|
انتصارات إسرائيل الخاسرة
راتب شعبو
الحوار المتمدن-العدد: 8166 - 2024 / 11 / 19 - 15:41
المحور:
مواضيع وابحاث سياسية
عبارة "حق إسرائيل في الدفاع عن النفس" كانت قاسماً مشتركاً في مواقف الدول المساندة لإسرائيل، رغم ما تقدم عليه هذه الدولة من تجاوز وانتهاك للحقوق المتواضع عليها دولياً، ومن ازدراء لكل الالتزامات الأخلاقية والمعايير الإنسانية في سياق ممارسة هذا الحق. حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها يشمل إذن حقها في تحويل مجتمع كامل إلى مقبرة، بحسب تصريح لويز ووتريدج، الناطقة باسم الاونروا التي كتبت بعد زيارة غزة: "لا يمكنك أن تعرف أين يبدأ الدمار وأين ينتهي. أنى تدخل غزة، فإن البيوت والمشافي والمدارس والعيادات الصحية والمساجد والشقق والمطاعم ... كلها سويت بالأرض. مجتمع كامل تحول الآن إلى مقبرة". ويشمل حقها في تنفيذ التطهير العرقي من خلال منعها عودة الفلسطينيين إلى شمال غزة، وقطع الإمدادات الغذائية عن الباقين، أي تعريض مجتمع كامل لإمكانية حدوث مجاعة، بحسب (لجنة مراجعة المجاعة) التابعة للأمم المتحدة. بقيت العبارة المذكورة الموجه الأساسي لسياسات تلك الدول إزاء ما يجري في الشرق الأوسط. وما الجمل السياسية التي فاضت عن حواف تلك العبارة، لتشير إلى هول ما تقوم به آلة القتل والتدمير الإسرائيلية، سوى كلام في كلام، على ما شهدنا ونشهد من العقاب والانتقام الإسرائيلي المنفلت والمتواصل طوال ما يزيد عن 13 شهراً. هكذا يعرض علينا عالم اليوم درساً أول يقول إن الإبادة يمكن أن تندرج في سياق الدفاع عن النفس، ودرساً ثانياً يقول إن هناك حقوقاً يحق لها أن تنتهك حقوقاً أخرى، ذلك استناداً إلى هوية صاحب الحق. لا جديد تحت الشمس، ولكن ربما كانت أيام العالم السوداء هذه، هي الأفصح في عرض هذا العيب على مستوى دولي. مع ذلك، ليس الغرض التشكي من ازدواجية المعايير، فلا غرو في أن تبدّي الدول ما تجد أنه مصلحتها، على أي اعتبار أخلاقي. الغرض هو الإشارة إلى أن العيب السياسي والأخلاقي الذي يبديه الغرب حيال إسرائيل، هو تعبير عن أزمة أصلية في التكوين أو الوجود الإسرائيلي نفسه، ذلك أن الحل الصهيوني للمشكلة اليهودية هو حل مستحيل، أو قل إنه سبيل إلى مشاكل لا تني تتفاقم. الجنون الانتقامي الذي تمارسه إسرائيل ليس مجرد عملية انتقام ضد كل من تجرأ على إيذائها، بل هو، في قوته واتساعه ووحشيته، وفي نجاحه في ضمان تساهل وسكوت الدول القادرة على التأثير، رسالة ترهيب موجهة، في العمق، إلى المجتمعات العربية بقدر ارتباطها بالمجتمعات التي تتعرض للاحتقار والإبادة في فلسطين ولبنان. الرسالة تقول إن على الجميع أن يرى الحق الإسرائيلي حقاً مطلقاً يعلو على أي حق آخر، ما يعني أن العلاقة الوحيدة الممكنة للمحيط مع إسرائيل هي ليست الخضوع التام فقط، بل والاستعداد الدائم للمزيد من الخضوع الذي لا قاع له، وفق المنظور الصهيوني الذي يقتضي لإسرائيل التوسع الأفقي نحو المزيد من الاحتلال والضم، والتوسع العمودي نحو المزيد من العنصرية. إذا كان يمكن لإسرائيل أن تضمن خضوع الدول، بفعل موازين القوى وغلبة المصالح، وبفعل آلية عمل الدولة وقوة أجهزتها، فلا يمكنها أن تضمن خضوع المجتمعات، ولاسيما تلك المتحررة من