|
التراجع الحضارى وغياب لغة الحوار
خيري فرجاني
الحوار المتمدن-العدد: 8169 - 2024 / 11 / 22 - 01:56
المحور:
قضايا ثقافية
لابد ان تكون لدينا الشجاعة الكافية كى نعترف أن الدولة المصرية قد اهملت ثقافتها لسنوات طويلة، وأن الشعب المصري قد اهمل اهم جوانب تميزه وتفرده بين الشعوب، وهى الثقافة بكل جوانب الابداع- فيها- فقد كان التواجد الثقافى المصرى - بحق- نورا يشع فى كل انحاء المنطقة العربية وغيرها من البلاد الاخرى المجاورة، ولهذا اكتسبت الثقافة المصرية دورها الريادى ومسئوليتها فى قيادة المنطقة العربية، ولكن الآن لانجد اصداء لهذه الثقافة ولهذا الدور لمصر خارج حدودها، فهى الآن فقيرة ومحدودة القيمة والأثر. ان الثقافة الحقيقية تظهر فى لغة الحوار، فى المنزل وفى الشارع فى الجامعات والمدارس وعلى المقاهى وفى كل مكان، وحين ينحدر مستوى الحوار بين ابناء الشعب وتسود كلمات هابطة فيما يجرى بينهم من حوار، فإن هذا يمثل تراجعا ثقافيا، علينا ان ننظر للغة الحوار فى السينما المصرية والأعمال الدرامية بصفة عامة، وما يدور بين الممثلين من حوارات هابطة واسفاف. فقد كنا مجتمعا اقل تدينا ولكن كنا اكثر احتراما واكثر ثقافة ورقيا، الآن اصبحنا اكثر تدينا ولكن اقل احتراما واقل ثقافة. إن تراجع لغة الحوار سواء فى الحوارات العادية أو فى الأعمال الفنيية أو الأدبية يؤكد على وجود ثمة خلل ثقافى وحضارى واخلاقى، وما نشهده الآن ونعيشه من واقع اخلاقى فى حياة المصريين والذى يبدأ بالكلام وينتهى بلاعتداءات والجرائم يعكس غيابا حقيقيا للثقافة فى حياة الناس، إن ما تنشره الصحف والمجلات من فضائح اخلاقية وتجاوزات سلوكية لم تكن ابدا فى يوم من الأيام تمثل واقع الأخلاق والفضائل المصرية التى عاشوا عليها منذ مئات السنين. إن تراجع مستوى الأخلاق يعنى هبوط المستوى الثقافى والفكرى للمصرين، فلم تكن مصر فى يوما من الأيام بهذه الحالة من الانفلات الأخلاقى والسلوكى، نحن امام فوضى عارمة فى السلوك وامام فوضى ليست اقل حالا من سابقتها فى لغة الحوار، وأمام فوضى لم يكن لها مثيل من قبل فى الفتاوى سواء الشاذة او المتشددة، إلا منذ ظهور التيارات الأصولية المتشددة، نحن – بحق- أمام تراجع رهيب فى منظومة القيم الأخلاقية بصفة عامة، بحيث لم تعد هناك جهة قادرة على أن تحسم الخلافات بين الآراء المتصارعة، ولم يعد هناك ضمير جمعى واع وعادل يستطيع أن يضع الأشياء فى نصابها الطبيعى. فمنذ سيطرت الفوضى على سلوكيات الشارع المصرى تراجع دور الثقافة والحكمة والموضوعية، ومن ثم انعكس ذلك كله على منظومة العلاقات بين ابناء الوطن الواحد، ابتداء بالأسرة ومرورا بالفرق الأصولية المتناحرة وانتهاء باغتيال وقتل شركاء الوطن من الأقباط وحرق وتفجير كنائسهم وبيعهم، ان هذه الانقسامات الحادة بين ابناء الوطن الواحد كانت سببا مباشرا فى فساد لغة الحوار وتراجع المستوى الأخلاقى والثقافى والحضارى والانساني بصفة عامة. إن مايتلقاه الشعب المصرى فى المسلسلات والافلام الهابطة واغانى