|
وهمُ الدين الصحيح !!!
عبدالله عطوي الطوالبة
كاتب وباحث
الحوار المتمدن-العدد: 8167 - 2024 / 11 / 20 - 14:49
المحور:
العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني
تحتفظ ذاكرتي بِقَدرٍ من رواية تلك المرأة الإيزيدية، عن المدة التي قضتها في أحد "منتجعات داعش للتسامح والجدل بالتي هي أحسن" شمال العراق. قالت بصوت يقطر ألماً لإذاعة البي بي سي، إنها توسلت داعشياً كان يتهيأ لإستباحة جسدها أن يعتبرها بمقام أخته أو واحدة من بنات عمه وقريباته. فجاء رده قولاً واحداً جازماً قاطعاً: ديننا يأمرنا بفعل ما سأفعل بك. إذن، هذا الوحش البشري مقتنع بأن فعلته المنافية للقيم الأخلاقية الإنسانية والمُدابِرة لمعايير الرجولة، تقع في صميم تطبيقات الدين الصحيح. ولا يختلف عنه "زملاؤه" في التنظيم ذاته، على صعيد القناعة بأن حز الرقاب أمام الكاميرات واغتصاب النساء وبيعهن وغيرها من ممارسات همجية، إنما هي تنفيذ لتعاليم الدين الصحيح. ومن خوارج العصر، كما يحلو لكثيرين نعت الدواعش، نستحضر غيضاً من فيض توحش الخوارج القدامى، أول حزب سياسي في الاسلام قبل قرون أربعة عشر. فقد كانوا يؤمنون بشكل أعمى بإمتلاكهم التفسير الصحيح للدين ونصوصه. وبهذا التفكير البدائي المتوحش، أباحوا لأنفسهم قتل أطفال خصومهم وبقر بطون الحوامل، وهم يبكون من تقوى الله ويقضون الليالي في التعبد وقراءة القرآن. ونستحضر في السياق، ما يعنينا من الجريمة التاريخية الكبرى باغتيال علي بن أبي طالب غيلة وغدراً. تخبرنا كتب التاريخ أن تعذيباً شديداً حل بالخارجي عبدالرحمن بن ملجم، بعد إقدامه على جريمته فضلاً عن تقطيع أطرافه، لكنه لم يجزع. فلما اقتربوا من قطع لسانه، جَزِع، فسألوه: فعلنا بك ما فعلنا ولم تجزع، فلماذا جزعت عندما اقتربنا من قطع لسانك؟ فقال: "لم أجزع خشية الموت، ولكنني لا أريد أن أكون في الدنيا حياً لحظات لا أذكر فيها اسم الله"!!! هذا يعني أن ابن ملجم واثق في دخيلة نفسه أن اغتياله علي بن أبي طالب، ينسجم مع صحيح الدين، وفيه تقرب الى الله!!! وفي مراحل تاريخية مختلفة، فإن الذين كَفَّروا المعتزلة الداعين إلى تقديم العقل على النقل، ووصموهم بالزندقة والمروق، اعتقدوا أنهم بأفاعيلهم تلك يطبقون تعاليم الدين الصحيح. الشيء ذاته، ينسحب على الذين رموا بالكفر والزندقة فلاسفة ومفكرين بحجم ابي العلاء المعري وأبي حيان التوحيدي وابن الراوندي. وقد نعتهم مكفروهم ب"زنادقة الاسلام الثلاثة"!!! وبيننا اليوم، في القرن الواحد والعشرين من لا يزالون يعتقدون بأن الأرض مسطحة وأنها مركز الكون، وليست كروية تدور حول الشمس، علماً بأن العلم حسم الأمر بهذا الخصوص منذ ألفي عام تقريباً. هؤلاء يرون أنهم باعتقادهم هذا، أقرب إلى الدين الصحيح. وبيننا كثيرون أيضاً، يرون أن اسلام الفرد مشكوك فيه ما لم ينأى بنفسه عن فلسفة ابن رشد ويحذر فكره. ولا يفتأون يدعون إلى أبلسة فيلسوف بحجم ابن عربي ومَثْلَنَة ابن تيمية، حيث وَقَرَ في الأذهان أن تفكيراً كهذا من صحيح الدين. ويحضون على الإقتناع بأن التداوي ببول البعير وفتوى إرضاع الكبير، يندرجان في موروث الدين الصحيح. وماذا عن أولئك الذين شحنوا أميين جهلة بالتكفير، ودفعوهم لاغتيال المفكر الكبير فرج فودة والأديب الحائز على جائزة نوبل في الآداب، نجيب محفوظ؟! ومثلهم أيضاً، الذين حرضوا ضد المفكر الكبير، الدكتور نصر حامد أبو زيد وألجأوه الى مغادرة وطنه وتسببوا بصدور حكم بالتفريق بينه وبين زوجته قسراً. هؤلاء كلهم اعتقدوا وما يزالون، أنهم بأفعالهم هذه إنما يدافعون عن الدين الصحيح. لعل