوق الإنسان: هل هو الإطار المثالي لتحقيق العدالة الاجت
...
-
وعدٌ مُلزمٌ أم حبرٌ على ورق؟ دوافع انضمام الدول لمعاهدات حقو
...
-
الصوت العربي في تشكيل إطار حقوق الإنسان مساهمات في صياغة الإ
...
-
برئاسة عربية لمجلس حقوق الانسان .. قرارات استثنائية لقضايا ع
...
-
فلسطين الأم الحالمة وبشارات وداع رمضان
المزيد.....
-
مصر.. حكم بالإعدام شنقا للمتهم في قضية -غدر الأصدقاء- وعقوبة
...
-
السعودية تتصدر الشرق الأوسط في تصنيف جديد للأمم المتحدة
-
بيربوك تلمح إلى إمكان اعتقال نتنياهو في حال دخوله إلى ألماني
...
-
لماذا أيدت الصين قرار اعتقال نتيناهو؟
-
مع قرب الذكرى الخامسة لمجزرة الزيتون.. اعتقال الناشطة دعاء ا
...
-
مليون ونصف نازح سوداني يواجهون خطر المجاعة مع شح المساعدات
-
وزير حرب الاحتلال: يجب منع تحول الضفة ومخيمات اللاجئين الى ن
...
-
ثالوث الموت يتربص بنازحي غزة والأونروا تدق ناقوس الخطر
-
البرد وغرق الخيام والأوبئة تفاقم معاناة النازحين في غزة
-
بريطانيا: سنتبع -الإجراءات الواجبة- بشأن مذكرة اعتقال نتنياه
...
المزيد.....
-
مبدأ حق تقرير المصير والقانون الدولي
/ عبد الحسين شعبان
-
حضور الإعلان العالمي لحقوق الانسان في الدساتير.. انحياز للقي
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
فلسفة حقوق الانسان بين الأصول التاريخية والأهمية المعاصرة
/ زهير الخويلدي
-
المراة في الدساتير .. ثقافات مختلفة وضعيات متنوعة لحالة انسا
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نجل الراحل يسار يروي قصة والده الدكتور محمد سلمان حسن في صرا
...
/ يسار محمد سلمان حسن
-
الإستعراض الدوري الشامل بين مطرقة السياسة وسندان الحقوق .. ع
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
-
نطاق الشامل لحقوق الانسان
/ أشرف المجدول
-
تضمين مفاهيم حقوق الإنسان في المناهج الدراسية
/ نزيهة التركى
-
الكمائن الرمادية
/ مركز اريج لحقوق الانسان
-
على هامش الدورة 38 الاعتيادية لمجلس حقوق الانسان .. قراءة في
...
/ خليل إبراهيم كاظم الحمداني
المزيد.....
|