أخبار عامة - وكالة أنباء المرأة - اخبار الأدب والفن - وكالة أنباء اليسار - وكالة أنباء العلمانية - وكالة أنباء العمال - وكالة أنباء حقوق الإنسان - اخبار الرياضة - اخبار الاقتصاد - اخبار الطب والعلوم
إذا لديكم مشاكل تقنية في تصفح الحوار المتمدن نرجو النقر هنا لاستخدام الموقع البديل

الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - مراد سليمان علو - سؤال وجواب/1















المزيد.....

سؤال وجواب/1


مراد سليمان علو
شاعر وكاتب

(Murad Hakrash)


الحوار المتمدن-العدد: 8166 - 2024 / 11 / 19 - 15:40
المحور: اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق
    


س ـ اين تجد نفسك، أو تشبه نفسك أكثر، في مراد الطفل، أو الذي عاش في أزقة السكينية، أم مراد الذي عاش في شنكال البلدة، أو مراد الذي حلم وحمل آماله وهو يتسكع في شوارع الموصل، أم الشاعر والكاتب الذي اقلعه الزمن من ارض شنكال ليعيش نازحا ثم مهاجرا في المانيا، أي بمعنى لو نظرت إلى نفسك في كل هذه المراحل العمرية والحياتية، أين يمكن أن تجد مراد الإنسان بكل تفاصيله؟
ـ شكرا على هذا السؤال البهيج، فهو سيعيد بذاكرتي إلى أماكن أحبها، وإلى طفولتي وصباي التي توزعت فيها وبينها، بالنسبة لي فترة الطفولة والصبا هي المرآة التي أرى نفسي فيها بوضوح أكثر من المراحل العمرية اللاحقة؛ لأنني أسست ما أرغب في البناء عليه في تلك الفترة فمثلا (السكينية): ما تزال نفسي جائعة إلى ذلك المكان واللعب البريء مع أصدقاء الطفولة، وفي بيتنا المميز ذو الطابقين. في أزقة القرية الضيقة، وعلى طول جدول الماء الفضّي. على التلول، وفي أسفل الجبل. في المروج، ومراعي الخراف المولودة حديثا وكأنها غيوم صغيرة من ثلج تسير على الأعشاب. وفي بيادر القرية وقت الحصاد، ووقت لعبنا في الخريف، ومواسم مجيء الغجر بملابسهم المزركشة وسحرهم. حين يضربون خيامهم الملوّنة فيها.
لماذا الغجر وحدهم يمتلكون الخيام الملوّنة والخرز والضحك؟
ولماذا خيامنا سوداء حين نضربها وقت الربيع حول الجبل طلبا للعشب والكلأ لمواشينا؟
نفس السؤال طرحته على نفسي وقت نزوحنا من قرانا إلى إقليم كردستان في آب عام (2014) لماذا خيام النازحين بيضاء؟
افتقد خيام الغجر المنصوبة في بيادر (السكينية) ولعبنا هناك. تلك الأيام الجميلة مضت، وتتراءي لي ذكراها كأشباح هائمة، وغيوم هاربة. وبمرور الأيام يتحول الولع إلى حنين. والحنين إلى ذكريات. والذكريات إلى سراب نركض خلفها. وترينا الأيام مآتيها الغامضة.
أمّا (شنكال): فقد انتقلت عائلتي إليها صيف (1972)، وحينها كنت نجحت إلى الصف الثالث الابتدائي، وانتقالنا كانت مغامرة أخرى، ولم يخبرني أحد عن الأسباب. ربمّا لأن في مجتمعنا الكبار عادة يحتفظون بقرارات كهذه لأنفسهم ولا يشاركون الصغار بها، ولا يعلم هؤلاء، كم الصغار يتمنون أن يكونوا جزءا من المفاجأة قبل حدوثها، ومنذ ذلك اليوم وأنا لا أحب المفاجآت.