أول ما نتغيّا التأكيد عليه تأسيساً على مضامين سطورنا السابقة، يتمثل بأهم دروس التاريخ المتعلقة بالأديان، ومؤداه استحالة وجود تفسير واحد ثابت متفق عليه ومتوافق بشأنه للنصوص الدينية. وهو ما ينسحب على الأديان كلها، وبخاصة الكبرى الثلاثة، ويفسر تعدد المذاهب والفِرق والجماعات، داخل الدين الواحد. ولا يتردد أيٌّ من هذه الأخيرة في الإدعاء بأن معتقده هو الدين الصحيح، وما عداه هرطقة وزندقة وكفر صراح يجب أن تنتهي بحد السيف. من هنا تبدأ المصائب والكوارث تحل بالمجتمعات، حيث يُحلل سفك الدم وتُستباح الأرواح والأعراض والممتلكات بإسم الدفاع عن الدين الصحيح وتطبيق شرع الله!!! لا يمكن التوصل الى تفسير واحد مُجمع عليه لنصوص الدين، لأسباب عدة نكتفي بإيجاز أهمها. نصوص الدين لا تنطق بذاتها، وإنما يستنطقها الإنسان. والإنسان، أبن عصور ونتاج ثقافات. النصوص ثابتة، والحياة لا تني تتحرك إلى الأمام وتأتي بالجديد المستجد. ومن سمات بني الإنسان، التفاوت بينهم في القدرات الذهنية والكفاءات المعرفية، فضلاً عن تدافع مصالحهم، بل وتضاربها. كما أن الدين بطبيعي أمره، إيمان غيبي ويقين ذاتي للفرد المؤمن والجماعة المؤمنة، لا يخضع لمعايير النظر العلمي البحثي لتقرير صحيحه وتحديد الدخيل عليه. ولا ننسى أن النصوص الدينية بصفة خاصة، حمالة أوجه تتيح مجال التأويل في أكثر من اتجاه. وعليه، فمن طبائع الأمور أن تتعدد التفسيرات المطروحة للنص الديني، وكل منها يرى الى تفسيره أنه الدين الصحيح. ولهذا، فقد كانت فكرة الدين الصحيح وما تزال الصاعق المفجر لأغلب الصراعات الدينية بين الأديان المختلفة أو داخل الدين الواحد. وعلى أرضية هذه الفكرة، ظهر المتطرفون والتنظيمات التكفيرية المشحونة بوهم احتكار الدين الصحيح، وتفسير وحيد للنص الديني يعشش في أدمغتهم. إنطلاقاً من هذا الوهم، يبرر هؤلاء لأنفسهم إذا واتتهم الفرصة، ارتكاب أبشع الفظائع بضمير بارد في سبيل ما تصوره لهم تخيلاتهم المريضة بأنه الدين الصحيح. فحيث يسود الإيمان بتفسير وحيد للنص الديني، تنتفي حرية العقيدة والتعايش بين الرؤى والإجتهادات لصالح الإندفاع الى الاقتتال والانتحار الذاتي تحت راية المقدس. في مقتلة من هذا النوع، يصرخ كلٌّ من القاتل والمقتول، الله أكبر. ويستدعي السياق الإشارة إلى الحروب الدينية في أوروبا المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت، خلال القرون الوسيطة. وقد استمرت 116 عاما، كادت خلالها تفنى أعراق بأكملها. لم تنتهِ تلك الحروب، إلا بيقظة العقل في أوروبا واكتسابه الروح العالمانية، بتخليه عن فكرة الدين الصحيح لصالح حرية العقيدة. وقد ترتب على يقظة العقل، إخراج الدين من ملعب السياسة باعتباره شأناً روحياً تعبدياً خاصاً مكانه دور العبادة، ولا علاقة له بشؤون الإجتماع الإنساني. هكذا وضعت أوروبا الأساس المكين لاستقرار مجتمعاتها، ولانطلاق العقل في فضاء الحريات والإبداع والإبتكار. ومن هنا بدأت النهضة الحقيقية هناك، وتعاظمت، في حين تخلف غيرها. وليت هذا ال"غيرها" يتعلم من دروس التاريخ وعِبَرِهِ، بأنه ليس من طينة خاصة يختلف عن سواه من بني البشر، وأنه لن ينهض ولن يتقدم إلا بما نهض به وتقدم المتقدمون في عالم اليوم. جدير بالذكر، أن تعبير الدين الصحيح يتردد أكثر ما يتردد في بيئاتنا العربية. وأكثر من يردده ويشهره في الرد على المختلفين في الرأي والاجتهاد، الإسلاميون ومحازبوهم. وما درى من يردد هذا التعبير، أنه يصدر عن فهمه الخاص به للدين، أيَّاً كان منسوب قناعته بأن ما يعتقده الدين الصحيح هو فعلاً كذلك.