سيطرة الدولة، حال المجتمعات التي تعمل على تحطيمها اليوم. والحال إن قلة اعتبار إسرائيل للدول المحيطة، وفرض التسويات المهينة عليها، يمهد السبيل لبروز قوى غير دولتية تحتمي بمجتمع غير راض عن ضياع حقوقه ولا عن ضعف دولته وقلة اعتبارها إزاء إسرائيل التي لا تكف، بفعل طبيعتها ذاتها، عن الغطرسة وممارسة التجاوزات على حقوق الآخرين. ما تعيشه إسرائيل اليوم من جنون القوة، ليس إلا غضب القوي عسكرياً ولكن العاجز سياسياً عن فرض قبوله. هذا ما يعيد إلى الذهن قول السياسي الفرنسي إميل دو جيراردين (ت 1881): "يمكنك أن تفعل كل شيء بحراب البنادق سوى أن تجلس عليها". الحراب الإسرائيلية التي تفعل أقصى ما يمكن للحراب أن تفعل، تبقى عاجزة، بعد كل شيء، عن أن توفر محلاً آمناً ومستداماً لحَمَلَتها. الحروب الإسرائيلية الكثيرة السابقة التي كانت إسرائيل متفوقة ومنتصرة فيها على الدول العربية، أفضت إلى زيادة مساحة إسرائيل وزيادة عدد سكانها، ولكنها لم تفض إلى تعزيز أمن إسرائيل. على العكس، بعد كل تلك الانتصارات العسكرية، منيت إسرائيل في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بأقسى اختراق أمني وعسكري في تاريخها. الأمن الإسرائيلي لا يزال في حاجة إلى المزيد من المناطق العازلة، وفي حاجة ليس فقط إلى دعم أمريكي هائل، بل وإلى حضور أمريكي مباشر أيضاً. تشي هذه الحقيقة بالأزمة العميقة التي تستبطن "الوجود الصهيوني"، أزمة الانغراس القسري في محيط يتبادل الرفض مع إسرائيل. وفيما يتطلب الاندماج في المنطقة من إسرائيل، احترام حقوق الآخرين وليس السعي الدائم لمحو وطمس هذه الحقوق، تتجه إسرائيل في المنحى المعاكس تماماً، عبر التمادي في رفض حقوق شعوب وأبناء المحيط، والتمادي في العنصرية في الداخل. إسرائيل اليوم لم تعد تقاتل دولاً بل مجتمعات. لا غرابة أن تتكرر في تقارير المنظمات الدولية عن هذه الجريمة الإسرائيلية عبارة "مجتمع كامل" كما ذكرنا، ذلك أن هذا "المجتمع الكامل" الذي يتعرض للتحطيم هو العدو في المنظور الإسرائيلي، مهما كانت أشكال المقاومة التي يبديها. في مراجعة لحصيلة ما جرى في فترة ممارسة إسرائيل "حقها في الدفاع عن النفس"، يوضح مكتب حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، إن حوالي 70% ممن قتلوا في غزة منذ 8 أكتوبر/تشرين الأول 2023، حتى الآن، هم من الأطفال والنساء، وأن أكثر الأعمار وروداً هي بين 5 و9 سنوات، وإن 80% من الضحايا قُتلوا داخل مبان سكنية. ما يعني أن التدمير الإسرائيلي عشوائي ويستهدف المجتمع الغزي كاملاً. وفي لبنان تبيد إسرائيل، على نحو منهجي، القرى والبلدات، بعد أخلائها من السكان بالقتل والتهجير، بغرض إنشاء منطقة عازلة. هذه الحروب الانتقامية، تمثل خسارة لكل الأطراف في الواقع. صحيح أن الخسارة الأكثر إيلاماً ومأساوية تكون على حساب المجتمعات المستهدفة، ولكن إسرائيل أيضاً ستبقى خاسرة مهما ألحقت بالمجتمعات من دمار وقتل. إنها لا تستطيع أن تفرض الخضوع، فليس ثمة ممثل سياسي "شرعي" لهذه المجتمعات، يمكنها أن تطمئن إلى خضوعه ثم ضمان خضوع المجتمع من خلاله. وإسرائيل نفسها تحطم على الدوام إمكانية نشوء ممثل شرعي ذي اعتبار في هذه المجتمعات. كما أنه يتعذر فرض خضوع طويل الأمد على مجتمعات كاملة. المسار الوحيد المفتوح أمام هذا النوع من الحروب هو الإبادة وتسوية القرى والمدن بالأرض، كما نشهد. ولكن حتى لو افترضنا أن إسرائيل استمرت على هذا المسار الوحيد، واستطاعت إبادة المحيط العربي ومسح عمرانه، فهل يكون في ذلك انتصار لها أم خسارة؟