بنينا في (محلة بربروش) التي تقع في الجهة الغربية من (شنكال) غرفتين على الطراز الشرقي، وكان بيتنا الجديد ملاصقا للتلول، وعلى إحدى تلك التلول القريبة كانت مقبرة قديمة. فشعرت بشيء من الرضا في داخلي منذ اليوم الأول، وكانت المقبرة أوّل مكان أذهب اليه، وكأنني ما أزال في (السكينية)، فشنكال لا تختلف عنها في طبيعتها إلى حد بعيد فنفس الجبل يمر بها، وفيها التلول والعيون والسواقي والحقول والبساتين، ولكنها أيضا تتميز عنها بأشياء كثيرة أخرى مثل: بعض مزارات الأيزيدية، وفيها كنيستين للمسيحية، وما أحلى أصوات نواقيسها أيام الآحاد. وجوامع السنّة، وكذلك حسينيات الشيعة، ونسمع الآذان منها كلّ يوم خمس مرات، وتكون هناك خطبة في كلّ جامع يوم الجمعة، وأيضا لشنكال منارتها الأثرية الجميلة، وهي مبنية من طابوق أصفر اللون وعندما تعانقها الشمس تلمع كقطعة ذهبية، وإلى جانبها قاعدة لمدفع الإفطار وكنا نسميه (طوب رمضان) وهو مدفع قديم ينقل من مكانه إلى موقع يشرف على البساتين خلال شهر رمضان ثم، يعاد ثانية. وكانت المنارة مكاننا المفضل لنلتقي في ظلها، أو ندور حولها. نحفر أسماؤنا عليها. نروي قصصا وحكايات لم نشبع منها يوما، ومنها ننطلق إلى مكان آخر نتفق عليه للعب أو الدراسة، وغالبا للعب.
وفي (شنكال) القلعة الرومانية القديمة، فقد مرّ الرومان من هنا أيضا، ونلعب هناك لعبتنا المفضلة (عسكر وحرامية)، أو كل واحد يحكي قصّة، وغالبا كانت تدور حول بطولات (عدنان القيسي) أو أبطال الأفلام من أمثال: زورو وهرقل وطرزان وفريد شوقي.
وأيضا كان هناك القصر الكبير للأمير (أسماعيل بن جول بك)، وحتى عام 1975 كان آهلا بالسكان، ثم انتقلت العوائل منه ليس خوفا من سقوطه بل اجبروا على النزوح، ولم أعلم كم كانت كلمة (النزوح) مؤلمة وغريبة في نفس الوقت عندما تكون نازحا في وطنك إلا في عام 2014.
وكان هناك مرقد (الست زينب) في أعلى (محلة البرج) الواقع على تل كبير، والناظر لبيوت هذه المحلة من بعيد يراها وكأنها مبنية فوق بعضها البعض وهو منظر فريد لا تراه إلا في مدن قليلة.
وكذلك مرقد (الأمام ذاكر الدين) ونسميه (بير زكري) ويقع في وسط البساتين، وكان هذا مكاننا الذي نلتقي فيه لنستعد لغزو البساتين القريبة، وخاصة التين والرمان، وعجبت من وفرة (التين الأسود) الذي يسقى سيحا في (شنكال)، فبساتين التين الديمية الواقعة خلف الجبل تكاد تخلو من هذا النوع من التين.
والشوارع والأزقة هنا مبلطة تسير عليها العديد من المركبات، وفي الأيام الأولى عندما كنت أجلس وحيدا في ظل المنارة التي تقع على الشارع الرئيسي كنت أعدّ السيارات المارة في الشارع خلال وقت جلوسي وكنت أتعجب عندما أصل إلى العدد (20) فلم أر من قبل هذا العدد من السيارات كانت سيارة (الشيخ ماجو)، وسيارتنا (البيك آب) والتي كان يقودها السائق (حسن حجيكا) هما الوحيدتان في قرية (السكينية العليا) وثمة سيارة أخرى في القرية السفلى. وطبعا في شنكال كانت هناك الأسواق. (السوق الفوقاني) وهو القديم، و(السوق التحتاني) الحديث وفيها (فرع أحذية باتا) المشهورة، وفندق، و(محل إدريس للمثلجات والدوندرمة)، وفيه فرنان أحدهما للخبز والآخر للصمون الحجري صاحبه مسيحي وكان يطلي عجينة الصمون ببياض البيض المخلوط بالزيت قبل إدخالها للفرن ولم يكن بالإمكان تذوق أطيب منها، وهاجر صاحب الفرن إلى السويد في منتصف الثمانينات كما حال الأغلبية من مسيحيي المنطقة.