#عبدالله_عطوي_الطوالبة (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
الاسلام السياسي في تركيا وعند العرب
-
المقاومة تفرض إيقاعها
-
يخافون اسرائيل أكثر من عزرائيل !
-
قمة الضعف وقلة الحيلة
-
ليبيا تعلن فرض الحجاب !
-
الإحتجاج بالنص الديني دليل أزمة وجودية
-
قراءة في كتاب -الحرب- (4) والأخيرة. عرب يدافعون عن اسرائيل ع
...
-
حكماء العرب
-
قراءة في كتاب -الحرب- (3) من المسؤول عن جرائم الإبادة في غزة
...
-
الغراب !
-
قوة الصحافة في الحرية والمعلومة. قراءة في كتاب -الحرب- (2)
-
قوة الصحافة في الحرية والمعلومة. قراءة في كتاب -الحرب- (1)
-
رد هزيل وهايف !
-
رجال الدين عند العرب قبل الإسلام
-
سقوط أميركا أخلاقيًّا
-
الانتماء الرعوي الانهزامي
-
مع الباشا في مذكراته (2)
-
مع الباشا في مذكراته (1)
-
من خزعبلات العقل البشري !
-
الغباءٌ أضرُّ من التواطؤ أحيانًا !
المزيد.....
-
المقاومة الاسلامية في لبنان تستهدف مدينة صفد المحتلة بصلية ص
...
-
المقاومة الاسلامية بلبنان: استهدفنا مدينة صفد المحتلة بصلية
...
-
الرئيس بزشكيان يدعو البابا الى حث الدول المسيحية لوقف الصهاي
...
-
حرس الثورة الاسلامية: مقتل 3 ارهابيين بسيستان وبلوجستان واعت
...
-
إصابة 4 فلسطينيين برصاص الاحتلال خلال هدمها منزلا ومنشأة تجا
...
-
استقبلها الآن بأعلى جودة تردد قناة طيور الجنة بيبي على القمر
...
-
مذيعة برازيلية تخلط بين بايدن وبن لادن (فيديو)
-
الفاتيكان.. شجرة عيد الميلاد تثير ضجة كبيرة
-
Toyor Al Janah TV تردد قناة طيور الجنة نايل سات 2024 بجودة ع
...
-
تردد قناة طيور الجنة الجديد 2024.. أطفالك مش هتعيط تاني خالص
...
المزيد.....
-
مأساة العرب: من حزب البعث العربي إلى حزب الله الإسلامي
/ حميد زناز
-
العنف والحرية في الإسلام
/ محمد الهلالي وحنان قصبي
-
هذه حياة لا تليق بالبشر .. تحرروا
/ محمد حسين يونس
-
المرحومة نهى محمود سالم: لماذا خلعت الحجاب؟ لأنه لا يوجد جبر
...
/ سامي الذيب
-
مقالة الفكر السياسي الإسلامي من عصر النهضة إلى ثورات الربيع
...
/ فارس إيغو
-
الكراس كتاب ما بعد القرآن
/ محمد علي صاحبُ الكراس
-
المسيحية بين الرومان والعرب
/ عيسى بن ضيف الله حداد
-
( ماهية الدولة الاسلامية ) الكتاب كاملا
/ أحمد صبحى منصور
-
كتاب الحداثة و القرآن للباحث سعيد ناشيد
/ جدو دبريل
-
الأبحاث الحديثة تحرج السردية والموروث الإسلاميين كراس 5
/ جدو جبريل
المزيد.....
|