المهرجانات الفوضوية، وما يشاهده صباح مساء من فضائح اليوتيوب والفيس بك وكل أدوات التواصل الاجتماعى الحديثة، كل ذلك افرز مستنقع كبير من التخلف والجهل والتراجع الأخلاقى والثقافى والحضارى والسلوكي بصفة عامة. ليس ثمة شك أنه حينما تراجع دور الثقافة فى حياتنا كان التطرف والإرهاب والفكر الأصولى بصفة عامة هو البديل الطبيعى والمنطقى ليحل محل الثقافة والتحضر، وحين فسدت لغة الحوار واصبحت هابطة كان العنف هو الحل الأمثل، فحين غابت الثقافة حاصرتنا حشود الإرهاب الغاشم بالأفكار الظلامية وبالتطرف والإرهاب والقتل والتخريب والدمار، وفى كل الحالات وبصراحة شديدة ووضوح حين أهملنا العقل المصرى كان الإرهاب فى النهاية هو المطاف، وكان التطرف هو الثمار المرة التى جنيناها من سطحية الفكر وانحطاط لغة الحوار وغياب قيمة العقل فى حياتنا، بعد ان سلمنا عقول شبابنا لجماعات الإسلام السياسي تعبث به وتوجهه وتسيطر عليه من خلال الزوايا المنتشرة في كل مكان والتي اصبحت بمثابة المنابر الثقافية البديلة لقصور الثقافة التنويرية ومسارح الشباب والصالونات الأدبية وغيرها من المنابر الثقافية المختلفة. نحن بحق أمام ثقافة تراجع دورها وتخلت عن مسئوليتها، مما ترتب عليها آثار ضارة فى كل شئ في حياتنا الخاصة والعامة، ومن ثم لم يعد أمامنا من سبيل إلا بالرجوع بهذه الثقافة إلى جذورها الأصيلة حتى يمكن أن تتخلص من كل ما لحق بها من علل وأمراض فتاكة، نحن نريد ان نتخلص من ثقافة تقديس وحب الموت والخوف من عذاب القبر والثعبان الأقرع وامتلاك الحقيقة المطلقة ورفض وعدم قبول الآخر، ونتحول إلى ثقافة تقديس وحب الحياة والإقبال على العمل والاجتهاد والتعايش السلمي ونبذ العنف وقبول الآخر. أقول بكل صراحة ووضوح ودون أدنى مواربة، إذا كانت العهود السابقة قد فرطت فى دور مصر الثقافى وفى الثقافة المصرية التنويرية المتحضرة، وارست قواعد الأصولية المتطرفة وسيطرة ثقافة النقاب والجلباب القصير والحرفية فى فهم النصوص والأمية والتخلف والجهل وزاوج القاصرات وجهاد النكاح ونكاح الموتى وارضاع الكبير، وغيرها من الموروثات والفتاوى الشاذة والمتشددة التى لايقبلها عقل أو دين، هذه الموروثات الدخيلة على ثقافتنا المستوردة المعبرة عن ثقافة اصبحت هى الآن السائدة فى مجتمعاتنا، بعد ان حدث التوافق المسستر بين الأنظمة السابقة والتيارات الأصولية المتشددة المعروفة بجماعات الإسلام السياسي، من خلال ممارسة العمل العام سياسيا واجتماعيا حتى اخترقت جميع اجهزة الدولة بداية من المجالس النيابية التشريعية وانتهاء بتقديم الخدمات العامة التي عجزت الدولة عن تقديمها في ظل التحول إلي آليات السوق، وانسحاب الدولة من هذا المجال الاجتماعي والثقافي. نحن الآن وبحق نعيش ثقافة عصر الانحطاط التى احيتها واشاعتها جماعات الإسلام السياسى والنظام الذى تحالف معها عن تواطئ كان أو عن ضعف واستجداء طوال العقود الماضية، من خلال عقد الصفقات السياسية المشبوهة خاصة مع جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية، التى اعلنت الحرب على النهضة الحضارية والثقافة المصرية التنويرية، ومن ثم ارست ودعمت لنا قواعد وقلاع الإرهاب الفكرى والمادى والفوضى والتخلف والجهل، ومن ثم تغلغل التطرف والإرهاب بأفكاره وسمومه فى كل شبر من ارض الوطن بحيث اصبح من الصعوبة بمكان القضاء عليه. لمصلحة من تم ذلك؟ بكل صراحة ووضوح هناك شبه تواطؤ قد تم لجعل افكار داعش وغيرها من المنظمات الإرهابية المتطرفة تسود، بحجة اننا لانكفر من نطق بالشهادتين في حين يكفر ويسب اصحاب الديانات الأخرى، وعلى وجه الخصوص شركاء الوطن من الأقباط بحيث لا يواجهوا إلا بالتجهم والعبوث باعتبارهم كفارا، لمصلحة من نعيش بفكر أهل العصور الوسطى فى ظل غياب مظاهر التحضر، كيف نتحدث عن تجديد الخطاب الدينى ونحن نكرس لخطاب الجهل والتخلف، من خلال غياب الفن الراقى وثقافة التحضر والتنوير لصالح ثقافة العنف والتكفير واقصاء الآخر. نحن نعيش عصر الفوضى الخلاقة حيث الأوطان تفكك والثوابت تهدم والشعوب تقع فى مستنقع الفتن وتغرق فى دائرة العنف والعقول تسهر فى بوتقة الأصولية المتوحشة، كل ذلك يحصل بأيدي الجماعات الأصولية المتطرفة التى ترفض مفهوم الدولة الوطنية لصالح دولة الخلافة المزعومة حتى وإن كانت خلافة البغداى. لابد ان يعود للثقافة دورها الحقيقى فى نفوسنا وضمائرنا وأن يرجع إلى المثقفون دورهم الريادى التنويرى، دون خجل أو وجل من المؤسسات الدينية الرسمية التى مازالت مصرة على ان تصدر خطابا اصوليا يحمل طابعا عنصريا اقصائيا، لابد أن نحيي منظومة القيم التى عشنا عليها زمنا طويلا، قيمنا المصرية الأصيلة النابعة من كل حارة ونجع وقرية، تلك القيم التى تراجعت لحساب قيم مستوردة بطابع "البتروإسلام" ظلت مصر مسلمة بدون نقاب أو جلباب قصير أو مسواك. إن الثقافة فى حقيقتها اخلاق وقيم وترفع وضمائر حية نابضة مشعة بضياء المعرفة والتنوير، اننا لا نختلف على اهمية وضرورة الارتقاء بالجوانب الاقتصادية والاستثمار ومشروعات الخدمات، لأنها اشياء جد ضرورية ولكن اهمال الثقافة يعنى اهمال العقل، والواقع الذي لا مناص عنه أن العقل هو الثروة الحقيقية للشعوب مهما تعددت مواردها يظل العقل هو اعظم استثمار. إن الدولة الآن تضع اولويات لمشروعات الخدمات كالطرق والمساكن والمجارى، وهذه المجالات تستهلك معظم الموارد ولكن هذا لا يعنى ابدا اهمال الاستثمار الثقافى فى بناء العقول، وترويج الفن الجميل الراقى وتوفير مناخ ابداعي يشجع على العمل والانتاج والتنمية، فإنك إذا اردت التعرف على مدى تحضر شعب انظر إلى انتاجه الفنى والثقافى والأدبى، فالفن والثقافة والأدب افضل معبر عن وعى الشعوب وتحضرهم. والسؤال الذى يفرض نفسه ويجب طرحه بصفة رئيسية، هو: لماذا عجزت المجتمعات العربية، ومنها مصر عن التكيف مع معطيات الحياة والتقدم الحضارى فى العصر الحديث؟ لأنه - وببساطة شديدة - قد مر بالعرب والمصريين دورات حضارية كثيرة لم يستفيدوا منها وظلوا لوقت ليس بالقليل فى تراجع حضارى وثقافى، فى حين بدأت اوروبا دورات حضارية متعاقبة ومتسارعة، بحيث اصبح من الصعوبة بمكان اللحاق بهم، هذه الدول تقدمت حينما اراد المجتمع كله ان ينهض ويتعلم من خلال منهجا علميا تنويريا واضحا تم الربط فيه بين العلمانية والمعرفة والعلم والحرية الدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ومن ثم، لابد من احداث نهضة ثقافية شاملة لكل مناحى الحياة حتى يمكن أن نعيد لمصر ثقافتها وبريقها ودورها الريادى البارز، لأن الثقافة هى روح الأوطان واقدار الشعوب والأمم، ومنذ فرطنا فى ثقافتنا - دورا وابداعا وسلوكا وقيما - سقطت اجمل الأشياء فينا واصبحنا فريسة للأفكار الأصولية الهدامة، واصبحنا وطنا عاديا مثل كل الأوطان، لأن الثقافة كانت وستبقى هى رصيد مصر الحقيقى، اعيدوا لمصر ثقافتها فمصير مصر امانة فى اعناق مثقفيها، فمصر الآن تمر بلحظة مخاض- عصيب- لتحول اقتصادى وسياسي وثقافى واجتماعى بالغ الأهمية.
#خيري_فرجاني (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
مدنية الدولة
-
التسامح والتعددية الثقافية
-
المساواةوتكافؤ الفرص
-
المواطنة
-
حقوق الإنسان من خلال المواثيق والعهود الدولية الحديثة
-
أثر الجيل الرابع من الحروب على اقتصاديات الدول
-
دور منظمات المجتمع المدنى في عملية التحول الديمقراطى في مصر
-
جدلية العلاقة بين الدين والفن
-
دور التنمية الاقتصادية في تحقيق الرفاهية والاستقرار:
-
الار هاب الفكرى (الأسباب.. النتائج.. الحل)
-
التنظيم الخاص والاغتيالات السياسية في منهج الإخوان:
-
مبدأ الفصل بين السلطات
-
الإسلام السياسي وديمقراطية الاجتثاث:
-
جدلية العلاقة بين الدين والتنوير
-
مفهوم الفردانية في الفكر السياسي الحديث
-
الليبرالية في مواجهة الأصولية
-
محمود عساف مؤسس مخابرات الإخوان:
-
أهمية توطين صناعة السفن في مصر:
-
الأطر المحددة لبنية النظام العربي
-
أهم التحديات التي تواجه المنطقة العربية
المزيد.....
-
ضحى بسلامته لأجلها.. صبي يقوم بتصرف بطولي لحماية شقيقته من ح
...
-
لماذا اعتذر بينسون بون بعد أدائه المذهل في حفل توزيع جوائز غ
...
-
تونس: أحكام مشددة بحق الغنوشي و المشيشي وصحافيين بتهمة -المس
...
-
-ما الأفضل من ذلك؟-.. اليمين المتشدد في إسرائيل عن خطة ترامب
...
-
هل تخلت واشنطن عن محاربة داعش؟ حديث عن نهاية وشيكة للوجود ال
...
-
غزة بين الدمار ونقص المساعدات: سكان القطاع يكافحون لتلبية اح
...
-
عقد هاري كين مع بايرن ميونيخ..بند خاص يُحدد مصيره!
-
سائقو التاكسي يطالبون بحرية قضاء الحاجة!
-
بتهمة -المساس بأمن الدولة-.. أحكام مشددة بحق الغنوشي وصحافيي
...
-
-واشنطن بوست-.. هل تتحول غزة إلى ساحة تطهير عرقي وصراع دولي؟
...
المزيد.....
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
مقالات في الثقافة والاقتصاد
/ د.جاسم الفارس
-
قواعد اللغة الإنكليزية للأولمبياد مصمم للطلاب السوريين
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
أنغام الربيع Spring Melodies
/ محمد عبد الكريم يوسف
المزيد.....
|