وفي الأسواق تجد كل شيء: خضروات وفواكه ولحوم وتوابل وكل ما يخطر على بالك، وكذلك فتح فيها لاحقا (أورزدي باك) وهي أسواق مركزية أو ما تشبه السوبر ماركت أو المولات في الوقت الحاضر، وكانت تعتبر في حينها ظاهرة تستحق الاحتفال، أذكر بأنني كنت في الصف السادس الابتدائي حينها عندما شرح لنا مدير المدرسة الأستاذ (عبد السلام طه) فوائد هذا السوق الاجتماعية حيت يتيح للجنسين التسوق معا أضافة إلى جودة البضائع المعروضة.
رحم الله الأستاذ (عبد السلام طه) فعندما اجتزت الامتحان الوزاري للصف السادس الابتدائي بتفوق ـ حينها كان على التلميذ أن يدخل الامتحان الوزاري كما في الثالث متوسط والسادس أعدادي ـ وذهبت لأستلم شهادتي الجدارية صافحني قائلا:
"كنت أفضل ثاني تلميذ في المدرسة بدرجاتك، وأفضل تلميذ بأخلاقك".
ومدرستي كانت (مدرسة سنجار الثانية للبنين) مديرها تربوي فاضل، ومن المعلمين المتميزين فيها كان معلم اللغة العربية الأستاذ (عيسى) فعلي يده برز تفوقي في الأنشاء والقراءة والخط، بدأ من الصف الرابع الابتدائي. كان في صباح يوم السبت الاصطفاف الصباحي وتحية العلم في وسط ساحة المدرسة على سارية تعانق السماء ويرافق مراسيم رفع العلم صمت ورهبة ثم تبدأ الأناشيد وفي نهاية الدوام ليوم الخمس نزول العلم، كما لو كنا في مدرسة إنكليزية داخلية تحافظ على النظام والنظافة والتربية والعلم في نفس الوقت.
وفي مدرستي بعض المعلمين لا يجيدون الكرمانجية وكذلك بعض أصدقائي وشرح الدروس دائما باللغة العربية ووسط كل هذا وجدت نفسي بعد سنة دراسية أتكلم العربية بطلاقة، وكذلك اللهجة السنجارية المخلوطة بكلمات كرمانجية والتي تختلف عن لهجة القرى ولكنني نجحت في هذا التحدي المزدوج وتعلمت اللهجتين أضافة إلى تفوقي في دراستي، وفي الرابع الابتدائي وبعد امتحان نصف السنة كان الجميع يرغبون في صداقتي.
وطبعا في (شنكال) أيضا دوائر حكومية شتى ومكتبة فرعية، وهذه تقع في نهاية السوق التحتاني وكنت مستعدا أن أدفع نصف عمري وأرى ما في داخلها من كتب وقصص، وبالتأكيد الشيء الأكثر دهشة كان الكهرباء، والمقاهي، وفي كل مقهى تلفزيون.
