|
طقوس الشاي في الصين واليابان القديمتين
عضيد جواد الخميسي
الحوار المتمدن-العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 18:58
المحور:
المجتمع المدني
لا يزال مشروب الشاي هو الأكثر شعبية في العالم . فقد كان أول من تذوقه الرهبان الصينيون لمساعدتهم في الاعتكاف والتأمّل ، ومن ثم الأشخاص الذين يعرفون خصائصه الطبية؛ إلا أنه سرعان ما توسع في انتشاره إلى حضارات شرق آسيا الأخرى، وخاصة اليابان . كما تطورت طرائقه المتقنة في إعداده واستهلاكه التي سعت إلى تعزيز تقدير وجمال الترف البسيط في الحياة. إضافة إلى أن شاربو الشاي كانوا يتباهون بأذواقهم الرفيعة وثرواتهم الفاحشة علناً ليس فقط من خلال تقديم مشروب باهظ الثمن ؛ بل ومن خلال استخدامهم أفضل أقداح الخزف لإحتسائه !. بسبب الكتب التي ألفّها خبراء الشاي حول كيفية التعامل والاستمتاع بالشاي ذي النكهة المميزة، والقصائد التي تصف خصائص ذلك المشروب؛ تطورت طرق شرب الشاي إلى أعراف وتقاليد كان يجب اتباعها . وبالتالي، صار تناول الشاي وسيلة سهلة للهروب ولو للحظة من مصاعب الحياة اليومية المزدحمة، وهو نفس السلوك الذي لا يزال يُتبع في تناول الشاي بالنسبة للعديد من الناس في الوقت الحاضر .
أسطورة الشاي في التقاليد الصينية واليابانية، يُنسب اكتشاف الشاي إلى الحكيم الهندي "بوديداهارما" (ويُعرف أيضاً باسم ـ داروما)، مؤسس بوذية چان ، وهي أساس بوذية زن . إذ تنقّل بوديداهارما بين مناطق عدة لنشر عقيدته الجديدة، حيث أسس معبد شاولين في جنوب الصين (شورينجي عند اليابانيين). مكث الحكيم بوديداهارما جالساً في التأمّل بمواجهة حائط ذلك المعبد مدة تسع سنوات؛ سعياً منه في التحول إلى كائن مستنير. وبعد أن قضى تلك الفترة الطويلة دون حراك ؛ ذبل جسده واستسلم للنوم دون أن ينهي مسيرته في التأمّل، ولمّا استيقظ من نومه غضب بشدة لخسارته لحظة التنوير؛ فقام بفقء عينيه ورميهما على الأرض. وبعد أيّام نمت في ذلك المكان شجيرة اسمها "چاي" .
المشروب الطبي والمنشّط السلعي يُطلق على الشاي عدة أسماء: "چا " في الصينية واليابانية ، أو" چاي" في الهندية والأوردية. وربما اُشتق الاسم الإنگليزي للشاي (تي Tea) من كلمة " تَ أو ته Te" المنطوقة في إقليم " فوجيان"الذي يقع جنوب شرق الصين . ويُحضّر الشاي بإضافة الماء الساخن إلى الأوراق الصغيرة مع براعم أوراق نبات "كاميليا سينينسيس" الذي ينمو في جنوب غرب الصين . كان الرهبان البوذيون أول من استخدموا الشاي منذ حوالي القرن الثاني قبل الميلاد ليحفزهم في التأمل ويمنع عنهم النوم . كما كان يُعتقد أن الشاي يمتلك خصائص طبية، وكان أحدها علاج صداع الكحول . وخلال عهد أسرة تانگ (عام 618-907 م) انتشر الشاي خارج المعابد وأصبح مشروباً رائجاً بين الإقطاعيين الذين باستطاعتهم شراء مثل هذه السلعة الباهظة الثمن دون غيرهم . كما أصبح الشاي عنصراً مهماً في الاقتصاد ، حيث خُصصت المساحات الكبيرة في جنوب شرق البلاد لزراعة الشاي وتوفير عائدات ضريبية عالية للحكومة من بيعه. وكان تجّار الشاي الذين كانوا يصدرونه إلى دول آسيوية أخرى، من بين أغنى رجال الأعمال في الصين .