#راتب_شعبو (هاشتاغ)
كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية
على الانترنت؟
رأيكم مهم للجميع
- شارك في الحوار
والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة
التعليقات من خلال
الموقع نرجو النقر
على - تعليقات الحوار
المتمدن -
|
|
|
نسخة قابلة للطباعة
|
ارسل هذا الموضوع الى صديق
|
حفظ - ورد
|
حفظ
|
بحث
|
إضافة إلى المفضلة
|
للاتصال بالكاتب-ة
عدد الموضوعات المقروءة في الموقع الى الان : 4,294,967,295
|
-
عن اللوثة الطائفية في سوريا
-
التكيّف مع الاحتلال
-
تحول حزب الله من المقاومة إلى الردع
-
نحن والاحتجاجات في إسرائيل
-
عن انقسام عقيم يلازم السوريين
-
أفكار في النقاش السوري العام
-
سأبقى أذكر ذلك المساء المختلف في السجن
-
غزة، التنافر بين الحق وتمثيله
-
دروس قاسية تنتظر الفرنسيين
-
القضاء الدولي، مقايضة شعوب بأفراد
-
لا تقاطع مخبراً في السجن
-
عن التوثيق ومنصة الذاكرة السورية
-
الحرب على غزة تتحول حرباً على الديموقراطية
-
جديد وثيقة المناطق الثلاث في سوريا
-
الأبواب الحديدية
-
الثقافة بوصفها خديعة
-
في معنى استمرار الثورة السورية
-
حين تصبح الهوية عبئاً (المثال السوري)
-
غزة بوصفها مرآة عصرنا
-
عن احتجاجات المزارعين في فرنسا وأوروبا
المزيد.....
-
شاهد لحظة هبوط معزز -ستارشيب- في خليج المكسيك بعد إلغاء التق
...
-
هل سيبصر مشروع السكك الحديدية عالي السرعة ببريطانيا النور؟
-
علقوا لساعات.. فيديو يظهر تعطّل لعبة ملاهي على ركابها في اله
...
-
أم وابنتاها يقدمن مأكولات أردنية بلمسة عصرية في قلب دبي
-
-سي إن إن-: بعض الدول الغربية بدأت في تغيير نهجها تجاه العلا
...
-
أمريكي يقتل والده أمام أقاربه ويلوذ بالفرار
-
الجيش الإسرائيلي يعلن حصيلة قتلاه منذ بدء الحرب
-
روسيا.. ابتكار تقنية لتحديد حدود الأورام في الدماغ
-
ارتفاع عدد سكان -منطقة الحظر- الإشعاعي بتشيرنوبل الأوكرانية
...
-
روسيا.. العلماء يرصدون 8 توهجات شمسية قوية
المزيد.....
-
المجلد الثامن عشر - دراسات ومقالات - منشورة عام 2021
/ غازي الصوراني
-
المجلد السابع عشر - دراسات ومقالات- منشورة عام 2020
/ غازي الصوراني
-
المجلد السادس عشر " دراسات ومقالات" منشورة بين عامي 2015 و
...
/ غازي الصوراني
-
دراسات ومقالات في الفكر والسياسة والاقتصاد والمجتمع - المجلد
...
/ غازي الصوراني
-
تداخل الاجناس الأدبية في رواية قهوة سادة للكاتب السيد حافظ
/ غنية ولهي- - - سمية حملاوي
-
دراسة تحليلية نقدية لأزمة منظمة التحرير الفلسطينية
/ سعيد الوجاني
-
، كتاب مذكرات السيد حافظ بين عبقرية الإبداع وتهميش الواقع ال
...
/ ياسر جابر الجمَّال
-
الجماعة السياسية- في بناء أو تأسيس جماعة سياسية
/ خالد فارس
-
دفاعاً عن النظرية الماركسية - الجزء الثاني
/ فلاح أمين الرهيمي
-
.سياسة الأزمة : حوارات وتأملات في سياسات تونسية .
/ فريد العليبي .
المزيد.....
|