لم يجذبني شيء كما التلفزيون وكان لا يزال التلفزيون بالأسود والأبيض في تلك الأيام، وفي البيوت كان من الكماليات غير الضرورية لذا كنا نلتقي ونجلس على رصيف المنارة ويجلب صاحب المقهى التلفزيون إلى الخارج وننتظر السادسة وعشرة دقائق وهي فترتنا المفضلة ـ فترة برامج الأطفال ـ وعند السابعة أرجع إلى البيت وقد امتلأت ذاكرتي بمتعة المشاهدة ومخيلتي بصور ومشاهد أضافية، فالذاكرة والخيال كانتا المعولتان في نصوصي وقصائدي لاحقا. أما أيام الجمع فنذهب إلى احدى المقاهي الكبيرة ونكون قد جلسنا على مقاعدنا وشربنا حامضا أو شايا بعشرة فلوس وننتظر الساعة العاشرة لتبدأ فترة الأطفال ومن ثم بعض الأغاني والمسلسل الأجنبي المليء بالمغامرات، ثم نذهب إلى البيت في فترة الغداء لنحضر عرض أحد الأفلام وعادة يكون فلما مصريا، وتلك كانت الفترة الذهبية للمصارع (عدنان القيسي) فعندما يبث التلفزيون إحدى نزالاته ترى الجميع متسمرين أمام التلفزيون وطبعا نحن الأطفال من نقلد حركاته مع بعضنا.
وعندما يأتي شهر رمضان كنا نتجمع حول (طوب رمضان) وكان طوبا أثريا قديما بنيت قاعدة له بجانب المنارة وفي رمضان ينقل إلى مكان قريب يطل على البساتين ويحشى بالخرق البالية وتدق بخشبة معدّة لهذا الغرض ثم يوضع بعض البارود على فتحة في نهاية الطوب فيشتعل البارود ويتصل بالبارود الموضوع داخل الطوب ويحدث الدوي. كنا نترقب أن يشعل المؤذن المصابيح الخارجية لمنارة مئذنة الجامع ثم نصيح معا (علق...علق) أي أن المصابيح أضيئت فيبدأ القائم على خدمة ضرب الطوب بإشعال البارود ويطلق الطوب فنتفرق ونعود إلى البيت.
هذه (شنكال) وهكذا كنت أقضي أيامي فيها، والدخول في تفاصيل أكثر يحتاج إلى صفحات عديدة بل كتبا؛ لذا سأقفز إلى سنة الترحيل، وبعد ترحيلنا الإجباري من (شنكال) ومن (السكينية) في نفس الوقت كانت وجهتنا هي (سيباى) وعنها أقول في احدى تجلياتي:
"يقودني إلى قرية الفن والشعر: العيد، والذكريات التي برائحة البرتقال، والبخور الهندية عندما كان يجلبها شقيقي الأكبر (مال الله) من البصرة، ويوصلني إليها عزف (حسن علي حربا) على طنبورته، وقصص (علي حربا) وألحان (مراد علي حربا) وموسيقى (خيري مراد علي حربا) يقودني ذكرى صديقي الشهيد الذي لم أشبع من رفقته يوما (بركات علي حربا) وما يجعلني أبقى في شوارعها هائما هي نكات وقفشات (نافخوش علي حربا)، ما يقودني إليها أنني لم أسمع سمفونية تشبهها.
أعرف إن (سيباى) دون (شنكال) ودون (بعشيقة) ودون الموصل ودون دهوك تشبه (نقرة السلمان) التي لا بهجة فيها؛ ولهذا قدمنا أرواحنا قرابينا! وفي النهاية بقيت القرى ورحل الغزاة.
من (سيباى) إلى مدارس (شنكال) وكليات الموصل قلوب الطلاب نوافذ تفتح في مساءات القسم الداخلي وأحلام التخرج. القلوب لم تنطفئ يوما إلا ساعة تهديمها مثل بابل والموصل وهيروشيما، فدفنت قصص الحبّ نفسها تحت الرمال، وبان الخجل على خدود الغدران الجافة في صحراء العوز.
(سيباى) التي ولدت على رمالها (بسّا قاسكى) وهي تتدلى من لحن (قصيدة غريبو) بأنامل (خلف قاسكى) على طنبورته السحرية، ولدت في أزقتها (عمشة حسين) وهي تعلم أطفالنا حزن الأسرى في (بلاد العجم)، ولدت بين بيوتها الطينية (شمّا علكي) وهي تغتسل بدموع الشهداء. ولدت فيها الفناجين والدلال المنحوتة بأزميل العمّ (خدر مراد درباس).