تأثير الشاي في الثقافة أدى اتجاه شرب الشاي إلى ازدهار صناعة اباريق الخزف الفاخر الذي يفضل الناس استخدامه في خلط وإعداد الشاي ومن ثم تناوله. كما كانت الأواني التي يستخدمونها لتخزين أوراق الشاي تكثر فيها الزخارف ذات الألوان الزاهية. وكان أحد أكثر منتجي أباريق الشاي شهرة وتقديراً هو "ييشنگ" من اقليم جيانگسو. وفي ثقافة الصين ؛كانت مظاهر الثراء الباذخة يُنظر إليها باستياء على أنها سلوك مبتذل، إلا أن استخدام وعاء شاي خزفي بسيط لكنه باهظ الثمن كان هو كل ما يلزم لإظهار مستوى الثراء. لقد أصبح شرب الشاي جزءاً لا يتجزأ من الثقافة الصينية حتى أنه أخذ يُذكر في النشاطات الفنية والأدبية . وهنا قصيدة مشهورة للشاعر الصيني "لو يو" الذي كتبها في القرن الثامن الميلادي حول عدد من الخطوات والقواعد التي يجب اتباعها عند شرب الشاي . والقصيدة عبارة عن رسالة شكر من "لو يو" لصديقه الذي بعث إليه علبة من الشاي الطازج كهدية ، وأدناه مقطع منها : لاحترام الشاي؛ أغلقتُ بوّابة الحطب .. ذلك لإبعاد المتطفلين من الناس .. ارتديت قلنسوتي الناعمة .. ثم أعددته لأتذوقه بنفسي .. القدح الأول بلّل الحلق والشفتين بِسلاسة.. القدح الثاني قضى على وحدتي .. القدح الثالث طرد بلاهة عقلي .. شحذ الإلهام فِيَّ من جميع الكتب التي طالعتها .. القدح الرابع جلب لي عَرَقاً خفيفاً .. بددّ آلام عمري من خلال مساماتي .. القدح الخامس طهّر كل ذرّة في كياني .. القدح السادس جعلني أقرب إلى الخالدين .. القدح السابع هو أقصى ما أستطيع أن أحتسيه !. ( إيبري،ص 95)
الإنتشار إلى جانب الممارسات الثقافية الأخرى، انتقل استهلاك الشاي من الصين إلى دول شرق آسيا المجاورة مثل مملكة سيلا في كوريا، إلا أن الشاي لم يكن معروفاً لدى اليابان حتى القرن الثامن الميلادي . فقد كان الرهبان البوذيون اليابانيين هم أول من تذوقوا الشاي، ولم يصبح الشاي رائجاً في دولتهم إلا في حوالي عام 1200 ميلادي . وطالما كانت شجيرات الشاي الصينية أجود من تلك الموجودة في اليابان، لذا أخذ اليابانيون باستيراد كامل الشجيرات وليس فقط الأوراق المنزوعة منها . في اليابان، كان يتم تحضير الشاي عادة عن طريق هرس الأوراق وصنع كرة من "الآمازورا " ثم تركها لتتخمر في الماء الساخن . وخلال القرن الثالث عشر الميلادي ،افتتحت مدارس متخصصة في الشاي وكان المتذوقون يحتفظون بأفخر أقداح شرب الشاي .
حفلات الشاي على الرغم من أن الطقوس والاحتفالات التي تطورت عند تقديم الشاي قد نشأت في الصين، إلا أن اليابانيين جعلوها مرادفة لثقافتهم . حيث يُطلق على حفل الشاي الياباني اسم "چانويو chanoyu" ، بمعنى "ماء ساخن للشاي"، أو چادو chado وأيضاً سادو sado ، بمعنى "طريقة الشاي". وكانت حفلات الشاي اليابانية يعمّها الهرج والمرج، بسبب ضيوف الحفل الذين كانوا يتبارون فيما بينهم لمعرفة نوع الشاي الذي يشربونه ، ولكن الحاكم العسكري "شوگون أشيكاگا يوشيماسا" في القرن الخامس عشر الميلادي؛ وضع حداً لكل هذا وجعل الأمر برمته مناسبة يتسم طابعها بالسكينة والهدوء ، مما وفرّ للطبقة الحاكمة بيئة خصبة لإجراء محادثات سياسية حاسمة. ويجسد هذا الحفل التقليد الجمالي الياباني المعروف باسم "وابي" ، وهو القيمة المعطاة لتقدير الجمال