كلنا نحبّ حزن (بسّا قاسكي)، ونحبّ مواويلها الحزينة بعشق الأيزيدي للحزن في ذكرى الشهداء. طول حياتنا نحب دموعها على جميع المغدورين من (شعب أيزيدخان) كلماتها رواية أيزيدية تتحدث عن دعائنا (لاثنتين وسبعون ملّة) بالخير قبل الدعاء لجنودنا أن يرجعوا سالمين من جبهات القتال، قبل أن ندعوا الربّ أن يلين قلوب (الجندرمة التركية) الغليظة؛ ليتركوا أطفالنا يركبون أمواج (بحر إيجة)، ويحجوا إلى (قبر بيتهوفن) ويرسلوا لنا (الشوكولاتة السويسرية). (بسّا قاسكي) وحدها تبكي على (سبايا أيزيدخان)، وتصنع حزنا يشبه نوح كاهنة بابلية على تأخر (مردوخ) لاعتلاء العرش.
لا أحد يحبّ (قصيدة غريبو) مثل الشنكاليين وهي تخرج من حنجرة جارتي (بسّا قاسكى) مع شلال من الدموع. يجري الحزن من لسانها في شوارع (سيباى) ويتجمع الحزن في ديوان العمّ (أحمد جاسو) وتشرب (كوجو) من قهوة الحكايات والفرمانات.
صوت آهات (العدادات) كان وما يزال هو هاجسنا اليومي قبل سماع (إذاعة صوت الجماهير) وقبل مشاهدة برنامج (الرياضة في أسبوع). أعرف إن الملاك (شمّا ديرو) والدة (جيلان) و(شيلان) وعائلتها يسمعونهن كلّ يوم. فقد صنعن بقصائدهن وحناجرهن ألف محارب شجاع فوق الجبل وألف مهاجر حزين وألف عاشق، فقد أعطين لنا مجد الحزن وقيمة الدمعة وكيف تسيل مع الجرح الأيزيدي الأبدي.
أستشهد (خدر خاتونا) ورفاقه وهم يدافعون عن ضحكة هذه القرية المقدسة التي تشبه (أور) حيث ولد فيها (أوّل نبي) وزارها آخر (بابا للفاتيكان)، هذه القرية ولد فيها ألف شاعر قيراني وألف فنان قيراني وألف سيدّة أيزيدية تغزل خيوط (السدارة البغدادية)، والقبعات المخروطية؛ ليعتمرها ملوك العراق، وشعراء بغداد، وأعمامي من كبار السن.
الآن (سيباى) قبر يحفره (الخلمتكار حجي نيسكو) بمعوله، فإلى كم معلم مثل الأستاذ (خديدا جافو) سنحتاج لتعليم أبناء شهداء (سيباى) الألفباء الألماني، وإلى كم حكيم مثل العمّ (خدر باجو) سنحتاج ليجبر عظامها المكسورة.
ذكرياتنا في (سيباى) هي شِعر (خدر شاقولي) وأناشيد (ألياس قيراني)، ويزوغ (حسين شاقولي) من الذاكرة ويغني في الأعراس الألمانية، فحدائق (بيليفيلد) أكبر من ساحات (سيباى)، وصديقي (أحمد شاقولي) يعزف على البيانو للمترجمين الأيزيديين في (نبراسكا) فمدن الولايات المتحدة الأمريكية، أكثر من عدد حبات رمال (سيباى)".
وبعد سنتين فقط انتقلت إلى الموصل لغرض العمل والدراسة، وحينها كنت ما أزال في فترة المراهقة، وبالنسبة لي الموصل كان الحلم الأكبر، فهي المدينة الكبيرة والمحيط الواسع وعليّ أن أتعلم السباحة جيدا إذا أردت الوصول إلى الشاطئ!
العيش في هذا المكان المدهش كان حلما وتحقق فالمجتمع المصلاوي صعب أن تفهمه وتتعامل معه دون الولوج إلى تفاصيل الفلسفة الاجتماعية التي تتبناها، وهذا أخذ مني وقتا طويلا ففي البداية اللهو والتسكع والاكتشاف كان عندي الخيار الأول، ومع الأيام وتكرار التفاصيل كفعل يومي أدركت مدى أصالة وفرادة هذه المدينة وأهلها من المواصلة وليس أولئك القادمين من الأرياف من أمثالي، ولكنني دخلت اللعبة مثلهم بل تفوقت على الكثيرين، فكنت عادة لا أخذ قيلولة حتى في أشدّ أيام فصل الصيّف حرارة عكس كلّ الناس، أتناول (لفة فلافل لحم) من مطعم (ناثر) الواقع تحت سينما (غرناطة) من جهة الشمال، فأنا أفضّل هذا المطعم الشعبي الصغير على مطعم (الكهف) أو كباب (كويسنجق) ولا تتعجبي من اسم الطعام، فمثلما تصدقين (جوليانو جيما) وهو يقتل دستة من الأشرار بمسدسه السريع قبل أن ينتهي من إلقاء إحدى نكاته، عليك أن تتيقني من وجود أكلة مصلاوية شهية تسمّى (فلافل لحم) تقدم على شكل (سندويج) ومعها شوربة (الفلافل) نفسها أو، تكون جميع المكونات في ماعون واحد كوجبة كاملة، وطريقة طبخها سهلة ولكن طعمها لا يضاهى، حيث يسلق لحم البقر ثم، يقلى شحم غنم مضافا إليه البصل والفلفل الحار وتوابل معينة وبكميات حسب الرغبة والذوق، وبعدها يتم إضافة (الألية) المقلية إلى اللحم المسلوق ويضاف الملح وشيء من معجون الطماطم ويقدم حارا مع الصمون العراقي، فتكون وليمة لا يشبع منها، وربمّا انشغلت في الظهيرة بمشاهدة فلم في احدى دور السينما، فدار سينما (أشبيلية) و (غرناطة) و(الأندلس) أسماؤها وحدها تغري في الدخول إليها وتذكرك بحضارة قديمة تتمنى لو عشت أيامك في زمنها، فهي تتنافس بعرض أرقى الأفلام، ولمدارس فنية مختلفة تضطر معها إلى التجوال فيها جميعا؛ لتختار فلما ترغب في مشاهدته، وربمّا بحثت عن بطاقة دخول لأحدى هذه السينمات في السوق السوداء لنفادها في شباك التذاكر.
وفي بعض الأيام وقبل دخولي إلى المقهى التي أريدها أن تكون محطتي الأخيرة في تجوالي وسط المدينة، قد أزور تسجيلات (الربيع)، فبعد مشاهدة فلم هندي مشهور مثل (سنكام) أو (ليالي شامي كابور) لابد من الحصول على كاسيت يحتوي على أغاني الفلم الشجية، أو أتجوّل للبحث والسؤال عن كتاب معين، في (مكتبة المتنبي) فأؤجل ذهابي إلى المقهى؛ لأن بعض الحاجيات اليومية الضرورية تجعلني أذرع الشارع جيئة وذهابا، فكل شارع كان عبارة عن مدينة مصغرة، وهكذا أصبحت بعض هذه الظواهر عادات في الموصل، وإلى الآن أشعر وكأن في أحزان آهات (أم كلثوم) تلبس الموصل شوارعها القديمة قناعا لها، فأغرق في تأمل اللحن وهو يحضن المحلات والدكاكين والمطاعم والأسواق، ويتلون بدور السينما والكازينوهات والأغاني والسيارات والمارة والأرصفة والباعة المتجولين وإعلانات الأفلام وعناوين الكتب وأغلفة المجلات ومواسم مهرجان الربيع.
لذلك هذه الأماكن الأربعة: (القرية، والمجمّع، والبلدة، والمدينة) عوالمها كمكان تداخلت مع بعضها لاحقا وكوّنت الحلم الذي يرافقني دائما، فيمكن الرجوع إلى تفاصيل مدهشة أخرى في روايتي (سينو) وبالنسبة لي انتهى الحلم الجميل بصدمة الحرب العراقية الإيرانية في عام (1981)، وفي الحرب ولمدة ثماني سنوات لم يبق شيء على حاله.
لاحقا فهمت لماذا نحزن على المكان وتفاصيله عندما نبتعد عنه وبدأت أقدّر الوقت الذي قضيته هناك في تلك الجهة الجميلة عندما قرأت لـ (علي الشوك) و(غاستون باشلار).