والبساطة في الممارسات اليومية. ويعود ممارسة تقليد " وابي" في الحفلات إلى سيد الشاي "سين نو ريكيو" (عام 1522-1591 ميلادي) . إذ كان ريكيو سيد حفلات الشاي التي يقيمها أميرا الحرب " أودا نوبوناگا" و "تويوتومي هيديوشي" ، كما دعا لاستخدام الزهور المنسقة بعناية ( إيكيبانا ) لخلق أجواء جميلة وهادئة عند تناول الشاي . ويبدو أن أسياد ريكيو لم يكونوا يصغوا إليه دائماً؛ فقد أقام "هيديوشي " حفلة شاي بدعوة 800 ضيف لإعلان انتصاره في كيوشو عام 1587 ميلادي !. كان أول ما ينبغي على المرء فعله عند تناول الشاي هو أن يضع نفسه في المكان الصحيح . وبالنسبة لليابانيين كان ذلك هو غرفة الشاي المخصصة "چاشيتسو" ، والمعروفة أيضاً باسم " سوكييا" أو "البيت الغير كامل"، في إشارة إلى التصميم المعماري المتواضع . فقد كانت السقوف مصنوعة من الخيزران والقش، وكانت أعمدة الإرتكاز غير مزخرفة، والجدران مشيّدة من الطين . وكان هذا المبنى الريفي مستقلّاً تماماً عن المنزل الرئيسي ؛مما يضفي طابعاً أرستقراطياً على الحفل ، حيث كان من الواضح أن الأثرياء فقط هم من يستطيعون تحمّل تكلفة مثل هذا الملحق الإضافي للمنزل . ولا تزال هناك ثلاث غرف قديمة للشاي قائمة حتى يومنا هذا ، وهي مسجلّة على أنها كنوز وطنية في اليابان . وتقع في ياماساكي، ومعبد شنتو في ميناسي- گو، وفي دير سايهو- جي في كيوتو. كانت مساحة غرفة الشاي صغيرة، حيث لا تزيد مساحتها عن ثلاثة أمتار مربعة في الغالب؛ ويُنسب إلى ريكيو تقليص حجم الغرف الأكبر التي كانت في السابق . وكل غرفة تحتوي على ديكور بسيط وملاحق خدمية مثل: المرحاض ، وحوض صغير (تسوكوباي) الذي يتكون من حوض حجري ( چوزو - باچي ) بالخارج لغسل اليدين قبل الدخول إلى غرفة الشاي ، وهناك بالقرب من الحوض العديد من الأحجار غير المنتظمة المرصوفة بتصميم هندسي رائع مع هيكل لفانوس حجري . وكان من المتبع تقليداً، أن يكون موقع غرفة الشاي في حديقتها الصغيرة الخاصة ( چا - نيوا ) والتي تتضمن ممشىً حجري ( توبي - إيشي ) يؤدي اليها من المنزل الرئيسي . وكانت تلك الحديقة مزروعة بأشجار دائمة الخضرة بدلاً من شتلات الزهور. وكان الحشيش الأخضر على الممشى يُداس تحت الأقدام لينعكس التأثير المهدئ عند الضيف قبل دخوله غرفة الشاي . كانت أبواب غرف الشاي صغيرة الحجم عادة، بحيث لا يزيد ارتفاعها عن 90 سنتيمتر. وكان القصد من ذلك؛ إظهار أن الجميع متساوون في المكانة بمجرد دخولهم. ويعتقد بعض المؤرخين أن ارتفاع الباب كان يمنع إدخال السيوف إلى غرفة الشاي بطريقة أو بأخرى لبيان الرتبة والمهنة التي يجب التخلي عنهما أثناء تناول الشاي . وكانت النوافذ والستائر الورقية توفر قدراً كبيراً من الضوء للداخل . طقوس وآداب تحضير الشاي وتقديمه باستخدام مغرفة خاصة ، والتقيّد بالإيماءات التي ينبغي للشخص أن يمارسها بدلاً من الكلام؛ كانت تعود جميعها إلى تقاليد قديمة في تناول الشاي، وعلى المرء أن يلتزم بها حرفياً. فقد كان الماء يُغلى عادة على الفحم في غلايّة حديدية، كما أن ورق الشاي يجب أن يكون قوياً وأخضراً ومرّاً. وكان من الشائع أيضاً في جميع الاحتفالات استخدام أجود أنواع أباريق تحضير الشاي وخاصة الـ "چاوان"، و الأقداح الخزفية المتقنة الصنع .