#مراد_سليمان_علو (هاشتاغ)       Murad_Hakrash#          



اشترك في قناة ‫«الحوار المتمدن» على اليوتيوب
حوار مع الكاتبة انتصار الميالي حول تعديل قانون الاحوال الشخصية العراقي والضرر على حياة المراة والطفل، اجرت الحوار: بيان بدل
حوار مع الكاتب البحريني هشام عقيل حول الفكر الماركسي والتحديات التي يواجهها اليوم، اجرت الحوار: سوزان امين


كيف تدعم-ين الحوار المتمدن واليسار والعلمانية على الانترنت؟

تابعونا على: الفيسبوك التويتر اليوتيوب RSS الانستغرام لينكدإن تيلكرام بنترست تمبلر بلوكر فليبورد الموبايل



رأيكم مهم للجميع - شارك في الحوار والتعليق على الموضوع
للاطلاع وإضافة التعليقات من خلال الموقع نرجو النقر على - تعليقات الحوار المتمدن -
تعليقات الفيسبوك () تعليقات الحوار المتمدن (0)


| نسخة  قابلة  للطباعة | ارسل هذا الموضوع الى صديق | حفظ - ورد
| حفظ | بحث | إضافة إلى المفضلة | للاتصال بالكاتب-ة
    عدد الموضوعات  المقروءة في الموقع  الى الان : 4,294,967,295
- الفرح المتأخر يغمرني أيضا
- ماذا لو
- عميقا في سيكولوجية الجماهير
- جيش الثلاث ضفادع
- حكاية ينبوع
- كتابات على جدران المجتمع
- الفرمان الأخير
- في فهم جديد لنيتشه
- ثلاث أغاني
- طفل الاله المدلل
- الليلة الأخيرة في المخيم
- عليّ الوردي وعنصريته ضد مكونات المجتمع العراقي الأيزيديون أن ...
- بتلات الورد 4
- الاسرة في المجتمع الايزيدي الالماني
- من وحي الفرمان
- حوار
- أناشيد أيزيدية
- الأربعاء بين مطرقة الجمعة وسندان الأحد
- اطلقوا سيقانكم للريح
- شنكال ملجأ أيتام أبناء الشمس


المزيد.....




- شاهد لحظة هبوط معزز -ستارشيب- في خليج المكسيك بعد إلغاء التق ...
- هل سيبصر مشروع السكك الحديدية عالي السرعة ببريطانيا النور؟
- علقوا لساعات.. فيديو يظهر تعطّل لعبة ملاهي على ركابها في اله ...
- أم وابنتاها يقدمن مأكولات أردنية بلمسة عصرية في قلب دبي
- -سي إن إن-: بعض الدول الغربية بدأت في تغيير نهجها تجاه العلا ...
- أمريكي يقتل والده أمام أقاربه ويلوذ بالفرار
- الجيش الإسرائيلي يعلن حصيلة قتلاه منذ بدء الحرب
- روسيا.. ابتكار تقنية لتحديد حدود الأورام في الدماغ
- ارتفاع عدد سكان -منطقة الحظر- الإشعاعي بتشيرنوبل الأوكرانية ...
- روسيا.. العلماء يرصدون 8 توهجات شمسية قوية


المزيد.....

- الحزب الشيوعي العراقي.. رسائل وملاحظات / صباح كنجي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية الاعتيادي ل ... / الحزب الشيوعي العراقي
- التقرير السياسي الصادر عن اجتماع اللجنة المركزية للحزب الشيو ... / الحزب الشيوعي العراقي
- المجتمع العراقي والدولة المركزية : الخيار الصعب والضرورة الت ... / ثامر عباس
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 11 - 11 العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 10 - 11- العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 9 - 11 - العهد الجمهوري ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 7 - 11 / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 6 - 11 العراق في العهد ... / كاظم حبيب
- لمحات من عراق القرن العشرين - الكتاب 5 - 11 العهد الملكي 3 / كاظم حبيب


المزيد.....
الصفحة الرئيسية - اليسار ,الديمقراطية, العلمانية والتمدن في العراق - مراد سليمان علو - سؤال وجواب/1