كان الشاي يُستهلك على نطاق واسع وأصبح تجارة كبيرة بحلول القرن السادس عشر الميلادي؛ لدرجة أنه أثار اهتمام التجار الأوروبيين أخيراً، ولا سيما البرتغاليين والهولنديين . وقد عُرف الشاي في أوروبا عام 1607 ميلادي. وبحلول القرن التاسع عشر الميلادي، أصبح الشاي رائجاً بكثرة في أوروبا؛ لدرجة أن متذوقي الشاي كان بإمكانهم اختيار أي من صنوف الشاي (الصيني ، الهندي ، السيلاني) . وكان الشاي من البلدين الأخيرين هو الأقوى والمُفضّل، خاصة لدى البريطانيين الذين شجعوا زراعته في الهند المُستعمرة. ورغم ذلك ؛ فقد كان إجمالي صادرات الصين من الشاي إلى أوروبا في أوائل القرن التاسع عشر الميلادي حوالي 80٪ . وفي المنطقة العربية يتمتع الشاي بشهرة كبيرة لدى شعوب المنطقة ، وذلك عندما جلبه المستعمرون الأوروبيون في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ، وأصبح المشروب المفضّل الأول قبل القهوة التي كانت المتصدرة .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مايكل أشكنازي ـ دليل الأساطير اليابانية ـ طباعة جامعة أوكسفورد ـ 2008 . رايموند داوسون ـ التجربة الصينية ـ فينيكس للنشر ـ 2000 . پاتريشيا گراهام ـ تاريخ الفن الياباني ـ توتول للنشر ـ 2009 . پاتريشيا باكلي إيبري ـ شرق آسيا ما قبل العصر الحديث: تاريخ ثقافي واجتماعي و سياسي ـ سينگاگ ليرنينگ للنشر ـ 2013 .
#عضيد_جواد_الخميسي (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
هنود السهول الأصليين في أمريكا
-
ليلة السكاكين الطويلة
-
ديانة المايا: النور الذي أتى من البحر
-
الموت وحياة الآخرة في بلاد فارس القديمة
-
الفينيقيون شعب أرجواني
-
عنخ رمز بلاد النيل
-
دعوى قضائية لعبد يهودي أمام محكمة بابلية
-
نينهورساگ الإلهة الأم في الأساطير السومرية
-
العقيدة البوذية في نشوئها وفلسفتها
-
نظام التعليم في بلاد الرافدين القديمة
-
الدفن في بلاد الرافدين القديمة
-
كذبة أفلاطون في الروح
-
الأزياء والملابس في بلاد الرافدين القديمة
-
الفنّ والعمارة في بلاد الرافدين
-
ثورة العمّال اللودّيين
-
مَن هم شعوب البحر ؟؟
-
الأعياد في بلاد الرافدين القديمة
-
الحكومة في بلاد الرافدين القديمة
-
النساء العالمات في ثورة العلوم
-
قصة الوسيم نارسيسوس (نرجس)
المزيد.....
-
منظمة التعاون الإسلامي ترحّب باعتماد الجمعية العامة للأمم ال
...
-
-الاعتقال الرقمي-: عملية احتيال كبرى تطال الملايين من أموال
...
-
ألمانيا تمول برنامج لمساعدة اللاجئين السودانيين في تشاد
-
اعتقال مئات الضباط.. دعوة للتحقيق مع بدء التعداد العام في ال
...
-
7 شهداء بينهم 3 اطفال وعدد من الجرحى بقصف خيام النازحين بخان
...
-
اليونيسف تحذر: -مستقبل قاتم- ينتظر الأطفال في 2050
-
شاهد.. غزّيات يواصلن تعليمهن الجامعي في مخيمات النازحين
-
مفوض عام وكالة الأونروا: غزة أصبحت مقبرة للأطفال
-
مندوب البحرين بالأمم المتحدة يطالب بتمثيل عربي دائم في المجل
...
-
استخدام الجيش.. ما تفاصيل خطة ترامب لترحيل المهاجرين؟
المزيد.....
-
أية رسالة للتنشيط السوسيوثقافي في تكوين شخصية المرء -الأطفال
...
/ موافق محمد
-
بيداغوجيا البُرْهانِ فِي فَضاءِ الثَوْرَةِ الرَقْمِيَّةِ
/ علي أسعد وطفة
-
مأزق الحريات الأكاديمية في الجامعات العربية: مقاربة نقدية
/ علي أسعد وطفة
-
العدوانية الإنسانية في سيكولوجيا فرويد
/ علي أسعد وطفة
-
الاتصالات الخاصة بالراديو البحري باللغتين العربية والانكليزي
...
/ محمد عبد الكريم يوسف
-
التونسيات واستفتاء 25 جويلية :2022 إلى المقاطعة لا مصلحة للن
...
/ حمه الهمامي
-
تحليل الاستغلال بين العمل الشاق والتطفل الضار
/ زهير الخويلدي
-
منظمات المجتمع المدني في سوريا بعد العام 2011 .. سياسة اللاس
...
/ رامي نصرالله
-
من أجل السلام الدائم، عمونيال كانط
/ زهير الخويلدي
-
فراعنة فى الدنمارك
/ محيى الدين غريب
المزيد.....
|